في غير مناسبة إعلامية كرّر الكوميدي اللبناني نعيم حلاوي أن “سميّه” الشيخ نعيم قاسم، الذي استلم حديثاً منصب الأمين العام لـ”حزب الله”، كان أستاذه في ثانوية حمّانا في بداية ثمانينات القرن الماضي. كان قاسم يدرّس مادة الكيمياء باللغة الفرنسية، وكان، كما يصفه حلاوي، “ناعم ولطيف وهادي ورايق”. وهي صفات على الغالب بقيت في شخصية الشيخ السبعيني الذي ورث عبئاً ودماً ودماراً كان شريكاً في صنعه مع سلفه السيد حسن نصرالله.
لكن الرجل الذي تولى لسنوات طويلة منصب نائب الأمين العام، كان أقلّ ظهوراً بكثير من نصرالله، وغالباً ما كان في مقابلاته التلفزيونية يبدي هدوءاً ومرونة مع محاوريه، لكنه كان دائماً يوصل الفكرة نفسها عن تحفظّه الاجتماعي ومشروع “حزب الله” المتشدّد في المسائل الحياتية والدينية والثقافية.
معروف عن الرجل أنه أحد المنظّرين الأساسيين في “حزب الله”، وهو بعيد نسبياً عن العمل العسكري، وله كتابات في سيرة الحزب، أبرزها كتاب أصدره في العام 2005 بعنوان “حزب الله: القصة من الداخل”.
يعرف قاسم تماماً وبشكل تفصيلي “حزب الله” من الداخل، وهو أحد مؤسسيه ومنظّريه ومسؤوليه العملانيين. يرث اليوم منصباً عايشه وتولّى نيابته، وكان حاضراً في معظم مفاصل الحزب السياسية بوصفه عضواً في “الشورى”، وشخصية سياسية بعيدة إلى حدّ كبير عن العسكر، دلفت إلى السياسة من الكيمياء، لكنها بقيت طوال الوقت، شخصية تفتقر إلى الكيمياء والكاريزما، كما يتفق على ذلك كثيرون.
والشيخ قاسم، الذي يخبر المادة وتفاعلاتها، ويتقن الخلط بين المكونات للوصول إلى تركيبات جديدة، بدا في السياسة كأنه عالق في مجموعة مواد تفاعلية، تجعله الأكثر تصريحاً من بين مسؤولي “حزب الله” في المسائل السياسية، والأكثر إفصاحاً من زملائه عما تخفيه التركيبة الداخلية للحزب، القابلة دائماً للاشتعال أو الانفجار.
فهو يصف المقاومة الإسلامية في أحد تصريحاته بأنها “رؤية مجتمعية بكل أبعادها، لأنها مقاومة عسكرية وثقافية وسياسية وإعلامية”. وهو كلام يكرره في معرض كلامه عن تغيير “حزب الله” المعادلة في لبنان، ليس عسكرياً فقط في الصراع مع إسرائيل، بل أيضاً على المستوى الاجتماعي الداخلي، معتبراً أن “حزب الله يقدم نموذجاً إسلامياً رائداً”، وأن “الحجاب انتشر انتشاراً راقياً عظيماً”، وأن ذلك ليس سوى ما يعدّه الحزب لظهور الإمام المهدي.
إقرأوا أيضاً:
يتفاخر الشيخ بأن القوة الشبابية في الحزب، “بدل أن تتوجه إلى المراقص والخمارات توجهت إلى قمم الجبال وقتال إسرائيل والتكفيريين”. ويعتبر في تصريحات عدة أن وجود هذه البيئة ضرورة، مفنّداً بالتفصيل حاجة الحزب إلى الإمساك بمفاتيح التربية والتدريس والتحكم بطبيعة الصحبة بين الأطفال المنتمين إلى “حزب الله” وبين باقي التلاميذ، والانتباه إلى سلوكيات البعض، خصوصاً في ما يتعلق بوجود الصبيان والبنات في المدارس في مكان واحد، حيث لا تسمح “كيمياء” الحزب بهذا النوع من الاختلاط.
وهذا الاختلاط المنبوذ بين الذكور والنساء، يحمّل الشيخ خطاياه، في تصريحات علنية، للنساء حصراً. ولا يجد حرجاً في الاستعانة بسيمون دو بوفوار التي يصفها بأنها “الداعيات إلى حرية المرأة الكاملة بلا ضوابط”، مستخدماً اقتباساً منها خلاصته رفض تسليع المرأة، ليبرر هجومه على تحرر اللباس لدى النساء، ومطالبته لهنّ بالانصياع إلى سلطة الرجل، استناداً إلى السردية الدينية الإسلامية.
وهو في واحدة من حبكاته “الكيميائية” الخطيرة والسامّة، أعلن رفضه توظيف المعلّمات المطلقات، لأن السيدة المطلقة برأيه غير مؤهلة لتربية الأطفال وتدريسهم، لأنها وقعت في “أبغض الحلال” عند المسلمين.
هذا النوع من التصريحات المشبّعة بـ”الأسيد” الذي يذكّر بماضي الحزب في الثمانينات، غير قابل للتفاعل مع مواد أخرى ومع خطابات أخرى في البلد. يصعب خلط مادة ثقافية واجتماعية ودينية متشددة كهذه مع مكونات أخرى، إلا بقوة الوعاء والسلاح. وهذا حدث في فترة خلال التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله، لكنه أفضى إلى تسرّبات من المواد السامة الصادرة عن التفاهم، انتهت أخيراً إلى انفصال وخصام.
والافتقار إلى الكيمياء الشخصية، مسألة يعزوها المؤمنون إلى الخالق، مع أنها قد تتأتى في أحيان كثيرة عن “جهد شخصي”. ذلك أن المضمون نفسه الذي قد يخرج عن أي مسؤول آخر في “حزب الله”، يبدو أكثر فجاجة حينما يخرج عن قاسم، خصوصاً عندما يعتلي المنابر.
يشكّل خطابه الذي يخلط بين نبرة صوته وطريقة تعبيره عن نفسه، مع حركة جسده ويديه ونظراته، بالإضافة إلى مضمون ما يقوله، إلى مادة “فوّارة” حينما يتلقاها أي متلقّ قريب أو بعيد من بيئة “حزب الله”. فالإشكالية في كيمياء الرجل وكاريزماه، لا تقتصر على كيفية تلقّي المحزّبين لشخصيته، فهؤلاء شربوا قبله مسؤولين متشددين في الحزب كانت تعوزهم الكاريزما، ولن يغصّوا به. لكن المأزق الحقيقي للرجل يتمثل في مدى تمكّنه من خرق البيئات الأخرى المختلفة اجتماعياً وثقافيا مع الحزب، حتى ولو كانت على الموجة السياسية نفسها معه.
ومأزق الكيمياء هذا لا يقتصر على الرجل بل ينسحب إلى حزبه، الذي اعتاد في رأس قيادته في العقود الثلاثة الماضية على حضور نصرالله الكاريزماتي، وتحوّله مع “تخصيب” إعلامي إيراني ومحلّي دام سنوات طويلة إلى شخصية تلامس المقدّس، وتأخذ من صفات الألوهة في نظر مناصريه. وقد كان نصرالله، قبل العام 2011، تاريخ دخول “حزب الله” إلى سوريا للدفاع عن بشار الأسد وقمع المعارضة السورية، شخصية تنافس عرفات وبن لادن وصدام حسين في الشارع السني، ثم تحوّل بعد ذلك إلى شخصية منبوذة بشكل واسع في أوساط هذه الطائفة الأكثرية الممتدة على امتداد خريطة العالم العربي.
وربما يكون نصرالله في الحرب الأخيرة، وبمقتله في ساحة القتال، قد استعاد شيئاً من شعبيته في الشارع العربي المتعاطف مع القضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن تردّدات اغتياله على الطائفة الشيعية في لبنان لم تظهر بعد، لأن جمهوره لم يستطع أن يلتقط أنفاسه من سرعة الحرب الخاطفة التي بدت كأنها أخذت “حزب الله” على حين غرّة، مع أن المفارقة أن الحزب هو من أطلقها وهو من تحكّم بضوابطها في الشهور الأولى على وقع “إسناد” غزة.
بعد أن تضع الحرب أوزارها، سيقع اغتيال نصرالله بثقله الهائل على كتفيّ نعيم قاسم، إذا كُتبت له النجاة من القتل في المعركة. والرجل سيكون أمام امتحان أصعب من الحرب، حينما سيوضع في المقارنة مع خلفه، ويظهر حينها مأزق الكيمياء والكاريزما في أكثر مراحله تعقيداً. فالقاعدة الكيميائية العلمية، التي على الغالب تعارض معتقدات قاسم الدينية، يطرحها الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازييه بالمعادلة التالية: “لا شيء يضيع، لا شيء يُخلق. كل شيء يتحوّل”. وهذه القاعدة تحكم التحولات التي ستطرأ على “حزب الله” في مرحلة ما بعد الحرب الحالية الكارثية عليه وعلى جمهوره وعلى البلاد بأسرها. لا يستطيع الحزب تفادي الكيمياء، وعليه أن يتعامل مع تحوّلاتها قريباً جداً، وعلى رأس أمانته العامة هذه المرة كيميائي يفتقر إلى الكيمياء.