fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“مقبرة الخالدين” في القاهرة… واجهة “وطنية” وهدرٌ لتاريخ القرافة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تكونت القرافة على مدار عقود وسنوات طويلة، منذ أن دخل العرب إلى مصر واتخذوها مقابر لهم. لكن ، نظراً الى أن الحكومة لا تتحدث عما هو أثري بمفهومها، لذا سيسلط هذا المقال الضوء والتركيز على ما هو غير أثري أو بالأحرى ما هو غير مسجل في سجلات وزارة السياحة والآثار المصرية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في حزيران/ يونيو الماضي، وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، بهدف إنشاء “مقبرة الخالدين” في موقع مناسب، لتكون صرحاً يضم رفات عظماء  مصر ورموزها من ذوي المساهمات البارزة في رفعة الوطن على حد تعبير البيان، على أن تتضمن أيضاً متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية، ويتم نقلها من خلال المتخصصين والخبراء، بحيث يشمل المتحف السير الذاتية لعظماء الوطن ومقتنياتهم.

تضم تلك اللجنة جميع الجهات المعنية والأثريين المتخصصين والمكاتب الاستشارية الهندسية، لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر في منطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وتحديد كيفية التعامل مع حالات الضرورة التي أفضت إلى مخطط التطوير، على أن تقوم اللجنة بدراسة البدائل المتاحة والتوصل الى رؤية متكاملة وتوصيات يتم الإعلان عنها للرأي العام قبل يوم الأول من تموز/ يوليو 2023.

تقوم فكرة مقبرة الخالدين بشكل رئيسي على محاكاة النموذج في باريس (Pantheon)، وإنشاء مجمع ضخم يضم رفات الشخصيات البارزة في تاريخ الدولة في مكان واحد.  هذا  النموذج يتيح للناس زيارة المجمع والتعرف على تاريخ كل شخصية مدفونة فيه. تعزز تلك الفكرة التعرف الى الشخصيات بشكل مُجمل وسريع، من دون الخوض في التفاصيل الفلسفية لحياة كل شخص منهم، وترسيخ الحكاية الوطنيّة عبر جمع “رموزها” في مكان واحد.

جاء هذا القرار عقب حالة الجدل الواسعة التي أعقبت التدخلات المتعددة التي قامت بها الحكومة في الآونة الأخيرة في قرافة القاهرة، والتي تتمثل في إنشاء عدد من المحاور والكباري والطرق داخل نسيج القرافة، كان من أبرزها محور الفردوس الذي يربط القاهرة القديمة بالقاهرة الجديدة، ومحور الحضارة والإباجية، ما اضطرهم حينها إلى هدم عدد كبير من المقابر والأحواش التي اعترضت المخطط العمراني الجديد.

كيف تنظر الدولة إلى القرافة؟

تشي القرارات والمقاربات المعلنة بأن النظام الحالي ينظر إلى تلك المنطقة كبؤرة عشوائية ملتهبة، يجب التخلص منها في أسرع وقت، شأنها شأن المناطق العشوائية في القاهرة سواء من ناحية السكان أو من ناحية المباني القديمة المهددة بالانهيار في نظر الحكومة.

 ظهر التوجه السابق جلياً خلال زيارة رئيس الوزراء المصري في حزيران/ يونيو الماضي، التي جاءت تنفيذاً لتكليفات الرئيس بعرض الرؤية المتكاملة لخطوات بدء تنفيذ “مقبرة الخالدين”. 

جاءت زيارته إلى ضريح الزعيم الوطني أحمد عرابي، الذي يعاني من مشاكل إنشائية وبنيوية، كرسالة تعمّد رئيس الوزراء المصري إبرازها من خلال زيارته، ورددها شفهياً، إذ قال إن السبب الجوهري وراء نقل تلك المقبرة، هو أنها غارقة في المياه الجوفية، بالإضافة إلى عدم تمكن الناس من الدفن أسفل الأرض، مستبدلين ذلك بالدفن أعلى الأرض بشكل سطحي. 

زار رئيس الوزراء في جولته السريعة و المجتزأة للقرافة، عدداً من المقابر المهدمة بفعل الزمن، أو ربما بفعل حركات الإنشاءات المتتالية بجانبها، مبرزاً أهمية نقل تلك المقابر إلى مكان لائق أكثر من هذا، مع ضرورة الحفاظ على تاريخ الأمة من الاندثار.

تبرر الدولة نقل المقابر التاريخية وتطويرها بوصفه حاجة ضروريّة، بسبب البنية التحتية الضعيفة في القاهرة التاريخية إجمالاً والقرافة خصوصاً، فضلاً عن كون المدينة تحتاج إلى مزيد من التطوير، وبالتالي ضرورة إنشاء طرق وكباري ورفع كفاءة بعض المناطق، من دون توضيح علمي لعلاقتهما ببعضهما البعض.  

“ضحية” أخطاء الحكومة

يتنافى الواقع تماماً مع نظرة الحكومة إلى تلك المنطقة التاريخية. فمعظم مقابر القرافة التي يتراوح تاريخها من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، في حالة جيدة جداً ولا تحتاج حتى إلى ترميم أو إعادة تأهيل.

 تعمّد رئيس الوزراء زيارة إحدى المقابر القليلة المهدمة في القرافة، وهي ضريح أحمد باشا عرابي الذي انهار بسبب العوامل الإنشائية التي طرأت على المكان، بالإضافة إلى أنه تعمد زيارة المناطق التي تعاني من منسوب زائد من المياه الجوفية والصرف الصحي. 

تعاني القرافة فعلاً من مشكلة في الصرف الصحي والمياه الجوفية، لكن في منطقة محددة دون الأخرى، وهي المنطقة القريبة من بحيرة عين الصيرة. ويرجع هذا السبب أيضاً إلى الحكومة نفسها التي ردمت البحيرة وأقامت هناك محوراً ضخماً، تسبب في تسرب المياه ناحية القرافة، بخاصة بالقرب من ضريح الإمام الشافعي الذي تضرّر هو الآخر.

تلك الأعمال التي قامت بها الحكومة من تطوير للمنطقة من دون مراعاة التأثير السلبي لها، تخالف القوانين المصرية التي تنص على ضرورة إجراء دراسات حول التأثير البيئي للمشروعات التي قد تتضمن آثاراً ضارة على المنطقة. إلا أن الحكومة حتى الآن لم تعر تلك المنطقة أي اهتمام أو عرض حلول حقيقية للتخلص من المياه الجوفية سوى بنقل الترب والأحواش منها. وهو ما يبدو حلاً سهلاً من دون اعتبار لقيمة تلك المناطق.

يقول ابراهيم طايع، الباحث في تاريخ الجبانات، والذي يعمل بشكل دوري على توثيق الأحواش المهددة بالإزالة، لـ”درج”: “هل لأن القرافة متضررة من المياه الجوفية، تتم إزالة كل تلك المقابر؟ هناك حلول علمية يمكن أن تلجأ إليها الحكومة في حلّها. ومشكلة المياه الجوفية موجودة فقط في الجزء القريب من بحيرة عين الصيرة بسبب ردمها من قبل الحكومة. يمكن توفير المبلغ المالي الذي سيتم بناء مقبرة الخالدين به، وتوجيهه إلى حل مشكلة المياه الجوفية في القرافة”، مثلما حصل مثلاً في قبة الإمام الشافعي”.

القرافة : تاريخ مهمّش للنقوش العربيّة

تكونت القرافة على مدار عقود وسنوات طويلة، منذ أن دخل العرب إلى مصر واتخذوها مقابر لهم. لكن ، نظراً الى أن الحكومة لا تتحدث عما هو أثري بمفهومها، لذا سيسلط هذا المقال الضوء والتركيز على ما هو غير أثري أو بالأحرى ما هو غير مسجل في سجلات وزارة السياحة والآثار المصرية.

 أسس محمد علي باشا الحوش الخاص بعائلته في القرافة بجانب قبة الإمام الشافعي، وهو المعروف تاريخياً “بحوش الباشا”، والذي يضم عدداً هائلاً ومميزاً من شواهد القبور لعائلته وبنيه، أهمها شاهد قبر وغرفة طوسون باشا، ابن محمد علي. 

أصبح الحوش وجهة مفضّلة لأمراء الأسرة العلوية وذويهم وأقاربهم ووزرائهم، ثم تلتهم بعد ذلك الطبقة الوسطى في المجتمع، وهي تلك الطبقة التي تعلمت في المدارس التي أنشأها محمد علي باشا في مصر، ثم سافرت في البعثات الأجنبية وعادت مرة أخرى إلى مصر. بالإضافة إلى وجود دائم وغير منقطع للطبقات الأخرى بجوار الإمام الشافعي والليث بن سعيد، اعتقاداً منهم ببركتهما.

لكن مقابر أمراء أسرة محمد علي ووزرائه كانت هي المشكل الرئيسي لعمران القرافة الحالي، إذ تستحوذ على غالبية عمران القرافة بشكل ملحوظ. إذ يمكن أن تجد، من خلال نظرة واحدة من نقطة عالية على سماء القرافة، عدداً هائلاً من القباب والمباني الكثيفة التي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة.

عادة ما تتخذ تلك المقابر نظام الأحواش بمساحة كبيرة، بحيث لا تتكون التربة وحدها من لحد أو قبة، بل من غرف سكنية خاصة بالمقيمين على خدمة الحوش، وحديقة أو بستان بالإضافة إلى مقرأة للقرآن واستراحة لأهل المتوفى يزورونه في أوقات المواسم وذكرى وفاته، ومكتبة تضم كتباً دينية وقاعة استقبال أحياناً تضم مقتنيات صاحب الحوش.

كذلك، عادة ما تحوي تلك الأحواش بين جنباتها تحفاً فنية مثل جزء من ستارة الكعبة أو مصحف مخطوط، أو كتاب عن السيرة النبوية والأحاديث المحمدية وغيرها من المقتنيات التي تضيف الى المقبرة بركة ورونقاً كما يرى أصحابها. 

كانت تلك الأحواش تعبر بشكل رئيسي عن فلسفة كل واحد منهم في الحياة وعلاقته بها وتجاربه معها. فتارة تلاحظ مثلاً المناصب التي تولاها أحدهم وقد نقشها على شاهد قبره بالإضافة إلى النياشين وغيرها من التكريمات. وطوراً تلاحظ زهد أحدهم في الحياة الى درجة أن يكتب اسمه متبعاً بالفقير إلى الله. وتارة تجد أحدهم قد عصفت به الأقدار الى حد لم يعد له من يؤنسه فيدفن وحيداً بين خدامه.

العامل الرئيسي والمشترك بينهم جميعاً، أنهم كانوا يتنافسون كذلك في إبراز أفضل صورة لتلك المقابر من خلال النقوش التي تزين شاهد القبر وواجهة الحوش ومداخله، ومن خلال النمط المعماري الذي تبنى به المقبرة، والذي يعكس أيضاً شخصية صاحبها ومنهجه في الحياة والتأثيرات الفكرية التي مر بها.

تمتلك قرافة القاهرة سجلاً كاملاً وعميقاً من أسماء خطاطين ونقاشين عملوا في تراكمية مذهلة على إنتاج عدد هائل وغير محدود من اللوحات التي كتبت بخطوط مختلفة، مثل النسخ والرقعة والثلث والخط الكوفي. تنافس في ذلك أمهر الخطاطين وأجدرهم في القرنين التاسع عشر والعشرين، أمثال عبد العزيز الرفاعي وأحمد الكامل ومحمد مؤنس زاده ومحمد بك جعفر وغيرهم من الخطاطين المشهورين. 

امتلك كل واحد من هؤلاء الخطاطين والنقاشين مدرسة فنية بعينها، وكان له أتباعه وتلاميذه فيها، يمكنك أن تلاحظ توقيع كل واحد منهم على حدة بين ثنايا سطور الشواهد والواجهات. وهو سجل لا يعرف كثر عنه شيئاً، فضلاً عن كونه بعيداً تماماً من التوثيق وفي طريقه الى الاندثار، فكل لوحة هي في الأصل صفحة تاريخية مهمة في تاريخ الفنون المصرية.

يتحدث الخطاط محمد شافعي، الباحث في تاريخ الخطوط وأحد أبناء أسرة خالد الصوفي زادة، التي اشتهرت بالكتابات خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لـ”درج” قائلاً: “أهمية النقوش الكتابية في القرافة أنه يصعب تزويرها، عكس الكتابات الأخرى التي يمكن أن يتم تزويرها بغرض التربح المالي، ومن هنا تأتي أهمية تلك الكتابات الموجودة في القرافة. بالإضافة إلى أنها مصادر مهمة لتراجم الخطاطين غير المعروفين أو المجهولين في كتب التاريخ”.

يستكمل شافعي حديثه عن أن القرافة تمتلك تواقيع لخطاطين لم يتم رصدها من قبل، يمكن من خلالها أن نؤرخ لأعمالهم من جديد، بالإضافة إلى أنها لم توثق من قبل، الى درجة أننا نتفاجأ بأن هناك أعمالاً جديدة لخطاطين مهمين مثل عبد الله زهدي، صاحب تركيبة إحدى زوجات محمد علي في حوش الباشا.

 هناك نقوش تثبت أن بعض الخطاطين المهمين زاروا مصر في وقت ما مثلاً. لذلك، لا يمكن اختزال هذا الكم الهائل من الفنون في مقبرة الخالدين. إذ إنها مصدر مهم جداً لإعادة كتابة تاريخ الخط مرة أخرى، تستطيع أن ترى ظواهر اجتماعية من خلال الألقاب والمناصب بالإضافة إلى اللغة وطبيعة كتابتها.

الضرائح وتاريخ العمارة

تحوي العمارة في القرافة حيث بنيت معظم قباب القرافة، أنماطاً معمارية متعددة، يعبر كل نمط فيها عن توجه صاحب المنشأة نفسه وتوجه العصر الذي عاش فيه. ففي أعقاب ثورة 1919، الثورة التي أعادت الاعتبار الى الهوية المصرية والى كثير من المصريين، كان لها ظاهر في القرافة، كما الحال في ضريح سعد باشا زغلول القائم في وسط البلد، والذي يحمل ملامح فنية تعبر عن الفن المصري القديم، كذلك كانت هناك نماذج أخرى اتخذت من هذا النمط أسلوباً معمارياً. 

الشاهد على ما سبق، ضريح محمد وعبد الحكيم مرزوق، الأخوين اللذين بنيا ضريحاً على النمط المصري القديم في ترب الغفير، في ما يشبه المعبد المصري القديم في العصر الروماني بتفاصيله المعمارية المختلفة، مثل الكوبرا التي تزين الواجهة من أعلى والأعمدة الجرانيتية التي تكتنف مدخل الباب. فيما تجد كذلك شاهد قبر على شكل مسلة مصرية قديمة تعزز هذا التوجه.

ظهرت كذلك، اتجاهات مختلفة مثل إعادة إحياء العمارة الإسلامية ممثلة في العمارة المملوكية، مثل ضريحي علي باشا فهمي ومحمد علوي في قرافة الإمام الشافعي، اللذين بنيا على النمط المملوكي الجركسي، إذ تم اقتباس معالم فنية كثيرة من مبان تاريخية في القاهرة نفسها لتؤرخ لفترة مهمة وحيوية في مصر. فضلاً عن وجود مهم وظاهر لأنماط معمارية مثل الباروك والروكوكو وغيرهما من الأنماط المعمارية الأخرى.

هل يصلح اختزال القرافة في مقبرة للخالدين؟!

لا تتكون القرافة من تلك الشواهد التي تود الدولة نقلها فحسب، وإنما تتكون من شوارع وحارات وميادين وبساتين وواجهات ووحدات سكنية لأهالي القرافة فضلاً عن حياة كاملة على مدار اليوم والشهر والسنة بمناسباتها المختلفة وظواهرها الاجتماعية المتعددة لأناس جاوروا أئمتهم وأولياءهم.

 الشأن السابق يشير إليه الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ذاته، حين يصف القاهرة التاريخية (القرافة جزء منها)، بأنها ذات نسيج حيوي متضام يجب الحفاظ عليه كما هو، والإبقاء على حجم قطع الأراضي وعرض الشوارع، وحظر بناء الطرق والكباري من دون تصريح من الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. إذ تظهر القرافة كمكون عمراني على مستويات مختلفة. يضع الجهاز كذلك شروطاً صارمة للتعامل مع القاهرة التاريخية من خلال مراعاة النسيج العمراني والطابع المعماري في المنطقة من دون نفور أو بناء مخالف.

يعقب ابراهيم طايع لـ”درج” بقوله: “توجد أبعاد أخرى للموضوع، المساس بمجتمع القرافة ونقل الشواهد مرفوض تماماً، إذ إنك تدمر مجتمع القرافة، لأن القرافة ليست فقط مجرد شواهد، بل هي مكونة من شوارع وناس وهواء حتى. أنا متعلق بالقرافة ككل، على عكس ما يتصور الناس أنها مكان مخصص لدفن الموتى فقط. لذلك أدعوا الناس لزيارتها لكي يروا تلك المعاني. عندما يدخل الأحواش ويتعامل مع الناس هنا وهناك ساعتها يمكن أن يتقين أنه لا يمكن اختزالها، فعند نقل تلك الشواهد هناك حلقة حتماً ستضيع، إذ تمتلك القرافة رموزاً وشخصيات لم نكن نعلم عنها أي شيء، لكن من خلال الزيارات المتتالية بدأنا نعرف تاريخها وقصتها التاريخية، مسألة مثل تلك ستندثر تماماً”.

أين حق الناس العاديين؟!

في حلقة برنامج “يحدث في مصر”، خُصصت حلقة عن مقبرة الخالدين، تساءلت حفيدة محمود سامي البارودي، السيدة قمرية، عن جدها، بوصفه الوحيد الذي يمتلك حيثية تاريخيّة في حوش عائلتها، لكن والدها وأخواته وزوجات العائلة ليست لهم حيثيثة اجتماعية، وبالتالي إذا نقل محمود سامي البارودي من الحوش إلى مقبرة الخالدين، فأين ستنقل رفات باقي العائلة؟.

هذا السؤال في محله أيضاً، إذ يعبر بشكل مضمون وعميق عن فلسفة من فلسفات القرافة، وهي أحواش العائلة، حيث كانت تبني كل عائلة من العائلات حوشاً كبيراً لهم يضم جميع أفراد العائلة الكبيرة والصغيرة، فيما تفضل العائلات التي نشأت بينها نسب أو قرابة أن تجاور بعضها البعض في القرافة. سيتغير هذا  كله ويندثر بمجرد نقل رفات أو شاهد قبر لشخصية وحيدة ذات اعتبار في العائلة إلى مقبرة الخالدين.

بالإضافة إلى أمر آخر، وهو التعامل الطبقي مع المدفونين في القرافة، إذ لا فارق بين الخالدين في القرافة والمهمشين فيها، كلهم يجب أن يتعاملوا باحترام واجب بالعقد الذي أبرموه مع الدولة، ممثلة في مصلحة الجبانات في محافظة القاهرة، وهو أن تحافظ على الأماكن المخصصة للدفن كما هي، فهي ملك لأصحابها وعلى الدولة الإشراف عليها فقط.

06.08.2023
زمن القراءة: 10 minutes

تكونت القرافة على مدار عقود وسنوات طويلة، منذ أن دخل العرب إلى مصر واتخذوها مقابر لهم. لكن ، نظراً الى أن الحكومة لا تتحدث عما هو أثري بمفهومها، لذا سيسلط هذا المقال الضوء والتركيز على ما هو غير أثري أو بالأحرى ما هو غير مسجل في سجلات وزارة السياحة والآثار المصرية.

في حزيران/ يونيو الماضي، وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، بهدف إنشاء “مقبرة الخالدين” في موقع مناسب، لتكون صرحاً يضم رفات عظماء  مصر ورموزها من ذوي المساهمات البارزة في رفعة الوطن على حد تعبير البيان، على أن تتضمن أيضاً متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية، ويتم نقلها من خلال المتخصصين والخبراء، بحيث يشمل المتحف السير الذاتية لعظماء الوطن ومقتنياتهم.

تضم تلك اللجنة جميع الجهات المعنية والأثريين المتخصصين والمكاتب الاستشارية الهندسية، لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر في منطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وتحديد كيفية التعامل مع حالات الضرورة التي أفضت إلى مخطط التطوير، على أن تقوم اللجنة بدراسة البدائل المتاحة والتوصل الى رؤية متكاملة وتوصيات يتم الإعلان عنها للرأي العام قبل يوم الأول من تموز/ يوليو 2023.

تقوم فكرة مقبرة الخالدين بشكل رئيسي على محاكاة النموذج في باريس (Pantheon)، وإنشاء مجمع ضخم يضم رفات الشخصيات البارزة في تاريخ الدولة في مكان واحد.  هذا  النموذج يتيح للناس زيارة المجمع والتعرف على تاريخ كل شخصية مدفونة فيه. تعزز تلك الفكرة التعرف الى الشخصيات بشكل مُجمل وسريع، من دون الخوض في التفاصيل الفلسفية لحياة كل شخص منهم، وترسيخ الحكاية الوطنيّة عبر جمع “رموزها” في مكان واحد.

جاء هذا القرار عقب حالة الجدل الواسعة التي أعقبت التدخلات المتعددة التي قامت بها الحكومة في الآونة الأخيرة في قرافة القاهرة، والتي تتمثل في إنشاء عدد من المحاور والكباري والطرق داخل نسيج القرافة، كان من أبرزها محور الفردوس الذي يربط القاهرة القديمة بالقاهرة الجديدة، ومحور الحضارة والإباجية، ما اضطرهم حينها إلى هدم عدد كبير من المقابر والأحواش التي اعترضت المخطط العمراني الجديد.

كيف تنظر الدولة إلى القرافة؟

تشي القرارات والمقاربات المعلنة بأن النظام الحالي ينظر إلى تلك المنطقة كبؤرة عشوائية ملتهبة، يجب التخلص منها في أسرع وقت، شأنها شأن المناطق العشوائية في القاهرة سواء من ناحية السكان أو من ناحية المباني القديمة المهددة بالانهيار في نظر الحكومة.

 ظهر التوجه السابق جلياً خلال زيارة رئيس الوزراء المصري في حزيران/ يونيو الماضي، التي جاءت تنفيذاً لتكليفات الرئيس بعرض الرؤية المتكاملة لخطوات بدء تنفيذ “مقبرة الخالدين”. 

جاءت زيارته إلى ضريح الزعيم الوطني أحمد عرابي، الذي يعاني من مشاكل إنشائية وبنيوية، كرسالة تعمّد رئيس الوزراء المصري إبرازها من خلال زيارته، ورددها شفهياً، إذ قال إن السبب الجوهري وراء نقل تلك المقبرة، هو أنها غارقة في المياه الجوفية، بالإضافة إلى عدم تمكن الناس من الدفن أسفل الأرض، مستبدلين ذلك بالدفن أعلى الأرض بشكل سطحي. 

زار رئيس الوزراء في جولته السريعة و المجتزأة للقرافة، عدداً من المقابر المهدمة بفعل الزمن، أو ربما بفعل حركات الإنشاءات المتتالية بجانبها، مبرزاً أهمية نقل تلك المقابر إلى مكان لائق أكثر من هذا، مع ضرورة الحفاظ على تاريخ الأمة من الاندثار.

تبرر الدولة نقل المقابر التاريخية وتطويرها بوصفه حاجة ضروريّة، بسبب البنية التحتية الضعيفة في القاهرة التاريخية إجمالاً والقرافة خصوصاً، فضلاً عن كون المدينة تحتاج إلى مزيد من التطوير، وبالتالي ضرورة إنشاء طرق وكباري ورفع كفاءة بعض المناطق، من دون توضيح علمي لعلاقتهما ببعضهما البعض.  

“ضحية” أخطاء الحكومة

يتنافى الواقع تماماً مع نظرة الحكومة إلى تلك المنطقة التاريخية. فمعظم مقابر القرافة التي يتراوح تاريخها من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، في حالة جيدة جداً ولا تحتاج حتى إلى ترميم أو إعادة تأهيل.

 تعمّد رئيس الوزراء زيارة إحدى المقابر القليلة المهدمة في القرافة، وهي ضريح أحمد باشا عرابي الذي انهار بسبب العوامل الإنشائية التي طرأت على المكان، بالإضافة إلى أنه تعمد زيارة المناطق التي تعاني من منسوب زائد من المياه الجوفية والصرف الصحي. 

تعاني القرافة فعلاً من مشكلة في الصرف الصحي والمياه الجوفية، لكن في منطقة محددة دون الأخرى، وهي المنطقة القريبة من بحيرة عين الصيرة. ويرجع هذا السبب أيضاً إلى الحكومة نفسها التي ردمت البحيرة وأقامت هناك محوراً ضخماً، تسبب في تسرب المياه ناحية القرافة، بخاصة بالقرب من ضريح الإمام الشافعي الذي تضرّر هو الآخر.

تلك الأعمال التي قامت بها الحكومة من تطوير للمنطقة من دون مراعاة التأثير السلبي لها، تخالف القوانين المصرية التي تنص على ضرورة إجراء دراسات حول التأثير البيئي للمشروعات التي قد تتضمن آثاراً ضارة على المنطقة. إلا أن الحكومة حتى الآن لم تعر تلك المنطقة أي اهتمام أو عرض حلول حقيقية للتخلص من المياه الجوفية سوى بنقل الترب والأحواش منها. وهو ما يبدو حلاً سهلاً من دون اعتبار لقيمة تلك المناطق.

يقول ابراهيم طايع، الباحث في تاريخ الجبانات، والذي يعمل بشكل دوري على توثيق الأحواش المهددة بالإزالة، لـ”درج”: “هل لأن القرافة متضررة من المياه الجوفية، تتم إزالة كل تلك المقابر؟ هناك حلول علمية يمكن أن تلجأ إليها الحكومة في حلّها. ومشكلة المياه الجوفية موجودة فقط في الجزء القريب من بحيرة عين الصيرة بسبب ردمها من قبل الحكومة. يمكن توفير المبلغ المالي الذي سيتم بناء مقبرة الخالدين به، وتوجيهه إلى حل مشكلة المياه الجوفية في القرافة”، مثلما حصل مثلاً في قبة الإمام الشافعي”.

القرافة : تاريخ مهمّش للنقوش العربيّة

تكونت القرافة على مدار عقود وسنوات طويلة، منذ أن دخل العرب إلى مصر واتخذوها مقابر لهم. لكن ، نظراً الى أن الحكومة لا تتحدث عما هو أثري بمفهومها، لذا سيسلط هذا المقال الضوء والتركيز على ما هو غير أثري أو بالأحرى ما هو غير مسجل في سجلات وزارة السياحة والآثار المصرية.

 أسس محمد علي باشا الحوش الخاص بعائلته في القرافة بجانب قبة الإمام الشافعي، وهو المعروف تاريخياً “بحوش الباشا”، والذي يضم عدداً هائلاً ومميزاً من شواهد القبور لعائلته وبنيه، أهمها شاهد قبر وغرفة طوسون باشا، ابن محمد علي. 

أصبح الحوش وجهة مفضّلة لأمراء الأسرة العلوية وذويهم وأقاربهم ووزرائهم، ثم تلتهم بعد ذلك الطبقة الوسطى في المجتمع، وهي تلك الطبقة التي تعلمت في المدارس التي أنشأها محمد علي باشا في مصر، ثم سافرت في البعثات الأجنبية وعادت مرة أخرى إلى مصر. بالإضافة إلى وجود دائم وغير منقطع للطبقات الأخرى بجوار الإمام الشافعي والليث بن سعيد، اعتقاداً منهم ببركتهما.

لكن مقابر أمراء أسرة محمد علي ووزرائه كانت هي المشكل الرئيسي لعمران القرافة الحالي، إذ تستحوذ على غالبية عمران القرافة بشكل ملحوظ. إذ يمكن أن تجد، من خلال نظرة واحدة من نقطة عالية على سماء القرافة، عدداً هائلاً من القباب والمباني الكثيفة التي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة.

عادة ما تتخذ تلك المقابر نظام الأحواش بمساحة كبيرة، بحيث لا تتكون التربة وحدها من لحد أو قبة، بل من غرف سكنية خاصة بالمقيمين على خدمة الحوش، وحديقة أو بستان بالإضافة إلى مقرأة للقرآن واستراحة لأهل المتوفى يزورونه في أوقات المواسم وذكرى وفاته، ومكتبة تضم كتباً دينية وقاعة استقبال أحياناً تضم مقتنيات صاحب الحوش.

كذلك، عادة ما تحوي تلك الأحواش بين جنباتها تحفاً فنية مثل جزء من ستارة الكعبة أو مصحف مخطوط، أو كتاب عن السيرة النبوية والأحاديث المحمدية وغيرها من المقتنيات التي تضيف الى المقبرة بركة ورونقاً كما يرى أصحابها. 

كانت تلك الأحواش تعبر بشكل رئيسي عن فلسفة كل واحد منهم في الحياة وعلاقته بها وتجاربه معها. فتارة تلاحظ مثلاً المناصب التي تولاها أحدهم وقد نقشها على شاهد قبره بالإضافة إلى النياشين وغيرها من التكريمات. وطوراً تلاحظ زهد أحدهم في الحياة الى درجة أن يكتب اسمه متبعاً بالفقير إلى الله. وتارة تجد أحدهم قد عصفت به الأقدار الى حد لم يعد له من يؤنسه فيدفن وحيداً بين خدامه.

العامل الرئيسي والمشترك بينهم جميعاً، أنهم كانوا يتنافسون كذلك في إبراز أفضل صورة لتلك المقابر من خلال النقوش التي تزين شاهد القبر وواجهة الحوش ومداخله، ومن خلال النمط المعماري الذي تبنى به المقبرة، والذي يعكس أيضاً شخصية صاحبها ومنهجه في الحياة والتأثيرات الفكرية التي مر بها.

تمتلك قرافة القاهرة سجلاً كاملاً وعميقاً من أسماء خطاطين ونقاشين عملوا في تراكمية مذهلة على إنتاج عدد هائل وغير محدود من اللوحات التي كتبت بخطوط مختلفة، مثل النسخ والرقعة والثلث والخط الكوفي. تنافس في ذلك أمهر الخطاطين وأجدرهم في القرنين التاسع عشر والعشرين، أمثال عبد العزيز الرفاعي وأحمد الكامل ومحمد مؤنس زاده ومحمد بك جعفر وغيرهم من الخطاطين المشهورين. 

امتلك كل واحد من هؤلاء الخطاطين والنقاشين مدرسة فنية بعينها، وكان له أتباعه وتلاميذه فيها، يمكنك أن تلاحظ توقيع كل واحد منهم على حدة بين ثنايا سطور الشواهد والواجهات. وهو سجل لا يعرف كثر عنه شيئاً، فضلاً عن كونه بعيداً تماماً من التوثيق وفي طريقه الى الاندثار، فكل لوحة هي في الأصل صفحة تاريخية مهمة في تاريخ الفنون المصرية.

يتحدث الخطاط محمد شافعي، الباحث في تاريخ الخطوط وأحد أبناء أسرة خالد الصوفي زادة، التي اشتهرت بالكتابات خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لـ”درج” قائلاً: “أهمية النقوش الكتابية في القرافة أنه يصعب تزويرها، عكس الكتابات الأخرى التي يمكن أن يتم تزويرها بغرض التربح المالي، ومن هنا تأتي أهمية تلك الكتابات الموجودة في القرافة. بالإضافة إلى أنها مصادر مهمة لتراجم الخطاطين غير المعروفين أو المجهولين في كتب التاريخ”.

يستكمل شافعي حديثه عن أن القرافة تمتلك تواقيع لخطاطين لم يتم رصدها من قبل، يمكن من خلالها أن نؤرخ لأعمالهم من جديد، بالإضافة إلى أنها لم توثق من قبل، الى درجة أننا نتفاجأ بأن هناك أعمالاً جديدة لخطاطين مهمين مثل عبد الله زهدي، صاحب تركيبة إحدى زوجات محمد علي في حوش الباشا.

 هناك نقوش تثبت أن بعض الخطاطين المهمين زاروا مصر في وقت ما مثلاً. لذلك، لا يمكن اختزال هذا الكم الهائل من الفنون في مقبرة الخالدين. إذ إنها مصدر مهم جداً لإعادة كتابة تاريخ الخط مرة أخرى، تستطيع أن ترى ظواهر اجتماعية من خلال الألقاب والمناصب بالإضافة إلى اللغة وطبيعة كتابتها.

الضرائح وتاريخ العمارة

تحوي العمارة في القرافة حيث بنيت معظم قباب القرافة، أنماطاً معمارية متعددة، يعبر كل نمط فيها عن توجه صاحب المنشأة نفسه وتوجه العصر الذي عاش فيه. ففي أعقاب ثورة 1919، الثورة التي أعادت الاعتبار الى الهوية المصرية والى كثير من المصريين، كان لها ظاهر في القرافة، كما الحال في ضريح سعد باشا زغلول القائم في وسط البلد، والذي يحمل ملامح فنية تعبر عن الفن المصري القديم، كذلك كانت هناك نماذج أخرى اتخذت من هذا النمط أسلوباً معمارياً. 

الشاهد على ما سبق، ضريح محمد وعبد الحكيم مرزوق، الأخوين اللذين بنيا ضريحاً على النمط المصري القديم في ترب الغفير، في ما يشبه المعبد المصري القديم في العصر الروماني بتفاصيله المعمارية المختلفة، مثل الكوبرا التي تزين الواجهة من أعلى والأعمدة الجرانيتية التي تكتنف مدخل الباب. فيما تجد كذلك شاهد قبر على شكل مسلة مصرية قديمة تعزز هذا التوجه.

ظهرت كذلك، اتجاهات مختلفة مثل إعادة إحياء العمارة الإسلامية ممثلة في العمارة المملوكية، مثل ضريحي علي باشا فهمي ومحمد علوي في قرافة الإمام الشافعي، اللذين بنيا على النمط المملوكي الجركسي، إذ تم اقتباس معالم فنية كثيرة من مبان تاريخية في القاهرة نفسها لتؤرخ لفترة مهمة وحيوية في مصر. فضلاً عن وجود مهم وظاهر لأنماط معمارية مثل الباروك والروكوكو وغيرهما من الأنماط المعمارية الأخرى.

هل يصلح اختزال القرافة في مقبرة للخالدين؟!

لا تتكون القرافة من تلك الشواهد التي تود الدولة نقلها فحسب، وإنما تتكون من شوارع وحارات وميادين وبساتين وواجهات ووحدات سكنية لأهالي القرافة فضلاً عن حياة كاملة على مدار اليوم والشهر والسنة بمناسباتها المختلفة وظواهرها الاجتماعية المتعددة لأناس جاوروا أئمتهم وأولياءهم.

 الشأن السابق يشير إليه الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ذاته، حين يصف القاهرة التاريخية (القرافة جزء منها)، بأنها ذات نسيج حيوي متضام يجب الحفاظ عليه كما هو، والإبقاء على حجم قطع الأراضي وعرض الشوارع، وحظر بناء الطرق والكباري من دون تصريح من الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. إذ تظهر القرافة كمكون عمراني على مستويات مختلفة. يضع الجهاز كذلك شروطاً صارمة للتعامل مع القاهرة التاريخية من خلال مراعاة النسيج العمراني والطابع المعماري في المنطقة من دون نفور أو بناء مخالف.

يعقب ابراهيم طايع لـ”درج” بقوله: “توجد أبعاد أخرى للموضوع، المساس بمجتمع القرافة ونقل الشواهد مرفوض تماماً، إذ إنك تدمر مجتمع القرافة، لأن القرافة ليست فقط مجرد شواهد، بل هي مكونة من شوارع وناس وهواء حتى. أنا متعلق بالقرافة ككل، على عكس ما يتصور الناس أنها مكان مخصص لدفن الموتى فقط. لذلك أدعوا الناس لزيارتها لكي يروا تلك المعاني. عندما يدخل الأحواش ويتعامل مع الناس هنا وهناك ساعتها يمكن أن يتقين أنه لا يمكن اختزالها، فعند نقل تلك الشواهد هناك حلقة حتماً ستضيع، إذ تمتلك القرافة رموزاً وشخصيات لم نكن نعلم عنها أي شيء، لكن من خلال الزيارات المتتالية بدأنا نعرف تاريخها وقصتها التاريخية، مسألة مثل تلك ستندثر تماماً”.

أين حق الناس العاديين؟!

في حلقة برنامج “يحدث في مصر”، خُصصت حلقة عن مقبرة الخالدين، تساءلت حفيدة محمود سامي البارودي، السيدة قمرية، عن جدها، بوصفه الوحيد الذي يمتلك حيثية تاريخيّة في حوش عائلتها، لكن والدها وأخواته وزوجات العائلة ليست لهم حيثيثة اجتماعية، وبالتالي إذا نقل محمود سامي البارودي من الحوش إلى مقبرة الخالدين، فأين ستنقل رفات باقي العائلة؟.

هذا السؤال في محله أيضاً، إذ يعبر بشكل مضمون وعميق عن فلسفة من فلسفات القرافة، وهي أحواش العائلة، حيث كانت تبني كل عائلة من العائلات حوشاً كبيراً لهم يضم جميع أفراد العائلة الكبيرة والصغيرة، فيما تفضل العائلات التي نشأت بينها نسب أو قرابة أن تجاور بعضها البعض في القرافة. سيتغير هذا  كله ويندثر بمجرد نقل رفات أو شاهد قبر لشخصية وحيدة ذات اعتبار في العائلة إلى مقبرة الخالدين.

بالإضافة إلى أمر آخر، وهو التعامل الطبقي مع المدفونين في القرافة، إذ لا فارق بين الخالدين في القرافة والمهمشين فيها، كلهم يجب أن يتعاملوا باحترام واجب بالعقد الذي أبرموه مع الدولة، ممثلة في مصلحة الجبانات في محافظة القاهرة، وهو أن تحافظ على الأماكن المخصصة للدفن كما هي، فهي ملك لأصحابها وعلى الدولة الإشراف عليها فقط.

06.08.2023
زمن القراءة: 10 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية