لم تمض 24 ساعة على قرار مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي، حتى دعا الرجل إلى مؤتمر صحافي للتعليق على الأحداث التي شهدتها شوارع بغداد بعد غضب أنصاره واحتلالهم ساحات المنطقة الخضراء والقصر الجمهوري، ونزول عناصر من ميليشيا “السلام” التابعة للصدر على الأرض واشتباكها بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة مع عناصر من ميليشيات تابعة للإطار التنسيقي مدعومة من إيران، وسقوط ما يزيد على 15 قتيلاً وعشرات الجرحى في فلتان أمني ودموي يحمل خطر الانزلاق إلى حرب أهلية.
بدا الصدر في تعاطيه مع الأزمة، كطفل صغير ذكي، يعرف كيف يبتزّ أهله وأترابه وإدارة مدرسته(في هذه الحالة إيران)، للحصول على ما يشاء. ينفعل الطفل ويبكي قائلاً إنه لا يريد ان يلعب بعد الآن، إنه سيعتكف في غرفته، ثم سرعان ما يتراجع ويطالب باللعب، ويستدعي رفاقه إلى غرفته، إذا تعذّر عليه الذهاب إليهم. يلعب معهم، ويمارس معهم الخشونة فيدفعهم ويضربهم ويضربونه، ثم ينتفض مجدداً، ويقول للجميع، إنه أصلاً معتكف عن اللعب، وإنه لا يحب العنف. وبمنطق معكوس أيضاً، يتعامل الصدر مع أنصاره. يعاملهم كأطفال، فيكون له هامش أن يتبرأ منهم اذا ما ارتكبوا ما قد يحرجه، فيوبّخهم علناً ويصرخ عليهم وينهرهم ويطالبهم بالعودة إلى “المنزل” لأنهم لطّخوا سمعة “أبيهم”، ولما يصيرون في البيت، يغدق عليهم حنانه، لا بل يشجعهم على ما فعلوه، كأب فخور بـ”شيطنة” ابنائه وقدرتهم على الابتزاز، طالما أن هذا الإبتزاز يؤمن مصالح “العائلة”.

هكذا، وفي مشهد لا يخلو من تناقض مضحك، يخرج الصدر ليخاطب أنصاره، ويحمّلهم مسؤولية الدم المسال في شوارع العراق، كما لو أنهم يتصرفون من تلقائهم، وكما لو أنه لا يملك سلطة عليهم. لكنه في الآن عينه، يتحدث إليهم بصيغة الأمر، هو العالم بأن كلمته لا تناقش داخل تياره، ويعطيهم مهلة ساعة للخروج من مجلس النواب والشارع، وإلا يتبرأ منهم. هكذا، وبذكاء مشبّع بالخبث، يستخدم الصدر جمهوره لينفذ أجندته، ويبتزّ بهم خصومه ويفرض شروطه. ثم يعمد إلى التبرؤ من هذا الجمهور، وغسل يديه منه، ووصفه بـ”اللامسؤول والطائش”، ثم يوجّه تحية إلى خصمه(وجّه الصدر في مؤتمره الصحافي تحية إلى الحشد الشعبي!) قبل أن يصدر أوامر صارمة، فينصاع جمهوره بخنوع وبلا نقاش وينفّذ ما يريده القائد.
والتناقض في الأصل قائم، بين قرار الصدر اعتزال العمل السياسي، وخروجه في مؤتمر صحافي للحديث في الشأن السياسي وتحديد خطوات سياسية مستقبلية، ووضع برنامج لأنصاره. ثم في المؤتمر نفسه، يعيد تأكيد قراره النهائي بالاعتزال. كما لو أنه، في خضمّ حديث عن الإقلاع عن التدخين، يستلّ سيجارة ويشعلها، ويكمل الحديث عن التزامه بقراره، غير آبه بتعليقات من يتابعونه ويرون بوضوح كيف يمجّ سيجارة السياسة وكيف ينبعث من فمه الدخان في وجه جمهوره. ثم يطفؤها، على الهواء مباشرة، يطعنها في صحن سجائر أمامه. وعلى الملأ، يأخذ نفساً عميقاً ثم يكمل تفنيد مضار التدخين ومخاطره على الصحة وعلى مستقبل العراق!
إقرأوا أيضاً: