fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“معاوية” ومحمد بن سلمان: إعادة كتابة التاريخ لخدمة السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بثّت قناة MBC مسلسل معاوية في توقيت مدروس، بعد تأجيل امتدّ لأكثر من عامين، وكأن القناة السعودية كانت تنتظر لحظة سياسية أكثر ملاءمة لعرضه، ليبدو المسلسل جزءاً من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إعادة تقديم شخصية معاوية بن أبي سفيان، الحاكم الأموي المؤسّس بوصفه حاكماً مُفعماً بالبطولة والدهاء والحكمة، والبراغماتية السياسية كمحمد بن سلمان نفسه!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عالم الدراما التاريخية، لا يكون الصراع محصوراً في أروقة القصور القديمة، أو على ظهور الخيول المسرعة في المعارك الملحمية، بل يمتدّ إلى غرف الكتابة، وغرف المونتاج، ومنصّات البثّ العملاقة، حيث تُعاد صياغة الذاكرة الجمعية وفق روايات مُنتقاة بعناية. مسلسل معاوية، الذي أثار جدلاً واسعاً منذ لحظة الإعلان عنه، لا يشذّ عن هذه القاعدة، بل يكرّسها، مقدماً نموذجاً متكاملاً لكيفية استخدام الدراما في إعادة تدوير السرديات التاريخية، بترتيب جديد للأبطال والأشرار، بما يخدم مصالح سياسية راهنة.

يأتي المسلسل في توقيت مدروس، بعد تأجيل امتدّ لأكثر من عامين، وكأنه كان ينتظر لحظة سياسية أكثر ملاءمة لعرضه. حين قرّرت مجموعة MBC السعودية بثّه خلال شهر رمضان 2025، لم يكن ذلك مجرد اختيار برامجي عادي، بل جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إعادة تقديم شخصية معاوية بن أبي سفيان، الحاكم الأموي المؤسّس، على نحو جديد، مُفعم بالبطولة والدهاء والحكمة. ورغم أن المنتجين حرصوا على تأطير العمل بوصفه “إعادة قراءة موضوعية لفترة مفصلية في التاريخ الإسلامي”، إلا أن كل تفصيلة، بدءاً من العبارات المستخدمة في الترويج له، وصولاً إلى الميزانية الضخمة التي تجاوزت مائة مليون دولار، تُشير إلى أنه ليس مجرد عمل درامي، بل مشروع سياسي بامتياز.

في الإعلان الرسمي للمسلسل، يرد وصفه على النحو التالي: “عهداً اختلف حوله المؤرّخون، وامبراطورية امتدّت من الشرق إلى الغرب، وحُكماً جمع بين الدهاء والقوّة، وملحمة سياسية كتبت تاريخاً لا يُنسى”. هذه الصياغة، رغم ادّعائها الحياد، تكشف في حدّ ذاتها عن ملامح التوظيف الأيديولوجي للعمل، إذ تحوّل معاوية من شخصية تاريخية جدلية، إلى بطل صاغ التاريخ بقبضة من حديد وحكمة نادرة.

لكن لماذا معاوية بالذات؟ ولماذا الآن؟

تضخيم دور معاوية وتلميع صورته

ليس في الدراما التاريخية ما هو بريء تماماً، فكل اختيار روائي يعكس تصوّراً معيّناً عن الماضي، وكل مشهد يحمل في طيّاته توجيهاً مقصوداً للمتلقّي. في مسلسل معاوية، تتجلّى هذه الديناميكية بوضوح في واحدة من أبرز محاور التزييف: تقديم إسلام معاوية على نحو مُغاير لما تؤكّده المصادر التاريخية.

في الحلقات الأولى، يتبنّى المسلسل رواية ضعيفة تاريخياً، تُصوّر معاوية باعتباره مسلماً قبل فتح مكة، بل تُضيف بعداً درامياً جديداً، هو حوار بينه وبين والديه، يُظهره في موقف الناصح الحريص المتألّم من تأخّر أسرته في اعتناق الإسلام. هذا الطرح ليس مجرد إضافة درامية، بل هو انحياز سردي صريح، يتجاهل ما تُثبته المصادر الإسلامية المعتمدة.

المؤرّخون، بمن فيهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى، يُجمعون على أن إسلام معاوية وقع عام الفتح، حين انضمّ إلى زُمرة الطلقاء الذين أسلموا في ذلك اليوم، سواء بدافع القناعة، أو للتماهي مع الواقع الجديد للمدينة. شمس الدين الذهبي، من جانبه، يذهب أبعد من ذلك، حين يُشكّك في رواية الواقدي التي تزعم أن معاوية أسلم قبل الفتح، متسائلاً: “فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام، فلماذا يتألفّه النبي؟” في إشارة إلى الهبات المالية التي منحها له الرسول عقب غزوة حنين، وهي ممارسات كانت تهدف إلى استمالة قلوب حديثي العهد بالإسلام.

لكن المسلسل لا يتوقّف عند مجرّد تقديم هذه السردية، بل يُهيّئ لها سياقاً درامياً يجعلها تبدو وكأنها “الحقيقة التي أُسيء فهمها تاريخياً”. بإعادة رسم المشهد وفق هذا التصوّر، يصبح معاوية شخصية صامدة في وجه قريش الوثنية، متقدماً بخطوة على محيطه، وليس مجرّد تابع لمسار الأحداث. إنها ليست مجرّد إعادة تمثيل للماضي، بل إعادة إنتاج له، على نحو يخدم بناء صورة أكثر تألّقاً لشخصية المسلسل المحورية.

في سياق أوسع، يمكن اعتبار هذه المعالجة امتداداً لاتّجاه متنامٍ في الدراما العربية، حيث يتمّ توظيف الإنتاجات التاريخية لصياغة هويّات سياسية معاصرة، تتجاوز كونها مجرّد “إعادة قراءة” إلى كونها إعادة تعريف للوعي الجمعي.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها الدراما التاريخية إلى تضخيم أدوار شخصيات معيّنة على حساب أخرى، لكن مسلسل معاوية يأخذ هذه التقنية إلى مستوى جديد، حيث يُعاد رسم دور معاوية في مرحلة الخلافة الراشدة، وكأنه كان أحد صنّاع القرار المركزيين، في حين أن المصادر التاريخية لا تمنحه هذا الموقع.

منذ الحلقات الأولى، يُصوّر المسلسل معاوية وهو يحضر جلسات استراتيجية مع الخليفة أبي بكر الصديق، حيث يُناقش خطط الفتوحات الإسلامية، بل يبدو كشخصية ذات رأي مسموع في القضايا العسكرية الكبرى. هذا التصوير يتناقض تماماً مع الحقائق التاريخية، إذ لم يكن معاوية حينها شخصية محورية في شؤون الدولة، ولم يكن جزءاً من أهل الحلّ والعقد، الذين كانوا يُناقشون السياسات العامة للدولة الإسلامية في تلك الفترة.

الأمر لا يتوقّف عند المشورة السياسية، بل يمتدّ إلى الدور العسكري. في مشاهد عديدة، يظهر معاوية في معركة اليرموك وكأنه أحد قادتها الكبار، يُقاتل على الخطوط الأمامية، يوجّه القوات، ويقود الهجمات الحاسمة. لكن مراجعة المصادر التاريخية تكشف أن معاوية لم يكن من قادة اليرموك، ولم يُعرف عنه دور عسكري بارز في تلك المرحلة. القادة الحقيقيون للمعركة مثل خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجرّاح، وعمرو بن العاص، كانوا هم من أداروا دفّة القتال، بينما لم يظهر اسم معاوية في أي من الروايات الموثوقة حول المعركة.

أما عن دوره الإداري، فإن بروز معاوية لم يبدأ فعلياً إلا في عهد عمر بن الخطاب، وذلك بعد أن تولّى أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاية دمشق، ثم خلفه معاوية بعد وفاته بسبب الطاعون. حتى تلك اللحظة، لم يكن معاوية شخصية مركزية في السياسة الإسلامية، ولم يكن من الأسماء التي شاركت في اتّخاذ قرارات كبرى خلال فترة الخلافة الراشدة.

إذاً، لماذا يسعى المسلسل إلى إعادة تقديمه بهذه الصورة؟

الإجابة تكمن في آلية التلاعب بالتاريخ عبر الدراما: حين يتمّ تضخيم دور شخصية تاريخية في مرحلة مُبكرة، يُصبح من الأسهل إقناع المشاهدين بأنها كانت تمتلك المؤهّلات القيادية قبل وصولها إلى الحُكم. هذه التقنية ليست مجرّد خيار درامي، بل جزء من عملية إعادة بناء صورة معاوية، ليظهر ليس كحاكم جاء إلى السلطة بحُكم الظروف، بل كقائد استثنائي كانت له بصماته منذ الأيام الأولى للإسلام.

هذا التلاعب لا يقتصر على الأبعاد الفردية، بل يخدم مشروعاً سياسياً أوسع: إعادة تأطير التاريخ الإسلامي وفق رؤية تضع معاوية في قلب الأحداث، وتمنحه دوراً قيادياً يُنافس الشخصيات الأخرى التي كانت أكثر تأثيراً في تلك الحقبة.

حين تُعاد كتابة التاريخ: التلاعب بالسرد لصياغة أبطال جدد

لا تقتصر إعادة تشكيل الأحداث التاريخية في مسلسل معاوية على شخصية الحاكم الأموي فحسب، بل تمتدّ إلى عائلته بكاملها، في محاولة لصناعة سُلالة سياسية ذات ماضٍ مشرق، خالٍ من الصراعات التي وثّقتها كتب التاريخ.

إحدى أكثر المبالغات وضوحاً في المسلسل، هي الطريقة التي يُعاد بها تقديم شخصية هند بنت عتبة، والدة معاوية، التي طالما ارتبط اسمها بعدائها المُبكر للإسلام. في الحلقات التي تتناول الفتح الإسلامي، تظهر هند وكأنها مُناصرة للإسلام منذ اللحظات الأولى، بل تتقدّم الصفوف في معركة اليرموك، قبل أن تنتهي حياتها بـ”الاستشهاد” في ساحة المعركة، وفقاً لما يطرحه المسلسل.

لكن هذه الرواية تتجاهل حقائق تاريخية ثابتة: هند دخلت الإسلام مُكرهة – لم تعتنق الإسلام طواعية، بل كانت من الطلقاء الذين أُجبروا على قبوله بعد فتح مكة في عام 8 هـجري، كما أن وفاتها سبقت معركة اليرموك – المؤرّخون يؤكّدون أنها توفيت في عام 14 هـجري، أي قبل اندلاع المعركة بعام كامل، وكذلك دورها في معركة أُحُد لم يُمحَ من التاريخ، من أكثر المشاهد التاريخية شُهرةً ذلك الذي يوثّق تمثيل هند بجسد حمزة بن عبد المطلب، عم النبي، يوم أُحُد. ورغم أن الروايات تختلف حول دورها في الحدث، إلا أن تصويرها كبطلة إسلامية في المسلسل يتجاهل هذا الماضي تماماً.

هذا التلميع لا يقتصر على هند وحدها، بل يبدو وكأنه مشروع متكامل لإعادة رسم صورة عائلة أبي سفيان، بحيث تُقدَّم كبيت قيادي خدم الإسلام منذ أيامه الأولى، وهو ما يُناقض الروايات التاريخية التي تؤكّد معارضة هذه العائلة للدعوة الإسلامية في سنواتها الأولى.

على الطرف الآخر من هذه السردية، يقف الإمام علي بن أبي طالب، أحد أعمدة التاريخ الإسلامي، ضحيةً لعملية إعادة سرد ممنهجة، تقلّص دوره، وتُغيّب الكثير من حقائقه لصالح إبراز معاوية كندٍ مساوٍ له.

رغم أن الدور أُسند إلى الممثل الأردني إيّاد نصار، إلا أن التناول الدرامي لشخصية علي يبدو باهتاً، خالياً من العمق الذي يتناسب مع مكانته التاريخية، وكأن المسلسل يسعى إلى تقديمه كشخصية هامشية في صراع سياسي، بدلاً من كونه أحد أقطاب الإسلام الأوائل، والخليفة الشرعي الذي بايعه المسلمون بعد مقتل عثمان.

يتجاهل المسلسل إسلام الإمام علي المُبكر ومكانته القريبة من النبي، ولا يُظهر بوضوح أنه كان أول الصبيان إسلاماً، وأنه تربّى في بيت النبي، ما جعله أحد أقرب الناس إليه على المستويين العاطفي والسياسي، وكذلك بطولاته العسكرية، رغم أنه كان قائداً أساسياً في معارك كبرى مثل بدر وأُحُد والخندق وخيبر، والمسلسل لا يُبرز هذا الجانب بالشكل الذي يجعله في مكانته العسكرية الفعلية، مقابل المبالغة في دور معاوية في الحروب، وربما التجاهل الأهمّ هو شرعيته كخليفة مُبايَع. المسلسل يُقدّم النزاع بينه وبين معاوية وكأنه مجرّد صراع سلطة، متجاهلاً أن علياً كان الخليفة الراشد الشرعي، بينما كان معاوية والياً خرج عليه ورفض مبايعته بحجّة المطالبة بدم عثمان، وهو ادّعاء لم يكن يستند إلى أساس شرعي قوي.

هذه التحيّزات ليست مجرد تفاصيل عابرة في حبكة درامية، بل تندرج ضمن رؤية سردية متعمّدة، تُعيد ترتيب الشخصيات والأحداث لتُناسب رواية معيّنة للتاريخ، حيث يُبرَز معاوية كقائد استثنائي، بينما يُقلَّص دور الإمام علي، أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ الإسلامي، إلى مجرّد خصم سياسي.

حين يتمّ التلاعب بالتاريخ بهذه الطريقة، فإن الهدف لا يكون مجرّد تقديم قصّة مشوّقة، بل التأثير في وعي المشاهدين، وإعادة صياغة مفاهيمهم حول شخصيات محورية في التراث الإسلامي. ما نشهده في معاوية ليس مجرّد دراما تاريخية، بل مشروع أيديولوجي مُحكم، يُعيد تشكيل صورة الماضي، ليخدم تصوّرات الحاضر.

التفاصيل تفضح نوايا السرد

لا يقتصر التحيّز في معاوية على إعادة ترتيب الوقائع التاريخية فحسب، بل يمتدّ إلى مستويات أكثر دقّة، تكشف عن أن الهدف الأساسي لم يكن إنتاج دراما تاريخية مُتماسكة، بل تمرير خطاب سياسي مغلّف بسردية درامية فاخرة. رغم الميزانية الضخمة التي بلغت مائة مليون دولار، وقع المسلسل في سلسلة من الأخطاء الفنية والتاريخية الفادحة، التي لا تبرّرها سوى اللامبالاة بالدقّة مقابل التركيز على الرسالة المرسومة مسبقاً.

حين تُحاول إنتاج عمل تاريخي بهذا الحجم، فإن التفاصيل البصرية— الأزياء، العمارة، الأدوات اليومية— تلعب دوراً جوهرياً في خلق الإيهام بالزمن الصحيح. لكن المسلسل فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، إذ اعتمد على ديكورات وأزياء تعود للعصر المملوكي، أي بعد زمن معاوية بما لا يقلّ عن خمسة قرون. يمكن ملاحظة هذا الخطأ بوضوح في تصميم العمائم والملابس، التي تشبه الزي المملوكي أكثر من أزياء القرن الأول الهجري.

أما الأخطاء الأكثر وضوحاً، فتظهر في الإكسسوارات المستخدمة، مثل الورق الذي تُكتب عليه الرسائل في المسلسل. فقد استعان صناع العمل بالورق السمرقندي، وهو نوع لم يظهر إلا في القرن الثالث الهجري، في حين أن الفترة التي يتناولها المسلسل كانت تعتمد بشكل أساسي على الرق (جلود الحيوانات المدبوغة) أو اللخاف (ألواح الحجارة). هذه التفاصيل قد تبدو هامشية للمشاهد العادي، لكنها بالنسبة إلى المؤرّخين وعشّاق الدقّة التاريخية، تكشف عن استسهال واضح في التعامل مع الحقبة الزمنية.

الأخطاء لم تتوقّف عند الجانب البصري، بل وصلت إلى الحوار، حيث جاءت اللغة المُستخدمة في المسلسل أقرب إلى العربية الحديثة، منها إلى العربية الفصحى المُستخدمة في صدر الإسلام. ومن أكثر العبارات التي أثارت سخرية المتابعين، جملة تنطقها هند بنت عتبة وهي تحتضن رضيعها معاوية، قائلة: “أنت أعظم إنجازاتي!”

هذه العبارة تبدو وكأنها مُقتبسة من فيلم أميركي معاصر عن رجل أعمال ناجح، وليس من امرأة عربية تعيش في القرن الأول الهجري. اللغة في تلك الحقبة كانت أكثر فصاحة وتعقيداً، ولم تكن تعتمد على التعبيرات المباشرة التي تحمل دلالات حديثة عن الإنجاز والتقدير الذاتي. هذا الانزلاق اللغوي يكشف عن فشل في استيعاب السياق التاريخي، أو ربما عدم اكتراث بمدى توافق الحوار مع الحقبة الزمنية، طالما أن المشهد يخدم الغرض الدرامي المطلوب.

واحدة من أكثر المشكلات البنيوية في المسلسل هي التسارع غير المبرر في الأحداث، الذي يُعطي الانطباع بأن الهدف ليس تقديم سرد متوازن، بل الوصول إلى نقاط معينة بأسرع طريقة ممكنة. الانتقال من مرحلة إلى أخرى لا يخضع لمنطق درامي مُتماسك، بل يبدو وكأنه “تخطٍّ” متعمّد لبعض المراحل التاريخية، حتى لا تتعارض مع السردية التي يُحاول المسلسل تثبيتها.

هذا الأسلوب لا يسمح للمشاهد بفهم التطورات السياسية والاجتماعية بشكل متدرّج، بل يضعه أمام رواية جاهزة من دون مساحة للتفكير النقدي. فمثلاً، يتمّ تصوير صعود معاوية وكأنه نتيجة طبيعية لحنكته السياسية، من دون الإشارة إلى السياقات الفعلية التي جعلته يصل إلى السلطة، ومنها استغلاله حادثة مقتل عثمان بن عفان كذريعة للتمرّد على خلافة الإمام علي.

ما يكشفه تحليل هذه الأخطاء الفنية والتاريخية، هو أن معاوية لم يكن مجرد مسلسل تاريخي يُعاني من بعض الهفوات، بل كان مشروعاً محسوباً بعناية، يهدف إلى إعادة تشكيل صورة معاوية وعائلته، ولو على حساب الحقائق. التلاعب لم يقتصر على الأحداث الكبرى، بل تسلّل إلى التفاصيل الدقيقة، في محاولة لخلق عالم درامي يُغذّي سردية معينة، من دون أن يُترك مجال للمشاهِد للتساؤل أو التشكيك.

في النهاية، حين يكون العمل الفنّي منحازاً إلى هذا الحدّ، فإن السؤال لا يصبح فقط عن مدى نجاحه كدراما، بل عن تأثيره في إعادة صياغة التاريخ في وعي المشاهدين، وما إذا كان هذا النوع من الإنتاجات سيصبح وسيلة دائمة لتوجيه الذاكرة الجماعية وفق اعتبارات سياسية لا علاقة لها بالحقيقة.

التاريخ كأداة للشرعية: “معاوية” في خدمة مشروع سياسي معاصر

قديماً كانت السُلالات الحاكمة تلجأ إلى الشعراء والمؤرّخين الرسميين، لتدوين نسخ خاصة من التاريخ تمنحها شرعية سياسية. أما اليوم، فقد أصبحت المسلسلات التاريخية جزءاً من هذه المعادلة، حيث تُستخدَم لإعادة تعريف الماضي بما يخدم خطاب السلطة في الحاضر. مسلسل معاوية ليس مجرّد دراما ضخمة الإنتاج، بل هو امتداد لاستراتيجية سياسية تهدف إلى إعادة صياغة التاريخ الإسلامي، بما ينسجم مع التحوّلات الجذرية التي تشهدها المملكة العربية السعودية.

المقاربة التي يتبنّاها المسلسل في تصوير معاوية على أنه مهندس دولة قوية، تتجاوز حدود العمل الدرامي، لتلتقي مع السردية السياسية السعودية الحديثة، التي تسعى إلى إضفاء طابع الحتمية التاريخية على نموذج الحُكم الجديد في المملكة.

يبرز هنا تشابه لافت بين معاوية وولي العهد السعودي محمد بن سلمان: فكلاهما أعاد تشكيل الحُكم. معاوية أنهى نظام الشورى التقليدي الذي كان معمولاً به في عصر الخلفاء الراشدين، وأسّس نموذج الخلافة الوراثية، وهو ما كان بمثابة تحوّل جوهري في النظام السياسي الإسلامي، وبالمثل، قام محمد بن سلمان بإعادة هيكلة النظام السعودي، متجاوزاً الترتيبات التقليدية داخل العائلة الحاكمة، ليصبح صاحب القرار المركزي في الحكم.

في البراغماتية السياسية، يُوصف معاوية بأنه كان سياسياً بارعاً أكثر منه رجل دين، واستطاع استمالة خصومه عبر أساليب المكر والدهاء. أما محمد بن سلمان، فيقدّم نفسه على أنه رجل براغماتي يسعى إلى تحديث المملكة وإعادة صياغة علاقاتها الإقليمية وفق معادلات جديدة.

السيطرة على السردية التاريخية

استخدم معاوية الوعّاظ والمؤرّخين لصياغة صورة مشرقة عن حُكمه، تماماً كما تسعى السعودية اليوم، إلى إعادة توجيه الخطاب الديني والتاريخي عبر الإعلام والدراما، بما ينسجم مع رؤية 2030. في هذا السياق، يبدو أن معاوية ليس مجرّد سردية عن الماضي، بل هو محاولة لإعادة تعريف الحاضر، بحيث يصبح النظام السعودي الجديد امتداداً طبيعياً لمسيرة تاريخية متجذّرة.

يتناول المسلسل إحدى أكثر الفترات حساسية في التاريخ الإسلامي— تلك التي شهدت الانقسام العميق بين السنّة والشيعة عقب مقتل الإمام علي بن أبي طالب. هذا الانقسام لم يعد مجرّد قضية تاريخية، بل بات جزءاً من المعادلة الجيوسياسية للصراع بين السعودية وإيران، حيث يمثّل كل منهما قطباً لمذهب ديني رئيسي.

في هذا السياق، يبدو أن معاوية يخدم مشروعاً أوسع لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي، وفق منظور يعزّز الهويّة السنّية الرسمية للمملكة، ويواجه الخطاب الشيعي الذي ينظر إلى معاوية باعتباره شخصية سلبية مسؤولة عن الانحراف المُبكر في مسار الحكم الإسلامي.

يعكس المسلسل هذه الاستراتيجية من خلال تمجيد معاوية كقائد حكيم، بدلاً من تقديمه كحاكم سياسي محنّك لكنه مثير للجدل، يُقدَّم المسلسل معاوية في صورة مثالية، متجاهلاً الصراعات التي خاضها ضد الإمام علي وتداعياتها على التاريخ الإسلامي. وتهميش الإمام علي  كما ناقشنا سابقاً، يتعمّد المسلسل التقليل من أهمية الإمام علي، رغم كونه شخصية محورية في الصراع، وهو ما يعكس محاولة لمواءمة السردية مع الخطاب السياسي السنّي السائد. وكذلك الخطاب المضادّ لإيران من خلال تقديم معاوية بهذه الصورة الإيجابية، يسعى المسلسل إلى مواجهة الرواية الإيرانية الرسمية التي تعتبره رمزاً للانحراف عن الإسلام الحقيقي، مقابل تمجيدها لعلي وأهل البيت.

لم يكن مفاجئاً أن يُثير المسلسل ردود فعل غاضبة في الأوساط الشيعية، خاصّة في العراق وإيران ولبنان، حيث رأى كثيرون أنه ليس مجرّد عمل درامي، بل جزء من حرب سرديات تهدف إلى “تبييض” صورة معاوية، وإعادة رسم التاريخ بما يخدم مصالح السعودية.

في المقابل، دافعت بعض الأوساط الإعلامية الخليجية عن العمل، باعتباره محاولة “لإنصاف” شخصية تاريخية تمّ تشويهها في الروايات الشيعية. هذا الجدل يكشف عن أن معاوية لم يكن عملاً فنياً محايداً، بل جزء من معركة أكبر حول من يملك الحقّ في كتابة التاريخ الإسلامي.

في النهاية، لا يمكن فصل معاوية عن التحوّلات السياسية الكبرى التي تشهدها السعودية. فمن خلال التحكّم في السردية التاريخية، تُحاول المملكة إعادة تعريف الهوية الإسلامية الرسمية، بما يتماشى مع رؤيتها السياسية الجديدة.

هذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها توظيف التاريخ لخدمة الحاضر، لكنها واحدة من أكثر المحاولات وضوحاً وتكلفة. وفي ظلّ استمرار التحوّلات السياسية في المنطقة، سيبقى السؤال مفتوحاً: إلى أي مدى يمكن للدراما أن تُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، ومتى يصبح التاريخ أداة في يد السلطة، أكثر منه مرآة للحقيقة؟

يقف مسلسل معاوية كنموذج صارخ للعلاقة المعقدة بين الدراما التاريخية والسياسة المعاصرة. فرغم المحاولة الإنتاجية الضخمة والإخراج الملحمي، يبقى العمل محمّلاً بإشكاليات تاريخية وفنية وأخلاقية متعدّدة، تجعله أقرب إلى الدعاية السياسية منه إلى الدراما التاريخية الموضوعية.

يكشف تزييف سيرة الإمام علي مقابل تلميع صورة معاوية، عن رغبة سعودية في إعادة كتابة التاريخ وتشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي، بما يخدم رؤية محمد بن سلمان للمملكة وللمنطقة، لكن هذه المحاولة تصطدم بمعارضة واسعة من شريحة كبيرة من المثقّفين والباحثين الذين يرون فيها تزييفاً للتاريخ الإسلامي.

في النهاية، يُثير مسلسل “معاوية” سؤالاً محورياً حول حدود استخدام الفن والدراما لإعادة تشكيل التاريخ، وما إذا كان من الممكن خلق سردية جديدة مقبولة من خلال عمل درامي، مهما بلغت ضخامة ميزانيته أو براعة إنتاجه، عندما يكون الهدف الأساسي منه هو تمرير رسالة سياسية معاصرة، وليس تقديم معالجة فنية أمينة لواقع تاريخي معقّد ومُثير للجدل.

22.03.2025
زمن القراءة: 13 minutes

بثّت قناة MBC مسلسل معاوية في توقيت مدروس، بعد تأجيل امتدّ لأكثر من عامين، وكأن القناة السعودية كانت تنتظر لحظة سياسية أكثر ملاءمة لعرضه، ليبدو المسلسل جزءاً من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إعادة تقديم شخصية معاوية بن أبي سفيان، الحاكم الأموي المؤسّس بوصفه حاكماً مُفعماً بالبطولة والدهاء والحكمة، والبراغماتية السياسية كمحمد بن سلمان نفسه!

في عالم الدراما التاريخية، لا يكون الصراع محصوراً في أروقة القصور القديمة، أو على ظهور الخيول المسرعة في المعارك الملحمية، بل يمتدّ إلى غرف الكتابة، وغرف المونتاج، ومنصّات البثّ العملاقة، حيث تُعاد صياغة الذاكرة الجمعية وفق روايات مُنتقاة بعناية. مسلسل معاوية، الذي أثار جدلاً واسعاً منذ لحظة الإعلان عنه، لا يشذّ عن هذه القاعدة، بل يكرّسها، مقدماً نموذجاً متكاملاً لكيفية استخدام الدراما في إعادة تدوير السرديات التاريخية، بترتيب جديد للأبطال والأشرار، بما يخدم مصالح سياسية راهنة.

يأتي المسلسل في توقيت مدروس، بعد تأجيل امتدّ لأكثر من عامين، وكأنه كان ينتظر لحظة سياسية أكثر ملاءمة لعرضه. حين قرّرت مجموعة MBC السعودية بثّه خلال شهر رمضان 2025، لم يكن ذلك مجرد اختيار برامجي عادي، بل جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إعادة تقديم شخصية معاوية بن أبي سفيان، الحاكم الأموي المؤسّس، على نحو جديد، مُفعم بالبطولة والدهاء والحكمة. ورغم أن المنتجين حرصوا على تأطير العمل بوصفه “إعادة قراءة موضوعية لفترة مفصلية في التاريخ الإسلامي”، إلا أن كل تفصيلة، بدءاً من العبارات المستخدمة في الترويج له، وصولاً إلى الميزانية الضخمة التي تجاوزت مائة مليون دولار، تُشير إلى أنه ليس مجرد عمل درامي، بل مشروع سياسي بامتياز.

في الإعلان الرسمي للمسلسل، يرد وصفه على النحو التالي: “عهداً اختلف حوله المؤرّخون، وامبراطورية امتدّت من الشرق إلى الغرب، وحُكماً جمع بين الدهاء والقوّة، وملحمة سياسية كتبت تاريخاً لا يُنسى”. هذه الصياغة، رغم ادّعائها الحياد، تكشف في حدّ ذاتها عن ملامح التوظيف الأيديولوجي للعمل، إذ تحوّل معاوية من شخصية تاريخية جدلية، إلى بطل صاغ التاريخ بقبضة من حديد وحكمة نادرة.

لكن لماذا معاوية بالذات؟ ولماذا الآن؟

تضخيم دور معاوية وتلميع صورته

ليس في الدراما التاريخية ما هو بريء تماماً، فكل اختيار روائي يعكس تصوّراً معيّناً عن الماضي، وكل مشهد يحمل في طيّاته توجيهاً مقصوداً للمتلقّي. في مسلسل معاوية، تتجلّى هذه الديناميكية بوضوح في واحدة من أبرز محاور التزييف: تقديم إسلام معاوية على نحو مُغاير لما تؤكّده المصادر التاريخية.

في الحلقات الأولى، يتبنّى المسلسل رواية ضعيفة تاريخياً، تُصوّر معاوية باعتباره مسلماً قبل فتح مكة، بل تُضيف بعداً درامياً جديداً، هو حوار بينه وبين والديه، يُظهره في موقف الناصح الحريص المتألّم من تأخّر أسرته في اعتناق الإسلام. هذا الطرح ليس مجرد إضافة درامية، بل هو انحياز سردي صريح، يتجاهل ما تُثبته المصادر الإسلامية المعتمدة.

المؤرّخون، بمن فيهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى، يُجمعون على أن إسلام معاوية وقع عام الفتح، حين انضمّ إلى زُمرة الطلقاء الذين أسلموا في ذلك اليوم، سواء بدافع القناعة، أو للتماهي مع الواقع الجديد للمدينة. شمس الدين الذهبي، من جانبه، يذهب أبعد من ذلك، حين يُشكّك في رواية الواقدي التي تزعم أن معاوية أسلم قبل الفتح، متسائلاً: “فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام، فلماذا يتألفّه النبي؟” في إشارة إلى الهبات المالية التي منحها له الرسول عقب غزوة حنين، وهي ممارسات كانت تهدف إلى استمالة قلوب حديثي العهد بالإسلام.

لكن المسلسل لا يتوقّف عند مجرّد تقديم هذه السردية، بل يُهيّئ لها سياقاً درامياً يجعلها تبدو وكأنها “الحقيقة التي أُسيء فهمها تاريخياً”. بإعادة رسم المشهد وفق هذا التصوّر، يصبح معاوية شخصية صامدة في وجه قريش الوثنية، متقدماً بخطوة على محيطه، وليس مجرّد تابع لمسار الأحداث. إنها ليست مجرّد إعادة تمثيل للماضي، بل إعادة إنتاج له، على نحو يخدم بناء صورة أكثر تألّقاً لشخصية المسلسل المحورية.

في سياق أوسع، يمكن اعتبار هذه المعالجة امتداداً لاتّجاه متنامٍ في الدراما العربية، حيث يتمّ توظيف الإنتاجات التاريخية لصياغة هويّات سياسية معاصرة، تتجاوز كونها مجرّد “إعادة قراءة” إلى كونها إعادة تعريف للوعي الجمعي.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها الدراما التاريخية إلى تضخيم أدوار شخصيات معيّنة على حساب أخرى، لكن مسلسل معاوية يأخذ هذه التقنية إلى مستوى جديد، حيث يُعاد رسم دور معاوية في مرحلة الخلافة الراشدة، وكأنه كان أحد صنّاع القرار المركزيين، في حين أن المصادر التاريخية لا تمنحه هذا الموقع.

منذ الحلقات الأولى، يُصوّر المسلسل معاوية وهو يحضر جلسات استراتيجية مع الخليفة أبي بكر الصديق، حيث يُناقش خطط الفتوحات الإسلامية، بل يبدو كشخصية ذات رأي مسموع في القضايا العسكرية الكبرى. هذا التصوير يتناقض تماماً مع الحقائق التاريخية، إذ لم يكن معاوية حينها شخصية محورية في شؤون الدولة، ولم يكن جزءاً من أهل الحلّ والعقد، الذين كانوا يُناقشون السياسات العامة للدولة الإسلامية في تلك الفترة.

الأمر لا يتوقّف عند المشورة السياسية، بل يمتدّ إلى الدور العسكري. في مشاهد عديدة، يظهر معاوية في معركة اليرموك وكأنه أحد قادتها الكبار، يُقاتل على الخطوط الأمامية، يوجّه القوات، ويقود الهجمات الحاسمة. لكن مراجعة المصادر التاريخية تكشف أن معاوية لم يكن من قادة اليرموك، ولم يُعرف عنه دور عسكري بارز في تلك المرحلة. القادة الحقيقيون للمعركة مثل خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجرّاح، وعمرو بن العاص، كانوا هم من أداروا دفّة القتال، بينما لم يظهر اسم معاوية في أي من الروايات الموثوقة حول المعركة.

أما عن دوره الإداري، فإن بروز معاوية لم يبدأ فعلياً إلا في عهد عمر بن الخطاب، وذلك بعد أن تولّى أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاية دمشق، ثم خلفه معاوية بعد وفاته بسبب الطاعون. حتى تلك اللحظة، لم يكن معاوية شخصية مركزية في السياسة الإسلامية، ولم يكن من الأسماء التي شاركت في اتّخاذ قرارات كبرى خلال فترة الخلافة الراشدة.

إذاً، لماذا يسعى المسلسل إلى إعادة تقديمه بهذه الصورة؟

الإجابة تكمن في آلية التلاعب بالتاريخ عبر الدراما: حين يتمّ تضخيم دور شخصية تاريخية في مرحلة مُبكرة، يُصبح من الأسهل إقناع المشاهدين بأنها كانت تمتلك المؤهّلات القيادية قبل وصولها إلى الحُكم. هذه التقنية ليست مجرّد خيار درامي، بل جزء من عملية إعادة بناء صورة معاوية، ليظهر ليس كحاكم جاء إلى السلطة بحُكم الظروف، بل كقائد استثنائي كانت له بصماته منذ الأيام الأولى للإسلام.

هذا التلاعب لا يقتصر على الأبعاد الفردية، بل يخدم مشروعاً سياسياً أوسع: إعادة تأطير التاريخ الإسلامي وفق رؤية تضع معاوية في قلب الأحداث، وتمنحه دوراً قيادياً يُنافس الشخصيات الأخرى التي كانت أكثر تأثيراً في تلك الحقبة.

حين تُعاد كتابة التاريخ: التلاعب بالسرد لصياغة أبطال جدد

لا تقتصر إعادة تشكيل الأحداث التاريخية في مسلسل معاوية على شخصية الحاكم الأموي فحسب، بل تمتدّ إلى عائلته بكاملها، في محاولة لصناعة سُلالة سياسية ذات ماضٍ مشرق، خالٍ من الصراعات التي وثّقتها كتب التاريخ.

إحدى أكثر المبالغات وضوحاً في المسلسل، هي الطريقة التي يُعاد بها تقديم شخصية هند بنت عتبة، والدة معاوية، التي طالما ارتبط اسمها بعدائها المُبكر للإسلام. في الحلقات التي تتناول الفتح الإسلامي، تظهر هند وكأنها مُناصرة للإسلام منذ اللحظات الأولى، بل تتقدّم الصفوف في معركة اليرموك، قبل أن تنتهي حياتها بـ”الاستشهاد” في ساحة المعركة، وفقاً لما يطرحه المسلسل.

لكن هذه الرواية تتجاهل حقائق تاريخية ثابتة: هند دخلت الإسلام مُكرهة – لم تعتنق الإسلام طواعية، بل كانت من الطلقاء الذين أُجبروا على قبوله بعد فتح مكة في عام 8 هـجري، كما أن وفاتها سبقت معركة اليرموك – المؤرّخون يؤكّدون أنها توفيت في عام 14 هـجري، أي قبل اندلاع المعركة بعام كامل، وكذلك دورها في معركة أُحُد لم يُمحَ من التاريخ، من أكثر المشاهد التاريخية شُهرةً ذلك الذي يوثّق تمثيل هند بجسد حمزة بن عبد المطلب، عم النبي، يوم أُحُد. ورغم أن الروايات تختلف حول دورها في الحدث، إلا أن تصويرها كبطلة إسلامية في المسلسل يتجاهل هذا الماضي تماماً.

هذا التلميع لا يقتصر على هند وحدها، بل يبدو وكأنه مشروع متكامل لإعادة رسم صورة عائلة أبي سفيان، بحيث تُقدَّم كبيت قيادي خدم الإسلام منذ أيامه الأولى، وهو ما يُناقض الروايات التاريخية التي تؤكّد معارضة هذه العائلة للدعوة الإسلامية في سنواتها الأولى.

على الطرف الآخر من هذه السردية، يقف الإمام علي بن أبي طالب، أحد أعمدة التاريخ الإسلامي، ضحيةً لعملية إعادة سرد ممنهجة، تقلّص دوره، وتُغيّب الكثير من حقائقه لصالح إبراز معاوية كندٍ مساوٍ له.

رغم أن الدور أُسند إلى الممثل الأردني إيّاد نصار، إلا أن التناول الدرامي لشخصية علي يبدو باهتاً، خالياً من العمق الذي يتناسب مع مكانته التاريخية، وكأن المسلسل يسعى إلى تقديمه كشخصية هامشية في صراع سياسي، بدلاً من كونه أحد أقطاب الإسلام الأوائل، والخليفة الشرعي الذي بايعه المسلمون بعد مقتل عثمان.

يتجاهل المسلسل إسلام الإمام علي المُبكر ومكانته القريبة من النبي، ولا يُظهر بوضوح أنه كان أول الصبيان إسلاماً، وأنه تربّى في بيت النبي، ما جعله أحد أقرب الناس إليه على المستويين العاطفي والسياسي، وكذلك بطولاته العسكرية، رغم أنه كان قائداً أساسياً في معارك كبرى مثل بدر وأُحُد والخندق وخيبر، والمسلسل لا يُبرز هذا الجانب بالشكل الذي يجعله في مكانته العسكرية الفعلية، مقابل المبالغة في دور معاوية في الحروب، وربما التجاهل الأهمّ هو شرعيته كخليفة مُبايَع. المسلسل يُقدّم النزاع بينه وبين معاوية وكأنه مجرّد صراع سلطة، متجاهلاً أن علياً كان الخليفة الراشد الشرعي، بينما كان معاوية والياً خرج عليه ورفض مبايعته بحجّة المطالبة بدم عثمان، وهو ادّعاء لم يكن يستند إلى أساس شرعي قوي.

هذه التحيّزات ليست مجرد تفاصيل عابرة في حبكة درامية، بل تندرج ضمن رؤية سردية متعمّدة، تُعيد ترتيب الشخصيات والأحداث لتُناسب رواية معيّنة للتاريخ، حيث يُبرَز معاوية كقائد استثنائي، بينما يُقلَّص دور الإمام علي، أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ الإسلامي، إلى مجرّد خصم سياسي.

حين يتمّ التلاعب بالتاريخ بهذه الطريقة، فإن الهدف لا يكون مجرّد تقديم قصّة مشوّقة، بل التأثير في وعي المشاهدين، وإعادة صياغة مفاهيمهم حول شخصيات محورية في التراث الإسلامي. ما نشهده في معاوية ليس مجرّد دراما تاريخية، بل مشروع أيديولوجي مُحكم، يُعيد تشكيل صورة الماضي، ليخدم تصوّرات الحاضر.

التفاصيل تفضح نوايا السرد

لا يقتصر التحيّز في معاوية على إعادة ترتيب الوقائع التاريخية فحسب، بل يمتدّ إلى مستويات أكثر دقّة، تكشف عن أن الهدف الأساسي لم يكن إنتاج دراما تاريخية مُتماسكة، بل تمرير خطاب سياسي مغلّف بسردية درامية فاخرة. رغم الميزانية الضخمة التي بلغت مائة مليون دولار، وقع المسلسل في سلسلة من الأخطاء الفنية والتاريخية الفادحة، التي لا تبرّرها سوى اللامبالاة بالدقّة مقابل التركيز على الرسالة المرسومة مسبقاً.

حين تُحاول إنتاج عمل تاريخي بهذا الحجم، فإن التفاصيل البصرية— الأزياء، العمارة، الأدوات اليومية— تلعب دوراً جوهرياً في خلق الإيهام بالزمن الصحيح. لكن المسلسل فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، إذ اعتمد على ديكورات وأزياء تعود للعصر المملوكي، أي بعد زمن معاوية بما لا يقلّ عن خمسة قرون. يمكن ملاحظة هذا الخطأ بوضوح في تصميم العمائم والملابس، التي تشبه الزي المملوكي أكثر من أزياء القرن الأول الهجري.

أما الأخطاء الأكثر وضوحاً، فتظهر في الإكسسوارات المستخدمة، مثل الورق الذي تُكتب عليه الرسائل في المسلسل. فقد استعان صناع العمل بالورق السمرقندي، وهو نوع لم يظهر إلا في القرن الثالث الهجري، في حين أن الفترة التي يتناولها المسلسل كانت تعتمد بشكل أساسي على الرق (جلود الحيوانات المدبوغة) أو اللخاف (ألواح الحجارة). هذه التفاصيل قد تبدو هامشية للمشاهد العادي، لكنها بالنسبة إلى المؤرّخين وعشّاق الدقّة التاريخية، تكشف عن استسهال واضح في التعامل مع الحقبة الزمنية.

الأخطاء لم تتوقّف عند الجانب البصري، بل وصلت إلى الحوار، حيث جاءت اللغة المُستخدمة في المسلسل أقرب إلى العربية الحديثة، منها إلى العربية الفصحى المُستخدمة في صدر الإسلام. ومن أكثر العبارات التي أثارت سخرية المتابعين، جملة تنطقها هند بنت عتبة وهي تحتضن رضيعها معاوية، قائلة: “أنت أعظم إنجازاتي!”

هذه العبارة تبدو وكأنها مُقتبسة من فيلم أميركي معاصر عن رجل أعمال ناجح، وليس من امرأة عربية تعيش في القرن الأول الهجري. اللغة في تلك الحقبة كانت أكثر فصاحة وتعقيداً، ولم تكن تعتمد على التعبيرات المباشرة التي تحمل دلالات حديثة عن الإنجاز والتقدير الذاتي. هذا الانزلاق اللغوي يكشف عن فشل في استيعاب السياق التاريخي، أو ربما عدم اكتراث بمدى توافق الحوار مع الحقبة الزمنية، طالما أن المشهد يخدم الغرض الدرامي المطلوب.

واحدة من أكثر المشكلات البنيوية في المسلسل هي التسارع غير المبرر في الأحداث، الذي يُعطي الانطباع بأن الهدف ليس تقديم سرد متوازن، بل الوصول إلى نقاط معينة بأسرع طريقة ممكنة. الانتقال من مرحلة إلى أخرى لا يخضع لمنطق درامي مُتماسك، بل يبدو وكأنه “تخطٍّ” متعمّد لبعض المراحل التاريخية، حتى لا تتعارض مع السردية التي يُحاول المسلسل تثبيتها.

هذا الأسلوب لا يسمح للمشاهد بفهم التطورات السياسية والاجتماعية بشكل متدرّج، بل يضعه أمام رواية جاهزة من دون مساحة للتفكير النقدي. فمثلاً، يتمّ تصوير صعود معاوية وكأنه نتيجة طبيعية لحنكته السياسية، من دون الإشارة إلى السياقات الفعلية التي جعلته يصل إلى السلطة، ومنها استغلاله حادثة مقتل عثمان بن عفان كذريعة للتمرّد على خلافة الإمام علي.

ما يكشفه تحليل هذه الأخطاء الفنية والتاريخية، هو أن معاوية لم يكن مجرد مسلسل تاريخي يُعاني من بعض الهفوات، بل كان مشروعاً محسوباً بعناية، يهدف إلى إعادة تشكيل صورة معاوية وعائلته، ولو على حساب الحقائق. التلاعب لم يقتصر على الأحداث الكبرى، بل تسلّل إلى التفاصيل الدقيقة، في محاولة لخلق عالم درامي يُغذّي سردية معينة، من دون أن يُترك مجال للمشاهِد للتساؤل أو التشكيك.

في النهاية، حين يكون العمل الفنّي منحازاً إلى هذا الحدّ، فإن السؤال لا يصبح فقط عن مدى نجاحه كدراما، بل عن تأثيره في إعادة صياغة التاريخ في وعي المشاهدين، وما إذا كان هذا النوع من الإنتاجات سيصبح وسيلة دائمة لتوجيه الذاكرة الجماعية وفق اعتبارات سياسية لا علاقة لها بالحقيقة.

التاريخ كأداة للشرعية: “معاوية” في خدمة مشروع سياسي معاصر

قديماً كانت السُلالات الحاكمة تلجأ إلى الشعراء والمؤرّخين الرسميين، لتدوين نسخ خاصة من التاريخ تمنحها شرعية سياسية. أما اليوم، فقد أصبحت المسلسلات التاريخية جزءاً من هذه المعادلة، حيث تُستخدَم لإعادة تعريف الماضي بما يخدم خطاب السلطة في الحاضر. مسلسل معاوية ليس مجرّد دراما ضخمة الإنتاج، بل هو امتداد لاستراتيجية سياسية تهدف إلى إعادة صياغة التاريخ الإسلامي، بما ينسجم مع التحوّلات الجذرية التي تشهدها المملكة العربية السعودية.

المقاربة التي يتبنّاها المسلسل في تصوير معاوية على أنه مهندس دولة قوية، تتجاوز حدود العمل الدرامي، لتلتقي مع السردية السياسية السعودية الحديثة، التي تسعى إلى إضفاء طابع الحتمية التاريخية على نموذج الحُكم الجديد في المملكة.

يبرز هنا تشابه لافت بين معاوية وولي العهد السعودي محمد بن سلمان: فكلاهما أعاد تشكيل الحُكم. معاوية أنهى نظام الشورى التقليدي الذي كان معمولاً به في عصر الخلفاء الراشدين، وأسّس نموذج الخلافة الوراثية، وهو ما كان بمثابة تحوّل جوهري في النظام السياسي الإسلامي، وبالمثل، قام محمد بن سلمان بإعادة هيكلة النظام السعودي، متجاوزاً الترتيبات التقليدية داخل العائلة الحاكمة، ليصبح صاحب القرار المركزي في الحكم.

في البراغماتية السياسية، يُوصف معاوية بأنه كان سياسياً بارعاً أكثر منه رجل دين، واستطاع استمالة خصومه عبر أساليب المكر والدهاء. أما محمد بن سلمان، فيقدّم نفسه على أنه رجل براغماتي يسعى إلى تحديث المملكة وإعادة صياغة علاقاتها الإقليمية وفق معادلات جديدة.

السيطرة على السردية التاريخية

استخدم معاوية الوعّاظ والمؤرّخين لصياغة صورة مشرقة عن حُكمه، تماماً كما تسعى السعودية اليوم، إلى إعادة توجيه الخطاب الديني والتاريخي عبر الإعلام والدراما، بما ينسجم مع رؤية 2030. في هذا السياق، يبدو أن معاوية ليس مجرّد سردية عن الماضي، بل هو محاولة لإعادة تعريف الحاضر، بحيث يصبح النظام السعودي الجديد امتداداً طبيعياً لمسيرة تاريخية متجذّرة.

يتناول المسلسل إحدى أكثر الفترات حساسية في التاريخ الإسلامي— تلك التي شهدت الانقسام العميق بين السنّة والشيعة عقب مقتل الإمام علي بن أبي طالب. هذا الانقسام لم يعد مجرّد قضية تاريخية، بل بات جزءاً من المعادلة الجيوسياسية للصراع بين السعودية وإيران، حيث يمثّل كل منهما قطباً لمذهب ديني رئيسي.

في هذا السياق، يبدو أن معاوية يخدم مشروعاً أوسع لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي، وفق منظور يعزّز الهويّة السنّية الرسمية للمملكة، ويواجه الخطاب الشيعي الذي ينظر إلى معاوية باعتباره شخصية سلبية مسؤولة عن الانحراف المُبكر في مسار الحكم الإسلامي.

يعكس المسلسل هذه الاستراتيجية من خلال تمجيد معاوية كقائد حكيم، بدلاً من تقديمه كحاكم سياسي محنّك لكنه مثير للجدل، يُقدَّم المسلسل معاوية في صورة مثالية، متجاهلاً الصراعات التي خاضها ضد الإمام علي وتداعياتها على التاريخ الإسلامي. وتهميش الإمام علي  كما ناقشنا سابقاً، يتعمّد المسلسل التقليل من أهمية الإمام علي، رغم كونه شخصية محورية في الصراع، وهو ما يعكس محاولة لمواءمة السردية مع الخطاب السياسي السنّي السائد. وكذلك الخطاب المضادّ لإيران من خلال تقديم معاوية بهذه الصورة الإيجابية، يسعى المسلسل إلى مواجهة الرواية الإيرانية الرسمية التي تعتبره رمزاً للانحراف عن الإسلام الحقيقي، مقابل تمجيدها لعلي وأهل البيت.

لم يكن مفاجئاً أن يُثير المسلسل ردود فعل غاضبة في الأوساط الشيعية، خاصّة في العراق وإيران ولبنان، حيث رأى كثيرون أنه ليس مجرّد عمل درامي، بل جزء من حرب سرديات تهدف إلى “تبييض” صورة معاوية، وإعادة رسم التاريخ بما يخدم مصالح السعودية.

في المقابل، دافعت بعض الأوساط الإعلامية الخليجية عن العمل، باعتباره محاولة “لإنصاف” شخصية تاريخية تمّ تشويهها في الروايات الشيعية. هذا الجدل يكشف عن أن معاوية لم يكن عملاً فنياً محايداً، بل جزء من معركة أكبر حول من يملك الحقّ في كتابة التاريخ الإسلامي.

في النهاية، لا يمكن فصل معاوية عن التحوّلات السياسية الكبرى التي تشهدها السعودية. فمن خلال التحكّم في السردية التاريخية، تُحاول المملكة إعادة تعريف الهوية الإسلامية الرسمية، بما يتماشى مع رؤيتها السياسية الجديدة.

هذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها توظيف التاريخ لخدمة الحاضر، لكنها واحدة من أكثر المحاولات وضوحاً وتكلفة. وفي ظلّ استمرار التحوّلات السياسية في المنطقة، سيبقى السؤال مفتوحاً: إلى أي مدى يمكن للدراما أن تُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، ومتى يصبح التاريخ أداة في يد السلطة، أكثر منه مرآة للحقيقة؟

يقف مسلسل معاوية كنموذج صارخ للعلاقة المعقدة بين الدراما التاريخية والسياسة المعاصرة. فرغم المحاولة الإنتاجية الضخمة والإخراج الملحمي، يبقى العمل محمّلاً بإشكاليات تاريخية وفنية وأخلاقية متعدّدة، تجعله أقرب إلى الدعاية السياسية منه إلى الدراما التاريخية الموضوعية.

يكشف تزييف سيرة الإمام علي مقابل تلميع صورة معاوية، عن رغبة سعودية في إعادة كتابة التاريخ وتشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي، بما يخدم رؤية محمد بن سلمان للمملكة وللمنطقة، لكن هذه المحاولة تصطدم بمعارضة واسعة من شريحة كبيرة من المثقّفين والباحثين الذين يرون فيها تزييفاً للتاريخ الإسلامي.

في النهاية، يُثير مسلسل “معاوية” سؤالاً محورياً حول حدود استخدام الفن والدراما لإعادة تشكيل التاريخ، وما إذا كان من الممكن خلق سردية جديدة مقبولة من خلال عمل درامي، مهما بلغت ضخامة ميزانيته أو براعة إنتاجه، عندما يكون الهدف الأساسي منه هو تمرير رسالة سياسية معاصرة، وليس تقديم معالجة فنية أمينة لواقع تاريخي معقّد ومُثير للجدل.

22.03.2025
زمن القراءة: 13 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية