يحمل معرض بغداد الدولي للكتاب بدورته الحالية مفارقات عدة تعكس حال العراق اليوم. المعرض يقام في زمن سياسي تسيطر فيه الميليشيات بشكل لافت على الحكومة الجديدة، ويزداد فيه النفوذ الإيراني على مفاصل الحياة السياسية العراقية، بعد الانقلاب على نتائج الانتخابات وضرب الحراك الشعبي الذي انطلق في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 والقضاء على آمال بناء دولة عادلة ومكافحة الفساد. يعود العراق مع تشكيل حكومته الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني بأغلبية ساحقة لحلفاء إيران وميليشياتها، إلى ما قبل عام 2019، وعلى وقع هذه العودة، يبدو معرض بغداد الدولي كأنه يحاول أن يصرخ في برّية موحشة، وأن يوصل صوتاً مكتوماً، أو رسالة مشفّرة موضوعة في زجاجة ومرمية في بحر مظلم.
ويبدو ان الكتاب يحاول دائماً أن يعيد لبغداد شيئاً من ماضيها، ويسترجع محاولات صمود الكتب في وجه البربرية منذ إحراق مكتبة بغداد من قبل المغول في القرن الثالث عشر ميلادي. ولا نعرف من اختار لهذه الدورة من المعرض أن تحمل اسم المؤرخ والباحث العراقي هادي العلوي(1932-1998)، لكن مؤلفات الرجل تبدو كأنها، بعناوينها ومضامينها، تكافح واقعاً مفروضاً. فالعلوي، الماركسي الشيوعي، اشتغل على موضوعات يبدو أنها لا تزال ملحّة وراهنة، حتى بعد 25 عاماً على رحيله. وهي موضوعات تاريخية تحمل في طيّاتها دعوة إلى التعلم من الماضي وأخطائه، وتجنّب تكرار العنف أو التخلف، والاستفادة من بقع الضوء لمحاولة كسر طغيان الظلام والظلامية. ومؤلفات العلوي تبدو كأنها تحمل هموم العراق اليوم، أو كأنها تقول من حيث يدري أو لا يدري من أطلق اسم العلوي على معرض بغداد، إن العراق ليس بخير، وإن زمن “الاغتيال السياسي في الإسلام” (وهو عنوان كتاب شهير للعلوي) لم ينته، وأن العراق لا يزال يقتل المعارضين والنشطاء والمثقفين والكتّاب، وأن العراق لا يزال، على ما تفيد تقارير موثقة، ينتقي “من تاريخ التعذيب في الإسلام” (وهو عنوان كتاب آخر للعلوي) ليمارس أبشع أنواع التعذيب في سجون رسمية كما في معتقلات الميليشيات التي تخطف وتعذّب المختلفين سياسياً وتنكّل بالمختلفين اجتماعياً وثقافياً وجندرياً، وتمارس التمييز الممنهج والعنفي ضد المثليين ومجتمع الميم. وكان العلوي يرى أن الحكم بقطع اللسان (كعقوبة في الإسلام) “تطوير مبكر لفن التعذيب يدلّ على السرعة التي تقدمت بها دولة الإسلام في طريق تكاملها كمؤسسة قمعية”.
يبدو ان الكتاب يحاول دائماً أن يعيد لبغداد شيئاً من ماضيها، ويسترجع محاولات صمود الكتب في وجه البربرية منذ إحراق مكتبة بغداد من قبل المغول في القرن الثالث عشر ميلادي.
ومن نافل القول إن المرأة العراقية في خضمّ كل ذلك، لا تزال تعاني الأمرّين لجهة العنف المنزلي والخارجي والتهميش المجتمعي والسياسي، لجهة الانتقاص من حقوقها وحريتها، وهي كانت مادة لكتاب ثالث وضعه العلوي بعنوان “فصول عن المرأة”، ناقش فيه حال المرأة في ثلاثة نماذج، جاهلية واسلامية وصينية، حيث عرف عن العلوي اهتمامه بالثقافة الصينية، وقد عاش فترة في الصين بعد مغادرته العراق مكرهاً في السبعينات. وفي هذا الكتاب، يستحضر شواهد تاريخية على أن المرأة كانت تتصدّر مجالس الرجال في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، ويستعين بلوحة من القرن السابع للرسام يحيى الواسطي، لامرأة تلقي دروساً على الرجال.
ومن الكتب البديعة التي وضعها العلوي، “شخصيات غير قلقة في الإسلام”، وهو كتاب يتناول شخصيات سياسية واجتماعية إسلامية من منظار موضوعي، بعيد من العواطف، يبحث فيه عن مكامن العدل والحكمة والمعرفة في هذه الشخصيات، بعيداً من متاهات “القلق” لجهة اشكالياتها التاريخية. وهو عاش ومات في زمن عراقي لم يفارقه القلق، ولم ينقصه الاضطراب، تارة بالاستعمار والانقلابات وطوراً بالحروب والاستبداد، ولم يعش إلى زمن سقوط الطاغية، ولا إلى زمن ما بعد سقوطه، المشحون بالعنف والتطرف والدماء.
إقرأوا أيضاً: