fbpx

ممنوعات النقيب: كيف تحول هاني شاكر إلى “أمين شرطة الطرب”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أن من لا يغني “تسلم الأيادي” و”بشرة خير” و”مشربتش من نيلها” في مصر، لن يجد له مكاناً!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“حاولنا قدر المستطاع محاربة هذا الفن الهابط عن طريق منع من يقدمونه من إقامة حفلاتهم وعدم إعطائهم تصاريح، كما حظرنا على الموسيقيين أعضاء النقابة التعاون مع هؤلاء في أي عمل”. 

يخوض الفنان هاني شاكر، نقيب الموسيقيين المصريين، “حرب وجود” مستمرة، وتصريحه السابق ليس سوى معركة من بين معارك كثيرة يفتعلها تارة باسم الدولة، وطوراً باسم الفن، وأحياناً تحت مظلة الأخلاق، وفي أحيان أخرى برفع شعار الوطن. 

على يدي هاني شاكر، تحوّلت “نقابة الموسيقيين” من بيت للمطربين والملحنين ومكان لاكتشاف النجوم والمواهب إلى “سفينة نوح” التي تنجو بمن عليها بـ”الفن الراقي” وفق مفهومه، وتمنع الآخرين من ممارسة الفن والغناء لاختلاف أصواتهم، وكلماتهم، وأغنياتهم، ونوعية ما يقدّمونه عن النوعية المفضّلة لهاني شاكر ورفاقه. 

كما تحولت إلى محكمة تصدر أحكاماً بالإعدام لمواهب وأصوات شابة، وتمنع عنهم تصاريح إقامة الحفلات وتحاصرهم بلا سبب، وتحاسبهم بمعايير تناقض حرية الفن والإبداع، وتضيِّق هوامش الحرية والتعبير على الجميع، فالأغنيات التي لا تلقى رواجاً، ترحّب “نقابة الموسيقيين” بها وبأصحابها، بينما التي تنتشر انتشاراً مهولاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي و”يوتيوب”، يباشر مجلس نقابة الموسيقيين مطاردتها، لإحكام القبضة على الثقافة الشعبية وأصوات الهامش التي لا تأبه- ولو قليلاً- بقوانين الكبار والفن الذي تريده الدولة… يبدو أن من لا يغني “تسلم الأيادي” و”بشرة خير” و”مشربتش من نيلها” في مصر، لن يجد له مكاناً.

إلى جانب كونه ذراعاً للدولة في تدجين الغناء والمطربين وإدخالهم “حظيرة الوطن”، يفرض شاكر منظومة قيمه على جميع المطربين، حتى يحافظوا على مواقعهم، وفي الأمر مصالح شخصية للمجموعات التي سمحت له بالوصول إلى منصب نقيب الموسيقيين المصريين. الرجل يريد أن يبقى نقيباً، وبقراراته المعادية لـ”حرية الإبداع” يحافظ على منصبه، فالذين يمنحونه أصواتهم هم- في هذه الحالة- ناخبون وليسوا فنانين، والناخب ينتظرُ من النقيب أن يحقق له منفعة خاصة. لهذا، ولأسباب أخرى، هي “حرب بقاء”.

من يعيش أكثر هاني شاكر أم حسن شاكوش؟

في 16 شباط/ فبراير 2020، أصدرت “نقابة المهن الموسيقية” بياناً يمنع مطربي المهرجانات من الغناء في المنشآت السياحية والبواخر النيلية والملاهي الليلية والكافيهات، وهدَّدت من يخالف القرار بعواقب قانونية. والمهرجانات هي نوع من الأغنيات التي تنتمي للموسيقى الإلكترونية الشعبية.

بدا القرار موقفاً من الدولة تجاه أغنيات المهرجانات، التي كانت أحدثها وأكثرها انتشاراً، في ذلك الوقت، “بنت الجيران“، التي حققت نحو 542 مليون مشاهدة على “يوتيوب”، لكن العجيب أن الدولة ذاتها أقامت حفل عيد الحب في استاد القاهرة وخالفت قرار “نقابة الموسيقيين” بدعوة حسن شاكوش وعمر كمال لإحيائه. 

إذاً، كان هذا موقفاً منفرداً من هاني شاكر ومجلس نقابة الموسيقيين و”الكتلة الصلبة” في النقابة تحت مظلة حماية الأخلاق، فاعتراض النقيب كان يدور حول ورود كلمة “خمور وحشيش” في أغنية “بنت الجيران”، إذ لا يجوز غناء مثل هذه الكلمات. وفي حوار لاحق، قال شاكر ليبرّر موقفه:  غناء المهرجانات لا يليق باسم مصر.

يدفع شاكر الأمر إلى زاوية وطنية وقومية، من دون أن يحدّد هوية الأغنيات التي تليق باسم مصر، فهل هي أغنياته؟

من النادر أن تتخطّى إحدى أغنياته- وأغلبها رومانسية- 100 ألف مشاهدة عبر مواقع بث الأغنيات، بينما تتخطّى المهرجانات مئات الملايين. وهذه الأرقام تسحبُ البساط من أسفل النقيب، الذي يبلغ من العمر 68 سنة، والجيل القديم، فبدلاً من أن يأتي به أحدهم ليحيي زفافه، يأتي بمغنٍ أكثر شعبية وأكثر قدرة على إشعال المناسبات والتواصل مع الشباب مثل حسن شاكوش.

وبدلاً من أن تستضيف إحدى حفلات الساحل الشمالي محمد الحلو، تفضل عمر كمال وحمو بيكا، فأجورَهما أقل وقدرتهما على جذب الناس لقطع التذاكر وحضور الحفلات تبلغ أضعافاً، فلا يحظى جيل هاني شاكر بالاهتمام الذي يحصل عليه فنانو المهرجانات أو المطربون الجدد، وهو ما يشعل الحرب على الغنائم والمكاسب بينهما، مع تأييد مئات الموسيقيين الذين يسدّون الأبواب أمام الأجيال الجديدة التي قد تنهي عهودهم وتسحب من مواردهم.. لكن هذا يحدثُ من دون موافقة نقابة الموسيقيين، فمغنو المهرجانات يربحون من منصات نشر الأغنيات، ومن استضافتهم في البرامج التلفزيونية والحفلات المنزلية وحفلات الزفاف، ويحققون انتشاراً لا يوازيه أي انتشارٍ لهاني شاكر وجيله في الوقت الراهن، ليزداد الصراع حِدة وعنفاً واشتعالاً.

وتزعجُ هاني شاكر المهرجانات أيضاً كونها تنتشرُ بعيداً من منظومة الإنتاج التقليدية، فهي لا تمر على الرقابة وكلماتها لا تُسجَّل في “جمعية الشعراء والملحنين المصرية”، ولا تحصل على موافقات أو تُنظَّم بعقود ووثائق، وهو ما يمنحها هامشاً واسعاً من الحرية التي يمكن أن تزعج السلطات، الأمر الذي يحرجه أمام الدولة كنقيب إذا خرجت مثل هذه الأغنيات من بين المنتسبين لنقابته. أغاني المهرجانات تتحدى آليات الرقابة التي تفرضها الدولة وتتمرّد على الموسيقى التي تتصدّر الاحتفالات الرسمية، وتنتصر على أجيال قديمة لا تزال مُغطاة بغبار تجارب عتيقة. ومؤدو المهرجانات حرروا أنفسهم مالياً بفضل الانتشار المذهل لحفلاتهم وأغانيهم على الإنترنت، فلم يعودوا رهناً للضوابط المرهقة التي تفرضها النقابة، إضافة إلى أنهم أصبحوا أكثر ظهوراً وتأثيراً بسبب موضوعات مهرجاناتهم التي تتناول قضايا ومشكلات حياتية ويومية كالأصدقاء والأحبة الخائنين، والإفلاس، والأزمات المادية، وقلة الطيبين، وتعاطي المخدرات، والبطالة، والحب بمفردات شعبية، وبالنسبة إلى أجندة الدولة، يمكن اعتبار ما يقدمونه “أغنيات ثورية”.

“ممنوعات” النقيب

هذا الحرص الشديد على تهذيب المطربين وضمان عدم خروجهم عن النص، دفع نقابة الموسيقيين إلى توجيه الكثير من التهديدات والإنذارات وإصدار قرارات بالمنع من الغناء والإيقاف والإحالة للتحقيق بحق عدد كبير من الموسيقيين، مثل أحمد سعد، وشيرين عبد الوهاب، ودينا الوديدي، وهيفاء وهبي، وإيمان البحر درويش، ومحمد الريفي، وأوكا، وأورتيجا، وشيما، ومصطفى حجاج، إلى جانب منع حفلات من دون توضيح الدوافع، وفرض غرامات لأسباب تتعلق بالإجراءات، وإبلاغ الشرطة عن موسيقيين، وملاحقة حمو بيكا في ساحات المحاكم، وإنذارات للفنانات اللائي يظهرنَ بملابس “غير محتشمة” في الحفلات.

هاني شاكر

يروي هاني شاكر، في حوار حديث لـ”سي إن إن” أنه نصح المطربة اللبنانية هيفاء وهبي بمراعاة العادات والتقاليد في مصر بسبب ملاحظات على ملابسها، وقال: “كانت لابسة لبس خارج عن الطبيعي والعادي، وقصير زيادة عن اللزوم، وتواصلت معها وكلمتها بمنتهى الحب، وقلت لها: المصنفات اعترضت على الصور اللي ظهرت، واللي ينفع يتلبس في أوروبا مينفعش يتلبس في مصر”.

لم يروِ هاني شاكر، أنه لم يكتف بالنصيحة، بل مُنعت هيفاء من الغناء في مصر بعد ارتدائها “شورت” في إحدى حفلاتها، ووجهت لها “نقابة الموسيقيين” إنذاراً، وألغي حفل آخر لها.

أوقفت النقابة 6 مطربات “محدودات الشهرة” لممارستهنّ الرقص مع الغناء، وأنذرت دوللي شاهين أيضاً لارتدائها ملابس “غير لائقة” في إحدى الحفلات.

وكانت تلك القرارات تعبيراً عن ولع هاني شاكر بالسيطرة على الجميع عبر الدخول من ثغرات سنّها بنفسه، فكان أول قراراته في النقابة، تحديد “كود أزياء” للمطربات، ومراقبة الحفلات لمتابعة مطابقتها الكود، الذي كان مطاطاً وفضفاضاً ليمنح النقيب وأعضاء مجلسه الحق في مجازاة أي فنانة بحسب الهوى، فكانت الملابس الممنوعة- بحسب القرار- هي تلك “الخارجة عن حدود اللياقة” و”المخالفة للأعراف العامة”.

لم ينتهِ شاكر من المطربات حتى التفت إلى محمد رمضان، الممثل الأكثر انتشاراً في مصر، الذي يقيم حفلات ويغني نوعاً من الموسيقى الإلكترونية، يحقق مئات الملايين من مرات الاستماع والمشاهدة على “يوتيوب”، فانتقد ظهوره عاري الصدر بحجة “مخالفة العادات والتقاليد المصرية المختلفة عن العادات في أوروبا وأميركا، وهذا الشكل غير مقبول لأنه يعتمد على الرقص والعري”.

يشبه هاني شاكر رجلاً عجوزاً متقاعداً يسنّ قواعد وقوانين يعتقد أنها تحقق له سطوة على الآخرين بحكم مكانته القانونية نقيباً للموسيقيين، لكن كل ما يسنّه يتم خرقه يومياً في الشوارع والحانات والحفلات الخاصة وجلسات الشباب. لا ينتبه هاني شاكر إلى أن ما يفرضه هو قيود تضرب حرية الفن والإبداع وسط أجيال جديدة لا تتماهى مع القوانين، إنما تخرقها وتصنع بدائل مناسبة، وتتخذ مظلات بديلة للمظلات التقليدية التي تتعالى عليه.

الشوفينية والوطنية طريقك إلى السلطة!

يعبر نقيب الموسيقيين عن حالة مصرية سائدة، فهو يرى أن المهرجانات وحرية الزي والإبداع هدم للثوابت المصرية وغير لائقة باسم مصر، ويلوّن جميع قراراته بصبغة وطنية شوفينية ثم يصدر أغنيات باللهجة الخليجية التي يمنحُ انتشارها أفضلية وثراءً ثقافياً للفكر والثقافة الخليجيين، اللذين تحتدم المنافسة بينهما وبين الثقافة المصرية على مذبح تركي آل الشيخ. 

يقدم أغنيات رومانسية بلغة عصره وجيله كأغنية “يا ريتني قابلتك قبل ما أقابل حد”، ويلوم الشباب الذين يغازلون من يحبّون، بلغة تناسب أجيالهم الجديدة كـ”بنت الجيران”.

يهاجم الفنانين الجدد بحجة التفاهة ومخالفة الذوق وهدم الطرب المصري الأصيل، قبل أن يركبَ الموجة ويغني برفقة الفنان الشعبي أحمد سعد.

ومن المعتاد في مصر، طوال عشرات السنوات، أن تواجه الأغنية الشعبية هجوماً يخفت تدريجياً حتى يأتي غناء شعبي أكثر حداثة، ليجعل القديم ملائماً وجميلاً، في نظر القوى التقليدية التي تحكم الفن والثقافة والمجتمع، فحين ظهر أحمد عدوية واجهت أغنيته “السح الدح إمبو” غضباً عارماً، وتحوّل عدوية مع الوقت إلى رمز من رموز الفن المصري، وهو ما حدث مع شعبان عبد الرحيم وعبد الباسط حمودة، حتى جاء من بعدهما جيل جديد من المغنين الشعبيين ليصبح الأول “مطرب الموقف السياسي” بفضل أغنياته المهاجمة لإسرائيل، والثاني “حكمدار الأغنية الشعبية”.

يفرض شاكر منظومة قيمه على جميع المطربين، حتى يحافظوا على مواقعهم، وفي الأمر مصالح شخصية للمجموعات التي سمحت له بالوصول إلى منصب نقيب الموسيقيين المصريين.

وكان دياب ومحمود الليثي وبوسي سمير وأمينة مرفوضين تطوّقهم نداءات استغاثة لإفسادهم الذوق العام، وتحوّلوا لاحقاً إلى نجوم غناء وسينما. فمن زاوية أخرى، يمكن اعتبار معارك هاني شاكر فصولاً من الحرب التاريخية ضد الأغنية الشعبية، التي دائماً ما تسحب من رصيد مطربي الحب والغرام والرومانسية لحساب المغنين الشعبيين. 

حدث هذا مع عدوية، الذي نافس عبد الحليم حافظ، وتكرر مع شعبان عبد الرحيم، الذي تفوّق- لبعض الوقت- على محمد منير في سوق “الكاسيت”، وتظل الحرب مشتعلة بين الأجيال الجديدة من الجانبين في سياق “الصراع على المصالح” الذي يريد له البعض أن يكونَ معركة للدفاع عن الفن الراقي، على رغم أن الدستور المصري الحالي يكفل حرية الإبداع الفني والأدبي، ويلزم في المادة 67 الدولة بـ”النهوض بالفنون والآداب ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك”.

لكن من يقف ضد السلطة التنفيذية للموسيقيين في مصر؟ 

لا يوجد في المادة الدستورية ما يلزم “نقابة الموسيقيين” بإجراءات محددة، وتبقى المادة مجردة ونظرية، بحسب مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ويخضع تفسيرها لذائقة السلطة السياسية والاجتماعية، التي تحتكر تأويل هذه البنود وتطبيقها كما ترى، فتدعم ما تعتبره إبداعاً وتصادر ما لا يتطابق مع تعريفها للإبداع. 

وربما كان هذا هو دور نقابة الموسيقيين، الذي من أجله دعمت الدولة “الرسمية” هاني شاكر نقيباً، فهي تطوّق المجال العام بإحكام، وتزيد من المؤسسات والجهات والهيئات التي يمر من خلالها أي عملٍ إبداعي لتضمن تهذيبه ورقابته وعدم خروجه عن النصّ أو الذائقة التي تفرضها، كما يحدث في سوق إنتاج الدراما والسينما والصحافة. وكانت “نقابة الموسيقيين” إحدى أذرعها لإحكام قبضتها على الفن، فعلى سبيل المثال، أنشأ مجلس الوزراء المصري، عام 2018، ما يعرف بـ”اللجنة الدائمة لتنظيم إقامة المهرجانات والاحتفالات” برئاسة وزيرة الثقافة، مكونة من ممثلين عن 8 وزارات أخرى، ولم يعرف أحد ما هو دورها تحديداً، سوى إنشاء المزيد من الجهات لـ”فرز” ما يصلح تقديمه من الفن وما لا يصلح. 

أمين شرطة الطرب في رحاب السلطة السلفية

تُعرف السلطة الحالية بأنها سلفية الهوى، فهي آتية من الحياة العسكرية التي تلزم أفرادها بالصلوات الخمس والقرآن والطبيعة المحافظة. صار هذا توجهاً يرسم شكل الحياة بالكامل، فهي تؤمن بالفن حين يحمل رسالة اجتماعية أو دينية أو وطنية واضحة، ولا تتسامح مع المشاهد العارية، ولا تفضّل الإبداع أو “الشطط” في الإبداع، لتصبح أغلب توجهاتها وأنشطتها ذات هدف واضح هو فرض السيطرة والانضباط على الحياة الاجتماعية، فبعض الألفاظ لا يجوز، وبعض المشاهد لا ينفعُ، والكثير مما يحدث حرام ولا يتماشى مع القيم.

تلك السلطة الجديدة كانت ناقمة وغاضبة من المظاهر الجديدة في الفن والإعلام كالفيديو كليب وموجات الفنانات والموديلز “شبه العاريات”. وصار لديها مشروع “قيمي” يقوم على استعادة الماضي العريق والمكانة الحضارية وإيقاظ الهوية المصرية ولا يجوز الخروج عنه، فلن تجد الآن قبلة في فيلم، أو حضناً حميمياً في مسلسل، ولن تجدَ “علاقات آثمة” أو “بيكيني” أو قضايا حساسة كالجنس والمثلية، وكأن الدولة أخ كبير لا يريد أن يفتح أعيننا على الأفكار الشريرة. ولتحقيق ذلك، اختارت أذرعاً تتماهى مع تلك الرؤية وتنفذها.

وهاني شاكر من هذه الأذرع المؤثرة. هضم المشروع بجانبيه الاجتماعي والديني تماماً وبدأ من اليوم الأول تطبيقه، فبدأ يحدّد قيوداً على ملابس الفنانات في الحفلات، وصاغ مشروعه النقابي على هذا الأساس، فاحتفظ بمنصب النقيب لولايتين متتاليتين. وكان بدأ فترته الأولى بإطلاق مبادرة الحفاظ على التراث المصري والهوية الفنية، ولأجل ذلك استصدر من وزارة الثقافة قرارات تؤدي إلى تقوية “شوكة” نقابة الموسيقيين ومنحها صلاحيات تنفيذية، تتجاوز كونها نقابة مهنية تحافظ على حقوق أعضائها، كي يتشكَّل المشروع الكبير، مشروع الدولة، بمشاركة الجميع. 

وكانت القرارات تنصّ على منح النقابة سلطة موازية لهيئة الرقابة على المصنفات الفنية، والحق في إصدار تراخيص الـ”دي جي” التي تصدرها “هيئة المصنفات”، وبدأ مدّ خطوط اتصال مع جميع الجهات بشكل فعلي، فأعلن عن طباعة “كارنيهات العضوية” في مطابع الشرطة، وبدأ التنسيق مع الجهات الأمنية لتنفيذ قرارات النقابة، حتى إنه حصل من وزير العدل على صلاحية الضبط القضائي بصفته نقيباً للموسيقيين، ليحصل على حق الضبط والتفتيش وتحرير محاضر والتحقيق مع من يراهم مخالفين. وألغيت الضبطية القضائية بحكم صادر من المحكمة العسكرية، لكن شاكر طالب بعودتها أكثر من مرة، بحجة أنها كانت تمكّن النقابة من التصدي لمغني المهرجانات. ويبدو أن دور “أمين شرطة الطرب” قد أعجبه. وانطبعت تلك الضبطية الأمنية على لهجة النقابة الفنية في بياناتها وقراراتها، فسادتها جمل كـ”مواجهة عواقب قانونية، والإضرار بمصلحة البلاد، والدخلاء”. 

 هل الدور الجديد لنقابة الموسيقيين قانوني؟

تأسست النقابة بموجب القانون 35 لسنة 1978، الذي تنظم المادة الثالثة منه أهداف النقابة، وهي: النهوض بفنون المسرح والسينما والموسيقى، العمل على كفالة حقوق أعضاء النقابة في الأداء العلني، وضمان حصولهم على هذه الحقوق في الداخل والخارج والسعي لدى الجهات المختصة لاستصدار التشريعات اللازمة لذلك، ورعاية مصالح أعضاء النقابة في ما بينهم وبالنسبة إلى الغير.

لم يتضمن القانون أيَ أعمال رقابية كالتي يلهث وراءها هاني شاكر، إنما ليس وحده، فالمنظومة بالكامل تلهث وراء الرقابة على الثقافة والفن والترفيه، خوفاً من أن تتحوّل الموسيقى إلى ألحان ثورية، أو تعود “الكلمة الرافضة” التي أسقطت زعماءً سابقين، إلى مجدها.

إقرأوا أيضاً:

09.08.2021
زمن القراءة: 10 minutes

يبدو أن من لا يغني “تسلم الأيادي” و”بشرة خير” و”مشربتش من نيلها” في مصر، لن يجد له مكاناً!

“حاولنا قدر المستطاع محاربة هذا الفن الهابط عن طريق منع من يقدمونه من إقامة حفلاتهم وعدم إعطائهم تصاريح، كما حظرنا على الموسيقيين أعضاء النقابة التعاون مع هؤلاء في أي عمل”. 

يخوض الفنان هاني شاكر، نقيب الموسيقيين المصريين، “حرب وجود” مستمرة، وتصريحه السابق ليس سوى معركة من بين معارك كثيرة يفتعلها تارة باسم الدولة، وطوراً باسم الفن، وأحياناً تحت مظلة الأخلاق، وفي أحيان أخرى برفع شعار الوطن. 

على يدي هاني شاكر، تحوّلت “نقابة الموسيقيين” من بيت للمطربين والملحنين ومكان لاكتشاف النجوم والمواهب إلى “سفينة نوح” التي تنجو بمن عليها بـ”الفن الراقي” وفق مفهومه، وتمنع الآخرين من ممارسة الفن والغناء لاختلاف أصواتهم، وكلماتهم، وأغنياتهم، ونوعية ما يقدّمونه عن النوعية المفضّلة لهاني شاكر ورفاقه. 

كما تحولت إلى محكمة تصدر أحكاماً بالإعدام لمواهب وأصوات شابة، وتمنع عنهم تصاريح إقامة الحفلات وتحاصرهم بلا سبب، وتحاسبهم بمعايير تناقض حرية الفن والإبداع، وتضيِّق هوامش الحرية والتعبير على الجميع، فالأغنيات التي لا تلقى رواجاً، ترحّب “نقابة الموسيقيين” بها وبأصحابها، بينما التي تنتشر انتشاراً مهولاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي و”يوتيوب”، يباشر مجلس نقابة الموسيقيين مطاردتها، لإحكام القبضة على الثقافة الشعبية وأصوات الهامش التي لا تأبه- ولو قليلاً- بقوانين الكبار والفن الذي تريده الدولة… يبدو أن من لا يغني “تسلم الأيادي” و”بشرة خير” و”مشربتش من نيلها” في مصر، لن يجد له مكاناً.

إلى جانب كونه ذراعاً للدولة في تدجين الغناء والمطربين وإدخالهم “حظيرة الوطن”، يفرض شاكر منظومة قيمه على جميع المطربين، حتى يحافظوا على مواقعهم، وفي الأمر مصالح شخصية للمجموعات التي سمحت له بالوصول إلى منصب نقيب الموسيقيين المصريين. الرجل يريد أن يبقى نقيباً، وبقراراته المعادية لـ”حرية الإبداع” يحافظ على منصبه، فالذين يمنحونه أصواتهم هم- في هذه الحالة- ناخبون وليسوا فنانين، والناخب ينتظرُ من النقيب أن يحقق له منفعة خاصة. لهذا، ولأسباب أخرى، هي “حرب بقاء”.

من يعيش أكثر هاني شاكر أم حسن شاكوش؟

في 16 شباط/ فبراير 2020، أصدرت “نقابة المهن الموسيقية” بياناً يمنع مطربي المهرجانات من الغناء في المنشآت السياحية والبواخر النيلية والملاهي الليلية والكافيهات، وهدَّدت من يخالف القرار بعواقب قانونية. والمهرجانات هي نوع من الأغنيات التي تنتمي للموسيقى الإلكترونية الشعبية.

بدا القرار موقفاً من الدولة تجاه أغنيات المهرجانات، التي كانت أحدثها وأكثرها انتشاراً، في ذلك الوقت، “بنت الجيران“، التي حققت نحو 542 مليون مشاهدة على “يوتيوب”، لكن العجيب أن الدولة ذاتها أقامت حفل عيد الحب في استاد القاهرة وخالفت قرار “نقابة الموسيقيين” بدعوة حسن شاكوش وعمر كمال لإحيائه. 

إذاً، كان هذا موقفاً منفرداً من هاني شاكر ومجلس نقابة الموسيقيين و”الكتلة الصلبة” في النقابة تحت مظلة حماية الأخلاق، فاعتراض النقيب كان يدور حول ورود كلمة “خمور وحشيش” في أغنية “بنت الجيران”، إذ لا يجوز غناء مثل هذه الكلمات. وفي حوار لاحق، قال شاكر ليبرّر موقفه:  غناء المهرجانات لا يليق باسم مصر.

يدفع شاكر الأمر إلى زاوية وطنية وقومية، من دون أن يحدّد هوية الأغنيات التي تليق باسم مصر، فهل هي أغنياته؟

من النادر أن تتخطّى إحدى أغنياته- وأغلبها رومانسية- 100 ألف مشاهدة عبر مواقع بث الأغنيات، بينما تتخطّى المهرجانات مئات الملايين. وهذه الأرقام تسحبُ البساط من أسفل النقيب، الذي يبلغ من العمر 68 سنة، والجيل القديم، فبدلاً من أن يأتي به أحدهم ليحيي زفافه، يأتي بمغنٍ أكثر شعبية وأكثر قدرة على إشعال المناسبات والتواصل مع الشباب مثل حسن شاكوش.

وبدلاً من أن تستضيف إحدى حفلات الساحل الشمالي محمد الحلو، تفضل عمر كمال وحمو بيكا، فأجورَهما أقل وقدرتهما على جذب الناس لقطع التذاكر وحضور الحفلات تبلغ أضعافاً، فلا يحظى جيل هاني شاكر بالاهتمام الذي يحصل عليه فنانو المهرجانات أو المطربون الجدد، وهو ما يشعل الحرب على الغنائم والمكاسب بينهما، مع تأييد مئات الموسيقيين الذين يسدّون الأبواب أمام الأجيال الجديدة التي قد تنهي عهودهم وتسحب من مواردهم.. لكن هذا يحدثُ من دون موافقة نقابة الموسيقيين، فمغنو المهرجانات يربحون من منصات نشر الأغنيات، ومن استضافتهم في البرامج التلفزيونية والحفلات المنزلية وحفلات الزفاف، ويحققون انتشاراً لا يوازيه أي انتشارٍ لهاني شاكر وجيله في الوقت الراهن، ليزداد الصراع حِدة وعنفاً واشتعالاً.

وتزعجُ هاني شاكر المهرجانات أيضاً كونها تنتشرُ بعيداً من منظومة الإنتاج التقليدية، فهي لا تمر على الرقابة وكلماتها لا تُسجَّل في “جمعية الشعراء والملحنين المصرية”، ولا تحصل على موافقات أو تُنظَّم بعقود ووثائق، وهو ما يمنحها هامشاً واسعاً من الحرية التي يمكن أن تزعج السلطات، الأمر الذي يحرجه أمام الدولة كنقيب إذا خرجت مثل هذه الأغنيات من بين المنتسبين لنقابته. أغاني المهرجانات تتحدى آليات الرقابة التي تفرضها الدولة وتتمرّد على الموسيقى التي تتصدّر الاحتفالات الرسمية، وتنتصر على أجيال قديمة لا تزال مُغطاة بغبار تجارب عتيقة. ومؤدو المهرجانات حرروا أنفسهم مالياً بفضل الانتشار المذهل لحفلاتهم وأغانيهم على الإنترنت، فلم يعودوا رهناً للضوابط المرهقة التي تفرضها النقابة، إضافة إلى أنهم أصبحوا أكثر ظهوراً وتأثيراً بسبب موضوعات مهرجاناتهم التي تتناول قضايا ومشكلات حياتية ويومية كالأصدقاء والأحبة الخائنين، والإفلاس، والأزمات المادية، وقلة الطيبين، وتعاطي المخدرات، والبطالة، والحب بمفردات شعبية، وبالنسبة إلى أجندة الدولة، يمكن اعتبار ما يقدمونه “أغنيات ثورية”.

“ممنوعات” النقيب

هذا الحرص الشديد على تهذيب المطربين وضمان عدم خروجهم عن النص، دفع نقابة الموسيقيين إلى توجيه الكثير من التهديدات والإنذارات وإصدار قرارات بالمنع من الغناء والإيقاف والإحالة للتحقيق بحق عدد كبير من الموسيقيين، مثل أحمد سعد، وشيرين عبد الوهاب، ودينا الوديدي، وهيفاء وهبي، وإيمان البحر درويش، ومحمد الريفي، وأوكا، وأورتيجا، وشيما، ومصطفى حجاج، إلى جانب منع حفلات من دون توضيح الدوافع، وفرض غرامات لأسباب تتعلق بالإجراءات، وإبلاغ الشرطة عن موسيقيين، وملاحقة حمو بيكا في ساحات المحاكم، وإنذارات للفنانات اللائي يظهرنَ بملابس “غير محتشمة” في الحفلات.

هاني شاكر

يروي هاني شاكر، في حوار حديث لـ”سي إن إن” أنه نصح المطربة اللبنانية هيفاء وهبي بمراعاة العادات والتقاليد في مصر بسبب ملاحظات على ملابسها، وقال: “كانت لابسة لبس خارج عن الطبيعي والعادي، وقصير زيادة عن اللزوم، وتواصلت معها وكلمتها بمنتهى الحب، وقلت لها: المصنفات اعترضت على الصور اللي ظهرت، واللي ينفع يتلبس في أوروبا مينفعش يتلبس في مصر”.

لم يروِ هاني شاكر، أنه لم يكتف بالنصيحة، بل مُنعت هيفاء من الغناء في مصر بعد ارتدائها “شورت” في إحدى حفلاتها، ووجهت لها “نقابة الموسيقيين” إنذاراً، وألغي حفل آخر لها.

أوقفت النقابة 6 مطربات “محدودات الشهرة” لممارستهنّ الرقص مع الغناء، وأنذرت دوللي شاهين أيضاً لارتدائها ملابس “غير لائقة” في إحدى الحفلات.

وكانت تلك القرارات تعبيراً عن ولع هاني شاكر بالسيطرة على الجميع عبر الدخول من ثغرات سنّها بنفسه، فكان أول قراراته في النقابة، تحديد “كود أزياء” للمطربات، ومراقبة الحفلات لمتابعة مطابقتها الكود، الذي كان مطاطاً وفضفاضاً ليمنح النقيب وأعضاء مجلسه الحق في مجازاة أي فنانة بحسب الهوى، فكانت الملابس الممنوعة- بحسب القرار- هي تلك “الخارجة عن حدود اللياقة” و”المخالفة للأعراف العامة”.

لم ينتهِ شاكر من المطربات حتى التفت إلى محمد رمضان، الممثل الأكثر انتشاراً في مصر، الذي يقيم حفلات ويغني نوعاً من الموسيقى الإلكترونية، يحقق مئات الملايين من مرات الاستماع والمشاهدة على “يوتيوب”، فانتقد ظهوره عاري الصدر بحجة “مخالفة العادات والتقاليد المصرية المختلفة عن العادات في أوروبا وأميركا، وهذا الشكل غير مقبول لأنه يعتمد على الرقص والعري”.

يشبه هاني شاكر رجلاً عجوزاً متقاعداً يسنّ قواعد وقوانين يعتقد أنها تحقق له سطوة على الآخرين بحكم مكانته القانونية نقيباً للموسيقيين، لكن كل ما يسنّه يتم خرقه يومياً في الشوارع والحانات والحفلات الخاصة وجلسات الشباب. لا ينتبه هاني شاكر إلى أن ما يفرضه هو قيود تضرب حرية الفن والإبداع وسط أجيال جديدة لا تتماهى مع القوانين، إنما تخرقها وتصنع بدائل مناسبة، وتتخذ مظلات بديلة للمظلات التقليدية التي تتعالى عليه.

الشوفينية والوطنية طريقك إلى السلطة!

يعبر نقيب الموسيقيين عن حالة مصرية سائدة، فهو يرى أن المهرجانات وحرية الزي والإبداع هدم للثوابت المصرية وغير لائقة باسم مصر، ويلوّن جميع قراراته بصبغة وطنية شوفينية ثم يصدر أغنيات باللهجة الخليجية التي يمنحُ انتشارها أفضلية وثراءً ثقافياً للفكر والثقافة الخليجيين، اللذين تحتدم المنافسة بينهما وبين الثقافة المصرية على مذبح تركي آل الشيخ. 

يقدم أغنيات رومانسية بلغة عصره وجيله كأغنية “يا ريتني قابلتك قبل ما أقابل حد”، ويلوم الشباب الذين يغازلون من يحبّون، بلغة تناسب أجيالهم الجديدة كـ”بنت الجيران”.

يهاجم الفنانين الجدد بحجة التفاهة ومخالفة الذوق وهدم الطرب المصري الأصيل، قبل أن يركبَ الموجة ويغني برفقة الفنان الشعبي أحمد سعد.

ومن المعتاد في مصر، طوال عشرات السنوات، أن تواجه الأغنية الشعبية هجوماً يخفت تدريجياً حتى يأتي غناء شعبي أكثر حداثة، ليجعل القديم ملائماً وجميلاً، في نظر القوى التقليدية التي تحكم الفن والثقافة والمجتمع، فحين ظهر أحمد عدوية واجهت أغنيته “السح الدح إمبو” غضباً عارماً، وتحوّل عدوية مع الوقت إلى رمز من رموز الفن المصري، وهو ما حدث مع شعبان عبد الرحيم وعبد الباسط حمودة، حتى جاء من بعدهما جيل جديد من المغنين الشعبيين ليصبح الأول “مطرب الموقف السياسي” بفضل أغنياته المهاجمة لإسرائيل، والثاني “حكمدار الأغنية الشعبية”.

يفرض شاكر منظومة قيمه على جميع المطربين، حتى يحافظوا على مواقعهم، وفي الأمر مصالح شخصية للمجموعات التي سمحت له بالوصول إلى منصب نقيب الموسيقيين المصريين.

وكان دياب ومحمود الليثي وبوسي سمير وأمينة مرفوضين تطوّقهم نداءات استغاثة لإفسادهم الذوق العام، وتحوّلوا لاحقاً إلى نجوم غناء وسينما. فمن زاوية أخرى، يمكن اعتبار معارك هاني شاكر فصولاً من الحرب التاريخية ضد الأغنية الشعبية، التي دائماً ما تسحب من رصيد مطربي الحب والغرام والرومانسية لحساب المغنين الشعبيين. 

حدث هذا مع عدوية، الذي نافس عبد الحليم حافظ، وتكرر مع شعبان عبد الرحيم، الذي تفوّق- لبعض الوقت- على محمد منير في سوق “الكاسيت”، وتظل الحرب مشتعلة بين الأجيال الجديدة من الجانبين في سياق “الصراع على المصالح” الذي يريد له البعض أن يكونَ معركة للدفاع عن الفن الراقي، على رغم أن الدستور المصري الحالي يكفل حرية الإبداع الفني والأدبي، ويلزم في المادة 67 الدولة بـ”النهوض بالفنون والآداب ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك”.

لكن من يقف ضد السلطة التنفيذية للموسيقيين في مصر؟ 

لا يوجد في المادة الدستورية ما يلزم “نقابة الموسيقيين” بإجراءات محددة، وتبقى المادة مجردة ونظرية، بحسب مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ويخضع تفسيرها لذائقة السلطة السياسية والاجتماعية، التي تحتكر تأويل هذه البنود وتطبيقها كما ترى، فتدعم ما تعتبره إبداعاً وتصادر ما لا يتطابق مع تعريفها للإبداع. 

وربما كان هذا هو دور نقابة الموسيقيين، الذي من أجله دعمت الدولة “الرسمية” هاني شاكر نقيباً، فهي تطوّق المجال العام بإحكام، وتزيد من المؤسسات والجهات والهيئات التي يمر من خلالها أي عملٍ إبداعي لتضمن تهذيبه ورقابته وعدم خروجه عن النصّ أو الذائقة التي تفرضها، كما يحدث في سوق إنتاج الدراما والسينما والصحافة. وكانت “نقابة الموسيقيين” إحدى أذرعها لإحكام قبضتها على الفن، فعلى سبيل المثال، أنشأ مجلس الوزراء المصري، عام 2018، ما يعرف بـ”اللجنة الدائمة لتنظيم إقامة المهرجانات والاحتفالات” برئاسة وزيرة الثقافة، مكونة من ممثلين عن 8 وزارات أخرى، ولم يعرف أحد ما هو دورها تحديداً، سوى إنشاء المزيد من الجهات لـ”فرز” ما يصلح تقديمه من الفن وما لا يصلح. 

أمين شرطة الطرب في رحاب السلطة السلفية

تُعرف السلطة الحالية بأنها سلفية الهوى، فهي آتية من الحياة العسكرية التي تلزم أفرادها بالصلوات الخمس والقرآن والطبيعة المحافظة. صار هذا توجهاً يرسم شكل الحياة بالكامل، فهي تؤمن بالفن حين يحمل رسالة اجتماعية أو دينية أو وطنية واضحة، ولا تتسامح مع المشاهد العارية، ولا تفضّل الإبداع أو “الشطط” في الإبداع، لتصبح أغلب توجهاتها وأنشطتها ذات هدف واضح هو فرض السيطرة والانضباط على الحياة الاجتماعية، فبعض الألفاظ لا يجوز، وبعض المشاهد لا ينفعُ، والكثير مما يحدث حرام ولا يتماشى مع القيم.

تلك السلطة الجديدة كانت ناقمة وغاضبة من المظاهر الجديدة في الفن والإعلام كالفيديو كليب وموجات الفنانات والموديلز “شبه العاريات”. وصار لديها مشروع “قيمي” يقوم على استعادة الماضي العريق والمكانة الحضارية وإيقاظ الهوية المصرية ولا يجوز الخروج عنه، فلن تجد الآن قبلة في فيلم، أو حضناً حميمياً في مسلسل، ولن تجدَ “علاقات آثمة” أو “بيكيني” أو قضايا حساسة كالجنس والمثلية، وكأن الدولة أخ كبير لا يريد أن يفتح أعيننا على الأفكار الشريرة. ولتحقيق ذلك، اختارت أذرعاً تتماهى مع تلك الرؤية وتنفذها.

وهاني شاكر من هذه الأذرع المؤثرة. هضم المشروع بجانبيه الاجتماعي والديني تماماً وبدأ من اليوم الأول تطبيقه، فبدأ يحدّد قيوداً على ملابس الفنانات في الحفلات، وصاغ مشروعه النقابي على هذا الأساس، فاحتفظ بمنصب النقيب لولايتين متتاليتين. وكان بدأ فترته الأولى بإطلاق مبادرة الحفاظ على التراث المصري والهوية الفنية، ولأجل ذلك استصدر من وزارة الثقافة قرارات تؤدي إلى تقوية “شوكة” نقابة الموسيقيين ومنحها صلاحيات تنفيذية، تتجاوز كونها نقابة مهنية تحافظ على حقوق أعضائها، كي يتشكَّل المشروع الكبير، مشروع الدولة، بمشاركة الجميع. 

وكانت القرارات تنصّ على منح النقابة سلطة موازية لهيئة الرقابة على المصنفات الفنية، والحق في إصدار تراخيص الـ”دي جي” التي تصدرها “هيئة المصنفات”، وبدأ مدّ خطوط اتصال مع جميع الجهات بشكل فعلي، فأعلن عن طباعة “كارنيهات العضوية” في مطابع الشرطة، وبدأ التنسيق مع الجهات الأمنية لتنفيذ قرارات النقابة، حتى إنه حصل من وزير العدل على صلاحية الضبط القضائي بصفته نقيباً للموسيقيين، ليحصل على حق الضبط والتفتيش وتحرير محاضر والتحقيق مع من يراهم مخالفين. وألغيت الضبطية القضائية بحكم صادر من المحكمة العسكرية، لكن شاكر طالب بعودتها أكثر من مرة، بحجة أنها كانت تمكّن النقابة من التصدي لمغني المهرجانات. ويبدو أن دور “أمين شرطة الطرب” قد أعجبه. وانطبعت تلك الضبطية الأمنية على لهجة النقابة الفنية في بياناتها وقراراتها، فسادتها جمل كـ”مواجهة عواقب قانونية، والإضرار بمصلحة البلاد، والدخلاء”. 

 هل الدور الجديد لنقابة الموسيقيين قانوني؟

تأسست النقابة بموجب القانون 35 لسنة 1978، الذي تنظم المادة الثالثة منه أهداف النقابة، وهي: النهوض بفنون المسرح والسينما والموسيقى، العمل على كفالة حقوق أعضاء النقابة في الأداء العلني، وضمان حصولهم على هذه الحقوق في الداخل والخارج والسعي لدى الجهات المختصة لاستصدار التشريعات اللازمة لذلك، ورعاية مصالح أعضاء النقابة في ما بينهم وبالنسبة إلى الغير.

لم يتضمن القانون أيَ أعمال رقابية كالتي يلهث وراءها هاني شاكر، إنما ليس وحده، فالمنظومة بالكامل تلهث وراء الرقابة على الثقافة والفن والترفيه، خوفاً من أن تتحوّل الموسيقى إلى ألحان ثورية، أو تعود “الكلمة الرافضة” التي أسقطت زعماءً سابقين، إلى مجدها.

إقرأوا أيضاً: