“باتريك كان صوته عالياً في كل حاجة تخص البلد، صفحته على فيسبوك كانت أشبه بالمرصد لكل الانتهاكات التي تحدث سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وصحياً، طموحه عال مثل صوته، لكن مصيره الآن غير معلوم خلف القضبان”.
في لقاء مع أصدقاء مقربين من الباحث المصري الشاب المعتقل باتريك جورج، حاولنا معرفة الكثير عنه قبل اعتقاله، بخاصة أن الوقت لم يسعفنا لنبني معه خبرة إنسانية ومهنية داخل العمل، بعد “إيمايلات” قصيرة وتعارف سريع، أثمر مقالاً وحيداً معنا، بعنوان “تهجير وقتل وتضييق: حصيلة أسبوع في يوميات أقباط مصر!” والذي بسببه أحالته نيابة أمن الدولة للمحاكمة الاستثنائية بتهمة “إشاعة أخبار كاذبة بالداخل والخارج”. وهذا أمر لم يتأكد لنا سوى منذ فترة قصيرة بعد الإعلان رسمياً عن الأمر.
كانت جهة الاتهام حضّرت لباتريك وقت القبض عليه قبل عام ونصف العام، بحثاً أمنياً من 10 أوراق، عبارة عن “سكرين شوت” من حسابه الشخصي على “فايسبوك” لاتهامه بإشاعة أخبار وبيانات كاذبة، والتحريض على التظاهر من دون الحصول على تصريح، والتحريض على قلب نظام الحكم، وإدارة واستخدام حساب على الشبكة المعلوماتية بغرض الإخلال بالنظام العام والإضرار بالأمن القومي، ولأن باتريك أنكر في التحقيقات علاقته بهذا الحساب فقد أصبح مقاله في “درج” دليل إدانته الأكبر.
“تعرض منذ اليوم الأول لاستجوابه للتعذيب الذي تخطى الضرب والصعق بالكهرباء على مدار 24 ساعة، لكنه طلب مني عدم ذكر تفاصيل حتى لا تتأثر أسرته بما مر به خلال استجوابه”.
“أحلام الفتى الطائر” من المنصورة إلى الثورة
نشأ باتريك جورج في محافظة المنصورة التي تبعد من القاهرة 130 كيلومتراً، أنهى الدراسة الثانوية في ظل تغيير تاريخي عاشته مصر مع بدء الثورة، ووسط التظاهرات ونقاشات المقاهي واجتماعات “الاشتراكيين الثوريين”، تخرج من الجامعة طبيباً صيدلياً، لكنه غيّر وجهته ناحية “مصنع” المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، كان هذا المسار المخالف لما تمنته عائلته، بخاصة أن والده يعمل في المجال الطبي والدوائي، ما يسهل عليه الطريق، لكن باتريك كان بالفعل فتى طائراً يحلق ويهبط على مساره الشخصي بدقة بغض النظر عن التكلفة الباهظة لهذا الاختيار.
يقول صديق باتريك لـ”درج”: “كان مختصاً في ملف الجندر بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية ولعب دوراً مهماً في التوثيق لكل ملفات مجتمع الميم وانتهاكاته، أبرزها أحداث الاعتقالات التي أعقبت إقامة حفل فرقة مشروع ليلى في مصر والتنكيل بعدد من المنتمين لمجتمع الميم، كل القضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي في مصر كانت في معمل باتريك، وعلى رغم ذلك؛ منذ عمله في المبادرة عام 2016 كان لا يتمالكه الفضول للعمل في ملفات أخرى خارج الجندر، كنت أقول له يا باتريك ركز في تخصصك لكنه كان يبهرني لأن هذا الفضول كان يكفيه لدراسة معظم الملفات والمشاركة فيها”.
يروي صديقه أنه على رغم ملامحه وشخصيته الطفولية كان”مهيبر” ينتقل من مقهى إلى آخر ليخوض أحاديث مع أصدقاء هنا وهناك حول أوضاع البلد، وحين يأخده الإنهاك ليعود إلى المنزل تتسع صفحته لبوستات تذكّر بقضايا المعتقلين كي لا ننساهم فضلاً عن منشورات داعمة للمعارضين.
وجه باتريك الطفولي بدأ يترهل في السجن ليظهر معه وجه رجل كبير، هكذا ينقل صديق باتريك تعليق محامية حضرت آخر جلسة معه هذا الشهر “باتريك وشه كبر في السجن مبقاش وشه طفل زي زمان”.
باتريك أمضى ليلته الأولى بعد الاعتقال تحت التعذيب بحسب ما قال محاميه صامويل ثروت في تصريحات لـ”درج”، “تعرض منذ اليوم الأول لاستجوابه للتعذيب الذي تخطى الضرب والصعق بالكهرباء على مدار 24 ساعة، لكنه طلب مني عدم ذكر تفاصيل حتى لا تتأثر أسرته بما مر به خلال استجوابه”.
إقرأوا أيضاً:
ضابط “المنصورة” إذ يُطيح باتريك ببساطة
في بداية عام 2019 استقبل باتريك استدعاء “ودياً” كما يصفه صديق باتريك، من ضابط أمن الدولة في محافظة المنصورة، علم باتريك من الاستدعاء الذي اختار عدم حضوره أنه كان ضابطاً من محافظته اعتاد مراقبة حسابه الشخصي ومنشوراته على “فايسبوك”. عادة ما تكون المحافظات البعيدة من القاهرة، ملجومة حتى لا تخرج منها أصوات معارضة، لكن نشاط باتريك على “فايسبوك” كان ملحوظاً، فاعتبر الضابط أن من واجبه تأديب الشاب المشاكس.
كعادة الفتى الطائر لم يعط اهتماماً لهذا الفضول الأمني لضابط المنصورة وطار إلى بولونيا في إيطاليا لاقتناص المنحة التي جاءته أخيراً بدعم من الاتحاد الأوروبي، لدراسة النوع الاجتماعي، يقول صديقه “لأن دراسة باتريك كانت الصيدلة كان من الصعب أن يحصل على منحة في مجال الجندر، وعندما جاءته المنحة طار من السعادة. في إيطاليا لم يتوقف عن التدوين على صفحته الشخصية ولم يتوقف الضابط أيضاً عن متابعته بفضول أكثر”.
علمنا من صديق باتريك أن ضابط الأمن الوطني في المنصورة أمر باقتحام منزل والدي باتريك وشقيقته، على رغم علمه بأن باتريك خارج البلاد، لم يستطع الضابط تمالك فكرة خروج الشاب وتماديه في التحليق.
هل كان باتريك جورج ضحية بطش فردي لضابط أمن الدولة في المنصورة؟ قد لا نستطيع أن نجزم بهذا بشكل كامل، لكن ما حدث أثناء الهجمة الأمنية على المبادرة المصرية للحقوق الشخصية واعتقال مديريها الثلاثة لا يجعلنا نستبعد ما حدث مع باتريك.
في تقرير بعنوان “أزمة المبادرة ..ما وراء الكواليس” كشفت منصة “مدى مصر” عن أن القبض على المديرين الثلاثة جاء بقرار فردي من مسؤول أمني من دون مشورة أي أجهزة أمنية وهو ما أحرج الرئاسة بعد الضجة الكبرى، عقب التنكيل بأعضاء المبادرة، وهو ما أجبر مؤسسة الرئاسة على إسناد مهمة خروجهم إلى جهاز أمني يدير الوضع ويفرج عن المديرين الثلاثة بتعهد مكتوب بالالتزام بقانون الجمعيات الأهلية!
تم القبض على باتريك جورج فور وصوله إلى مطار القاهرة بعد أول إجازة دراسية له من بولونيا، لم يمهله الأمن فرصة أن يوضح لوالده على الهاتف ما يحصل معه، كان باتريك على اتصال مع والده وفجأة تم اقتياده وانقطع الاتصال.
روى المحامي ثروت لـ”درج” تفاصيل المكالمات الأخيرة لباتريك مع والده بعد هبوطه إلى مطار القاهرة: “اضطررنا إلى سماع تسجيل المكالمة بين باتريك ووالده حتى نعلم متى تم إلقاء القبض عليه، فقد هاتف باتريك والده فور هبوطه في مطار القاهرة ليعلمه بوصوله، لكنه بعد دقائق أخبر والده أن هناك مجموعة من الأفراد داخل المطار تحاول استجوابه ثم اقتياده بالقوة حتى أُغلق هاتف باتريك نهائياً”.
ظلال ريجيني…من كرسي الباحث إلى الصعق بالكهرباء
قابلت جوليو ريجيني مرة واحدة وكان يحمل وجهاً طفولياً و”هيبرة” مثل التي يحملها باتريك، وحين علمت باختفائه قلت: هذا الشاب لن يحتمل ما سيحدث معه، وبالفعل قتلوه “كما لو كان مصرياً” مثلما وصفت والدته، ما يحدث مع باتريك يُذكر رفاقه الإيطاليين بمرارة ما حدث مع جوليو ريجيني الباحث الإيطالي العمالي الذي تمت تصفيته في القاهرة على يد رجال الأمن كما ترجح النيابة الإيطالية.
ودع باتريك آخر عام ونصف العام من عشريناته داخل السجن، هذه الفترة التي كان سينهي فيها بحثه الخاص بالمنحة قبل أن يسير نحو تجربة أخرى وحلم آخر، لكنه الآن يكبر في السجن لأن النظام لم يتحمّل صدقه وحماسته.
حتى اللحظة يقيم الباحثون والحقوقيون الإيطاليون وقفات احتجاجية آخرها تظاهرة Free Zaki، التي كتبت بأجساد المتظاهرين في ساحة ديل بوبولو في فاينسا، كما قرأ عدد من أعضاء الاتحاد الأوروبي مقاطع من مقال باتريك على “درج”، تضامناً معه مطلع أيلول/ سبتمبر، ومن المتوقع أن تشهد الجلسة المقبلة له الحكم النهائي في قضيته.
إقرأوا أيضاً: