أحيَيْتُ الذكرى المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير في غرفتي وأنا أشاهدُ وأكرّرُ مشاهدة مقابلة رئيس الجمهورية اللبنانيّة ميشال عون عاجزًا عن تصديق ما أرى وأسمع. ألا ليتني لم أعش لأشاهد هذه الطامّة بعيني… لم يكن واضحًا هل هو احتفاء بلبنان الكبير في ذكرى مئويته الأولى، أم أنّه تأبين علنيّ له ودعوة لكلّ من لم ينجُ بنفسه بعد إلى الإسراع لأنّ صوت “الصور العظيم” معلنًا فناءه، قريب لا محالة.
يفتتح الإعلامي الشهير ريكاردو كرم اللقاء مع ضيفه الرئيس ميشال عون بإبلاغه بالمعلومات التي لا ينقلها له صهره ومستشاريه من حوله: ثورة غضب شعبي اشتعلت في تشرين الأول/أكتوبر وامتدّت على أرض الوطن، مذبحة حدثت في بيروت وحصدت أرواح ناسها وأرزاقهم، ثلاثمئة ألف طلب هجرة عالق في السفارات الأجنبية في بيروت، مليون عاطل عن العمل ينتظرون الموت في الشوارع، تسعمئة وخمسين ألف شابّ وشابّة غارقون في الضياع والخيبة لم ينتحروا بعد، لبنان ينهار، لبنان يحترق، لبنان يحتضر…
يرمي المحاور كلّ هذه الكلمات بوجه الرئيس الذي يجلس أمامه شاردًا يهزّ رأسه بغرابة، وكأنّ كلّ ما يُقال لا يعنيه من قريب ولا من بعيد ولا يد له فيه أساسًا. الأكثر أهمّية في الصورة الآن أن الكاميرا استطاعت بزاوية صحيحة، استيعاب السجّادة الملوّنة الفاخرة التي يدوسها الجنرال بحذائه أمام شعب جائع يفترش الشوارع والأرصفة بانتظار من يمدّ له يد العون وبعض النَفَس.
يُطمئننا فخامته في أول عبارة ينطقها أنّ من مثله لا ييأس، ثمّ يتحدّث بأنفاس متقطّعة عن القوّة والإرادة و”الرقود تحت التراب بانتظار القيامة” وكأنّي به يقود بجهد وعزم مسيرة عملاقة لتحويل لبنان إلى بلد صناعي زراعي ستحتلّ منتجاته واكتشافاته العالم بأسره، بينما في الواقع يربّت العالم نفسه على أكتافنا بشفقة اليوم قائلًا كان الله بعونكم على ما ابتليتم به.
يواسينا الرئيس أنه لا يمكن أن نتوقّع أسوأ ممّا حدث بعد الآن في عهده، حيث بلغت كوارثه ذروتها مع المجزرة التي ارتكبتها دولته في مرفأ بيروت. أمّا الآن فالأولويّة هي لمساعدة الناجين والناجيات من هذه الكوارث، الذين وبحسب قوله لم يكونوا لينجوا لولا وجود “رجال أقوياء أشدّاء بمواجهة الصعاب”. هو يتحدّث عن نفسه وعن صهره طبعًا، وربّما يلمّح إلى قوّة وشدّة شربل خليل والله العليم.
في ذكرى المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، أخبرنا رئيسنا أنّ حدادنا لن يقتصر بعد اليوم على من سيقتلهم النظام الطائفي، بل سيمتدّ إلى حداد على وطن يلفظ أنفاسه الأخيرة بانتظار اختيار الغراب الأكثر سوادًا لينهش عظامه.
يعتبر الرئيس دون تردّد أنّ أحسن ما جرى في عهده حتّى الساعة هو ترسيخ “الاستقرار والأمن في البلاد” متجاهلًا بزهوه المبالغ فيه مجزرة المرفأ، بروفة الحرب الأهليّة التي اشتعلت في خلدة قبل يومين، غزوات شبّيحة حزب الله وحركة أمل على خيم المتظاهرين وحرق خيامهم في كلّ أنحاء البلاد، إطلاق عناصر تياره النار المباشر على المتظاهرين في جلّ الديب، قطع الطرقات وحرق الدواليب، العيون المفقوءة والشهداء الذين سقطوا ويسقطون في ثورة تشرين المستمرّة، اعتقال مئات المتظاهرين والمتظاهرات وتكسير عظامهم، ليال عاشتها بيروت على ضوء القنابل الدخانيّة وصراخ ضحايا حرس المجلس النيابي، المعارك في المصارف والمطار والإدارات الرسميّة وبكاء الناس في الشوارع، تحطيم صور المسؤولين وحرقها واقتحام الوزارات، معارك جسر الرينغ والكوارث الأمنية التي عاشها اللبنانيون في تلك الفترة، الدولار الذي وصل سعره بفضل عينه الساهرة على الاستقرار إلى العشرة آلاف ليرة لبنانية، السبعمئة حالة كورونا المسجّلة في اليوم بسبب فشل عهده بالسيطرة على الوباء وترهّل نظامه الصحّي وغياب الدعم المباشر للناس بوجهه الخ…
إنّ الأمن إذًا -وبالرغم من كلّ هذه المصائب و الفاجعات هو أحسن ما حصل في عهد ميشال عون. بعقليّة كهذه، لو سأله المحاور عن أسوأ ما حدث للبنان في عهده ربّما سيكون جوابه أنّ المتظاهرين أصرّوا على رفع شعار “كلّن يعني كلّن” رغم كلّ الهراوات التي نزلت على جماجمهم والرصاصات التي أطلقت على صدورهم.
الشقّ الأكثر حزنًا من المقابلة كان ذلك المتعلّق بمجزرة المرفأ. لا أقصد الحزن الذي حاول الرئيس إبرازه بناء على نصائح مستشاريه الإعلاميين الساذجين، بل الحزن الذي يعتصر قلبك وأنت تشاهد رئيس جمهوريتك يصف الانفجار الذي قتل أكثر من مئتي إنسان بأنّه صدفة حدثت بتوقيت غريب وسيء…
في حديثه عن فقدان الأمل لدى الشباب اللبناني واغترابه بالآلاف في بلاد الله الواسعة يسأل ريكاردو كرم ضيفه الرئيس “هل سيتحوّل هذا البلد أخيرًا إلى دولة للعجزة؟ دولة لكبار السن فقط؟” رغم أنّ نيّة المحاور غير واضحة في طرحه سؤال كهذا، ألا أنّ نيّة الرئيس كانت واضحة منذ زمن في مقابلته الكارثية القديمة التي أدّت إلى استشهاد علاء أبو فخر منذ أشهر حين قال “إذا ما عندن أوادم بهالسلطة يروحوا يهجّوا”. يجلس الرئيس اليوم على كرسيه بتسريحة لطيفة، يشاهد حلمه الضخم يتحقّق أمام عينيه، هذه هي الرئاسة التي قاتل ثلاثين سنة من أجلها.
تتفكّك العائلات ويتفكك معها مجتمع بأكمله وينهار فوق رؤوس الناس الذين اقتصر جهدهم اليوم على محاولات البحث عن سبل نجاة خارج هذا المسلخ الذي يحكمه سفاحو الحرب الأهليّة وأمراءها. الوطن الذي يقتل ناسه ويلدغ نفسه كالعقرب حين يستشعر قرب الموت. لكنّ البسمة لا تفارق وجه الرئيس حين يقول عمن غادر وترك وطنه خلفه: سيعودون حين يصبح الوضع أحسن…
الشقّ الأكثر حزنًا من المقابلة كان ذلك المتعلّق بمجزرة المرفأ. لا أقصد الحزن الذي حاول الرئيس إبرازه بناء على نصائح مستشاريه الإعلاميين الساذجين، بل الحزن الذي يعتصر قلبك وأنت تشاهد رئيس جمهوريتك يصف الانفجار الذي قتل أكثر من مئتي إنسان بأنّه صدفة حدثت بتوقيت غريب وسيء…
حزننا على أنفسنا ونحن نسمعه يقول أنّه لا يطلّع على سير التحقيقات بالانفجار الذي محى نصف العاصمة عن الخريطة لأنّ التحقيق سرّي. رئيسنا الصنديد مشغول بتوقيف من يغنّي “هيلا هيلا هو” في الساحات ومن ينزع صورة هنا أو يكتب منشورًا على صفحته الخاصة هناك لرميه في السجن وإذلاله، أمّا بخصوص المجزرة المروعة التي افتعلها نظامه الطائفي بشعبه فإن متابعة سير التحقيق فيها ومحاسبة المسؤولين عنها تقع خارج صلاحياته الرئاسية. حزننا أننا نعرف أنّ موتنا أو موت من نحبّ على يد هذه المنظومة التي يمثّلها العماد في مركزه الأعلى ليس سوى تفصيلًا صغيرًا لا قيمة له، فلا مشكلة لديه بالقول علنًا أنّه لم يحفظ أي وجه أو اسم واحد من أسماء قتلى الانفجار وجرحاه، أنّ الرئيس ماكرون منعه من مرافقته إلى الجميزة لملاقاة الناس ومواساتهم ودعمهم في مصابهم، ولمَ سينزل إلى الشارع أصلًا؟ يقول “إذا رحت لتحت عالشارع شو بدّي شوف؟ بدي شوف بناية اتنين تلاتة؟ والباقي؟”
في ذكرى المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، أخبرنا رئيسنا أنّ حدادنا لن يقتصر بعد اليوم على من سيقتلهم النظام الطائفي، بل سيمتدّ إلى حداد على وطن يلفظ أنفاسه الأخيرة بانتظار اختيار الغراب الأكثر سوادًا لينهش عظامه.