
حِرت كثيراً وأنا أفكر في الدوافع والأسباب التي دفعت الحكومة إلى اعتقال هند الفايز، بذريعة مالية لم تعد تنطلي على أحد. وفي حين كانت مثل هذه الأساليب البدائية تُمارس في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته وستيناته، ما زلت أسأل إن كان أحد في العالم، وليس في الأردن فقط، يعتقد أن هذه الأساليب تؤدي إلى إسكات المعارضة أو تخويفها. ماذا أبقت حكومة عمر الرزاز لغيرها من الحكومات العرفية التي عرفها الأردن في القرن الماضي؟ في أي عصر يعيش بعض صناع القرار لدينا؟ وهل هناك تفكير منهجي يؤدي إلى مثل هذه القرارات؟ هل الموضوع يتعلق حقاً بتنفيذ أمر قضائي، أم أن الأمر “فشة خلق” أو تصفية حسابات؟
تعتقل الفايز بطريقة استعراضية لسبب مالي، فيما “الصندوق” مغلق، فـ”تضطر” الحكومة إلى زج هند في السجن، حرصاً على عدم ضياع المال العام، ثم يُخلى سبيلها في اليوم الثاني بعد دفع مبلغ لا يستحق أن يسجن أحد بسببه. حقاً يا حكومة؟ هذا ما تفتقت عنه ألبابكم؟ كم من مرة شاهدنا مثل هذه المسرحية قبل اليوم؟
يوم حزين شهده الأردن، وفي كل مرة نعتقد أن حكوماتنا تجاوزت هذه “الفهلوات”، وأدركت أن تحديات القرن الواحد والعشرين تتطلب معالجات تتعدى عرفية أساليب القرن العشرين، تعود لتمارس أساليب لا تؤدي إلا إلى زيادة الاحتقان وتوسيع الفجوة مع الناس.
سمعنا كلاماً كثيراً عن ضرورة التروي في مواضيع الإصلاح السياسي، “لأن الوقت ليس ملائماً”، ويتم اليوم تطوير هذه المقولة المبالغة في سذاجتها لنسمع كلاماً عن عدم ضرورة الالتفات إلى من يطالب بالإصلاح أو بالدولة المدنية الديموقراطية، لأن “عددهم لا يتجاوز حمولة باص”. وللأسف، فإن هناك إشارات إلى أن بعض هذا الكلام يصدر من الأدوار العليا في الدوار الرابع.
حسناً، فلنتجاوز هذا الجدل اليوم حول ضرورة الإصلاح السياسي من عدمه، فهل للمواطن الأردني أن يتوقع على الأقل بعضاً من سيادة القانون والإجراءات القانونية التي تحمي المال العام من دون إذلال المواطنين؟ أم أن ذلك أيضاً طلب ساذج من ركاب هذا “الباص” المسكين؟
كيف نبني مجتمعات تعددية ونحن لا نحتمل رأياً معارضاً علت حدته أو خفتت؟ وهل صوت هند الفايز العالي يبرر للحكومة هذه الإجراءات؟
لن تنتبه الحكومة لهذا المقال على الأغلب، كما لا يبدو أنها تعير اهتماماً لأي تداعيات جراء اعتقال هند الفايز، ولعل أعضاء فيها يعللون هذه الإجراءات تحت ذرائع مختلفة منها صوت هند الفايز العالي مثلاً، ويبدو أن السياسيين في الحكومة، بمن فيهم دولة الرئيس، يريدون التنصل من اي إجراءات أمنية وكأنها لا تعنيهم، حتى وإن كانت هذه الإجراءات تنهش في جسد الحكومة الذي أصبح مثخناً بالجراح.
ليس هذا هو الأردن الذي نريده. وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هند الفايز، كيف تختلف هذه الحكومة عن سابقاتها إن كانت توافق على مثل هذه الأساليب البائدة؟ وكيف نبني مجتمعات تعددية ونحن لا نحتمل رأياً معارضاً علت حدته أو خفتت؟ وهل صوت هند الفايز العالي يبرر للحكومة هذه الإجراءات؟ متى ندرك أننا أصبحنا في عصر يتم فيه الرد على الأصوات المعارضة بالحجة والممارسة الرشيدة، وفي غياب ذلك، لن تؤدي أي إجراءات أمنية خشنة إلا إلى المزيد من الأصوات العالية.