راسلني كيتو سينو على سبيل الشكر بعد انتهاء الملتقى الشعري الذي استضافه ودُعيت إليه، منوِّهاً بـ”تحمّلي المكان وهو لا يزال في طور الإنشاء”، ومستخدماً في مستهل الرسالة القصيرة كلمة تحبّب كردية صادف لحسن الحظ أنني أفهمها! بهذه الرسالة استكمل كيتو ما يعتقد أنه واجب الضيافة تجاه المشاركين، وكنت قد توجّهتُ بالتحية إلى الجميع في منشور على حسابي في فيسبوك، مع الإشارة “التي تشبه الوعد” بأنهم يستحقون وقفة تتجاوز منشوراً مختصراً. لكن وعداً غير قاطع هو غير ملزم أيضاً، فأحياناً يفتر حماسنا لتراجع انفعال عارض ألمّ بنا، وأحياناً نتراجع عن الكتابة فقط لأننا نفتقد مدخلاً مُرضياً لها.
تستحق تجربة الملتقى الشعري الذي انعقد في بروكسل أن يُكتب عنها، ولو أنها في طور الإنشاء، بل تحديداً لأنها في طور الإنشاء، وربما من المستحسن بقاؤها فيه. هذا الوضعية التي تصف أتيليه-Atelier كيتو سينو صالحة لوصف حال الملتقى، ولمغادرة المجاز الذي قد يطغى عليها لا بأس بشرح حال الأتيليه:
هو مكان أُنشئ بأكمله من الخشب والطين والتبن، وفي الأصل كان مكاناً مهجوراً في بروكسل؛ بسبب نزاع على ملكيته. ما فعله كيتو أنه أتى بالخشب والتبن، أما الطين فكان حاضراً من حفر المكان نفسه لأسباب إنشائية. بالعناصر الثلاثة البسيطة استأنف كيتو سيرة البيوت الطينية القديمة في سوريا، ولا يخفى ما في مغامرته من رهان على البساطة الممتدة على مبنى من ثلاثة طوابق يُضاف إليها قبو، مشغولة جميعاً من المواد ذاتها.
ينبغي أن نضيف الكتب، فهناك كمية ضخمة من الكتب المتناثرة بحسبان هنا وهناك لتكون جزءاً غير نافر من بساطة المكان، ولتكون جزءاً من هويته لا يظهر بمثابة ادّعاء فج. الكتب موجودة بكثرة في الطابق الأرضي المخصص لنشاطات الأتيليه، وموجودة أقل في الطابق الأول المخصص ليكون صالوناً للجلوس، بينما يحتوي الطابق الأخير الذي يعلوه على ثلاث غرف نوم كان عليها استيعاب الضيوف مع شقة تقليدية في البناء المجاور. لم تكن الغرف كافية لاستيعاب الآتين الذين ربما زاد عددهم عن المتوقع، فتولى الصالون مهمة استيعابهم.
كأنّ أحد الشروط غير المعلنة للملتقى هو تخلّي المشاركين ليومين عن جزء من خصوصيتهم، وإلا لن يكون الأمر سهلاً عليهم إطلاقاً؛ لنقلْ أن هذا ضمن نصيبهم من التطوع في نشاط قائم جملة وتفصيلاً على فكرة التطوع. من جهة ثانية، يبدو ذلك شبيهاً بزمن الرحلات الشبابية أيام الجامعة، عندما كان النوم وشروط الإقامة المريحين هما آخر ما يُفكَّر فيه؛ لأن الاهتمام منصبّ على اللقاء نفسه، وعلى السمر مع الأصحاب. هذا القسط من التطوع لا بد أن يتواضع أمام مساهمة بعض المشاركين؛ رودي “كمثَل بارز” تولّت ليومين الجانب الأكبر من تحضير العشاء للمشاركين وللحضور، فأحضرت معها مذاق المطبخ الحلبي، وكذلك اللكنة الحلبية التي يتخفّى في ثناياها جرسُ الكردية.
ثم شاءت هذه الروح أن تمتد إلى الجمهور، فبعد انتهاء أمسية اليوم الأول والاستراحة والعشاء التاليين عليها لبّت الفنانة التونسية غالية بن علي المطالَبات بأن تغنّي، ولم يكن ذلك من ضمن البرنامج. لغالية تجربة خاصة بأداء الشعر رفقة الموسيقى، هي تترنّم بما تنتقيه من قصائد بأداء يجمع بين التلاوة والغناء، مع فهم منها لطبيعة اللون الذي تؤديه وخبرة موسيقية لا تخفى. من المتوقع أن هذه الخبرة جعلتها أشدّ انتباهاً من بقية الحاضرين إلى جهاز الصوت المتواضع، لكنها لم تكن السبب الوحيد في كرمها؛ إذ تطوعت في اليوم الثاني بإحضار جهاز صوت أفضل.
كنتُ قد وافقت على الفور عندما اتصل بي سلام حلّوم وحسين برّو من أجل المشاركة في الملتقى، لم أسأل عن تفاصيل العمل التطوعي الذي ينظّمانه مع آخرين. قسط وافر من الموافقة الفورية يتعلق برغبة اللقاء بهما بعد انقطاع لحوالي عقد ونصف، والجزء الآخر منها متعلق بتلك الثقة العتيقة بين أصدقاء قدامى سبق لهم أن اختبروا معاً الكثير من الملتقيات الشعرية وغير الشعرية، الناجحة وغير الناجحة. أتى سلام لملاقاتي في محطة قطارات بروكسل رفقة عبدالحميد برو، وبعد العناق بدا كل شيء على ما يُرام حقاً، والوصفة البسيطة لهذا الذي على ما يرام أن يُستأنف الحديث بيننا كأنه توقف في الأمس، وأن ترتسم تلك الابتسامات المطمئنة إلى ذلك.
ربما سبقني صديقي سلام فيما مضى إلى المشاركة في ملتقى جامعة حلب الأدبي، وهو نشاط استمر قرابة عقد على مدرجات الجامعة. أما عبدالحميد فهو من بين ثلاثة أشقاء كانوا قريبين دائماً من تجربة الملتقى؛ الثالث الأكبر هو الراحل صلاح. لحسين “الأوسط” اهتمام بالمسرح لم يتحقق كما يحب، وقد عرفناه دائماً بمبادرات ثقافية تطوعية لم يندر أن تعود عليه بالخسارة، ولم يندر أن يعاود المحاولة مباشرة بعد قليل من التعافي. “ملتقى حلب لقصيدة النثر” من بين آخر مبادراته التي لم أطلع عليها عن قرب، وقد انعقد مرتين في حلب التي كنت قد غادرتها إلى دمشق، لكن وصلتني انطباعات طيبة عنه من صديقات وأصدقاء استضافهم الملتقى في حلب.
أي أن المتطوعين لإقامة ملتقى بروكسل يستأنفون تجربة ابتدأت معهم في حلب، لذا أتت التسمية “ملتقى حلب لقصيدة النثر-بروكسل 2024 “.
وكان ممكناً “بالطبع وبالتأكيد” اختيار تسمية أخرى للملتقى الحالي، لولا أن المتطوعين لإقامته قد اتفقوا على أنهم يريدون استئناف ما سبق، لا البدء من جديد. هنا اختيار واعٍ جداً، مهما بدا غريباً ونافلاً، فالسوريون بمعظمهم تعبوا من البدء من جديد مرة تلو المرة، في سوريا نفسها، وفي بلدان اللجوء. وإذا كانت فكرة الانقطاع والبدء من جديد فكرة مرغوباً فيها على الدوام من بوابة الشعر، فإنها بالنسبة لهم فقدت ذلك الوهج القديم، وصار الانقطاع معتاداً والاستقرار صعب المنال؛ بهذا المعنى صارت فكرة الاستقرار أكثر شاعرية! ورغم أن حسين لم يقدّم فيما سبق فكرته كاستئناف لملتقى الجامعة، إلا أن التسمية لا بد أن تحيل إليها في أذهان العارفين بها، وإن كانت دلالة التسمية قد تبدلت بين الأمس واليوم، فاكتسبت كلمة الملتقى معنى معطوفاً على الشتات السوري الحالي.
استئنافاً لهذا التغير في الأحوال، يبدو أن السوريين لم يعد لديهم فضول قوي تجاه العالم، فهذه هي المرة الأولى التي أشارك فيها ضمن نشاط يبقى فيه المضيف والمنظمون والضيوف في مكان الاستضافة طوال يومَي النشاط! لم يخرج أحد في جولة للتعرف على المدينة، أو هروباً لوقت قصير من الكثافة التي يصنعها وجود المشاركين والمنظمين في حيّز ليس خاصاً مهما اتسع واقعياً ومجازياً. ثمة قدرة على التحمّل يُظهرها البشر في الظروف الاستثنائية، وهكذا لم يتسلل أحد خارجاً لمشاهدة نهائي كأس أوروبا في كرة القدم، بل هكذا أتى أولئك الذين ضحّوا بمشاهدة المباراة من أجل حضور أمسية اليوم الثاني للملتقى!
أقول لنفسي: تستحق هذه الروح كتابة من نوع مختلف، كتابة تتجاوز ذلك المعنى العمومي لأولئك الذين يخاطَبون عادة بـ”الحضور الكريم”. هكذا ينبغي البحث عن صياغة تستوعب مثلاً الحديث مطوّلاً عن الصديق الروائي خليل الرز، بدءاً من كونه أحد صُنّاع مهرجان جامعة حلب الأدبي الذي اتخذ اسم الملتقى لاحقاً. ثم تطول القائمة لتشمل العشرات من اللواتي، والذين صاروا ضمن الجزء الحميم من اللقاء: غالية وكندة وغسان وبراء وهشام وسهاد… أيضاً، نور التي من غزة تدير مطعماً في بروكسل “يروي قصة مذاق من هناك”، ولديها من هناك قصة عائلية طازجة وصادمة بغرائبيتها، هي الأجدر بكتابتها. وهكذا ينبغي البحث عن صياغة أرحب للحديث عن كيتو المضيف بشخصه المحبَّب، وعن أصدقاء للملتقى تواجدوا فيه بفعالية طوال الوقت مثل السيد محسن وآحو وأوراس ومحمد ومصطفى…
وماذا عن الشعر والشعراء؟
بصفتي مشاركاً، لست الشخص الأنسب للكتابة عن الزملاء من شاعرات وشعراء. أما عن الشعر، فربما كان بعض السطور السابقة محاولة لتقصّيه وهو يحدث خارج أوقات قراءته مدفوعاً بالحب؛ الحب الذي اتفقنا في نهاية اللقاء على أن غيابه وصفة للفشل، وإن لم يكن وجودُه وصفةً كافية لاستمرار الملتقى ونجاحه.
إقرأوا أيضاً: