يرجعنا الحراك الشعبي في السودان ضد النظام الاستبدادي العسكري وحلفائه الإسلاميين إلى بدايات الثورة السورية والنقاش المحتدم في أوساط المثقفين السوريين، عندما بدأت القوى الإسلامية الأصولية تتسلل إلى قلب الحراك السلمي الذي افتتح الانتفاضة الكبرى للشعب السوري، ضد نظام الطاغية بشار الأسد.
لم يُظهر السوريون في الشهور الستة الأولى من انتفاضتهم أي ميل لعسكرة حراكهم ولا أي شعارات إسلامية، غير الشعار الذي يلجأ إليه الضعفاء عادة “يا الله ما إلنا غيرك يا الله”، فقد كانت تلك الانتفاضة المغدورة منذ البدء، انتفاضة الشعب كله بجميع أطيافه الاجتماعية والدينية، والمحرك الأساس والجامع لهم كان المطالبة بالحرية وإنهاء الاستبداد. لذلك التفت حول هذا المحرك قطاعات شعبية ونخبوية من مختلف قطاعات الشعب السوري ومن كل الحالمين بالحرية في العالم، إلى أن بدأ التغلغل الإسلامي الأصولي إلى جسد الثورة وراح ينهشها وينهش إشعاعاتها الصادقة الممتدة إلى خارج الجسد السوري. باكراً أعلن مثقفون سوريون يساريون في الغالب، مواقفهم من هذا التغلغل الإسلامي وانقسموا كما أرى إلى ثلاث فئات.
فئة رأت في المشاركة الإسلامية في الثورة السورية فرصةً مقبولة لا بل مطلوبة في المواجهة مع نظام دموي، واجه المتظاهرين والشعب بآلة قتل استخدم فيها كل ما في ترسانته من وسائل قتل وحشي، وإن الهدف الآن هو التخلص من النظام وإلى حينه فلا كلام ولا نقد للتوغل الإسلامي الذي سيسيطر لاحقاً على قيادة الصراع مع النظام. ومن أبرز رموز هذه الفئة الكاتب السياسي اليساري والسجين السابق في مرحلة الأسد الأب، ياسين الحاج صالح الذي كتب منشوراً على صفحته في “فيسبوك” في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2012 :
“من هلق ليسقط النظام ما في سلفيين ولا شياطين ولا أشرار غيرو(أي النظام)… هالحكي خشن وشعبوي ويخدش أحاسيسكم يا أخوان. بس بصراحة ما عندنا غيرو!”.
وإضافة إلى ياسين الحاج صالح، كتب في تلك الفترة من النقاش المحتدم الناقد السوري المعارض الذي يعيش في باريس منذ عقود، صبحي الحديدي في جريدة القدس العربي، وكان يشبّه “المجاهدين” الإسلاميين في سوريا، باللواء الأممي من شيوعيي العالم الذين قاتلوا إلى جانب الجمهوريين الأسبان، ضد فاشية نظام الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الأسبانية عام 1936. وعندما كتبنا منتقدين هذا المنطق الأخرق في فهم الثورات في قديمها وحديثها، تنطح لنا في رسالة على الخاص في “فيسبوك” الصحافي السوري بشير البكر، يطالبنا بالهدوء، فالمرحلة غير مؤاتية للنقد، لأن المعركة الشرسة الآن مع العدو الرئيس أي النظام .
أما الفئة الثانية فهي التي مثلها وما يزال يمثلها الشاعر السوري أدونيس، الذي وإن كنا نتفق معه في الموقف النظري العام وليس في التفاصيل من الأصولية الإسلامية والدين، إلاّ أن أدونيس كان نموذجاً ساطعاً للمحامي الذي باع نفسه للشياطين الحاكمين في دمشق وطهران، فموقفه ضد الأصولية الإسلامية تركّز حصراً ضد الأصولية السنية ولم يقم بنقد ذاتي لموقفه من تأييد الخمينية وبيع نفسه في رسالته الشهيرة لـ”سيادة الرئيس بشار الأسد” الذي جاء وارثاً مغتصباً للسلطة في سوريا، وهو ما يتناقض جذرياً مع ما يزعمه أدونيس من رؤية تخريبية جميلة لكل المفاهيم القديمة الثابتة. فوقع في ذلك كله في حفرة تأييد النظام وارتكب خيانة بشعة لصرخات الحرية التي انطلقت من حناجر السوريين المقموعين وبرّر موقفه بأن صرخات الحرية خرجت من الجوامع، التي كانت المكان الوحيد لإمكان تجمّع الناس في مكان واحد وفي الوقت نفسه، من دون أن يتعرّضوا للقتل في الشوارع.
أما الفئة الثالثة فهي التي مثلها، وستظل أفكاره تمثلها إلى الأبد، المفكر الماركسي الحقيقي الدكتور صادق جلال العظم الذي لم يتوقف عن نقد الفكر الديني منذ عقود طويلة، وإعلان موقفه وانحيازه للفكر العلماني اللاديني، وفي الوقت نفسه موقفه الحازم والواضح ضد الاستبداد في سوريا والعالم .
هل امتلك المثقفون اليساريون السوريون الجرأة على القيام بعملية نقد ذاتي بعد كل الخراب الذي لحق بالثورة السورية، التي كان انتصارها حلم أجيال سورية وعربية من المحيط إلى الخليج، والتي اغتالتها كل الأطراف الدولية والإقليمية والعربية ومن ضمن هؤلاء المعارضة السورية التي رهنت نفسها لقوى عربية وتركية فتخلّت عن حلم الشعب السوري الذي دفع دماء فائضة عن حاجة الحرية إلى الدماء؟
إقرأ أيضاً:
الخوف من المقارنة بين عنف الأسد وعنف إسرائيل
سهام ناصر صديقتي الحبيبة