أصيب محمد وهو طفل صغير بمرض فيروسي طرحه في الفراش، ومات بسببه. نعم مات. على الأقلّ بالنسبة إلى الطبيب الذي أبلغ والديه بأنه أسلم الروح. وعلا صراخ الأم. ثم كُتبت النعوة وكان والده الشيخ عبد الوهاب على وشك إذاعتها في الجامع. لكن الصبي عاد وحرّك جفنيه، ورأته أمه. رأته ولم تصدق فاستدعت الوالد ليشهد “المعجزة”. محمد عبد الوهاب حيّ يرزق بعد مماته بساعات. انتصر على الفيروس وعاد من الموت.
هذه الحادثة حفرت عميقاً في شخصية الموسيقار محمد عبد الوهاب فيما بعد، ورسمت علاقة شديدة التوتر بالأمراض، وعانى بسببها على الغالب من “الوسواس القهري” الذي تحكّم بتفاصيل حياته، خصوصاً فيما يتعلق بخوفه من الأمراض والفيروسات والميكروبات على أنواعها. فكيف كان موسيقار الأجيال ليتعامل مع حدث انتشار فيروس كورونا، لو كان لا يزال على قيد الحياة؟
لو التقيت بمحمد عبد الوهاب اليوم في زمن الكورونا، كان سيجري لك امتحاناً موسيقياً ليتأكد من إصابتك بالفيروس الذي تشبه أعراضه أعراض الإنفلونزا. فقد اخترع موسيقار الأجيال اختباراً صوتياً يكشف به الإصابة بالانفلونزا، عبر الطلب من الشخص المشكوك في أمر إصابته أن يلفظ كلمة “ممنون”، ومن طريقة لفظه للكلمة يتأكد عبد الوهاب ما إذا كان الشخص مصاباً بالانفلونزا أم لا، “فالميم والنون يمرّان في لفظهما في الأنف، والزكام بيجي في الأنف، فلما تقول الميم والنون بطريقة كويسة، يبقى ما عندكش زكام”. وقد يبدو للقارئ الآن أن هذه مزحة طرحها عبد الوهاب في معرض ساخر، لكنها ليست كذلك البتة. الرجل يتحدث بكل جدية، وهو فعلاً لو تواجد بيننا اليوم لأصيب بحال من الهلع الشديد ولتخذ إجراءات صارمة ليمنع عن نفسه الإصابة بالمرض.
في مقابلة تلفزيونية له، متوفرة على موقع يوتيوب، يحكي عبد الوهاب عن اضطراره في إحدى المرات، وكان مدعواً إلى الغداء في منزل أحد “الأكابر”، إلى غسل الصابونة بصابونة ثانية، لأنه وجدها متسخة، فطلب صابونة جديدة، غسلها بها لأن رائحتها كانت أفضل من رائحة الصابونة الجديدة، إذ كان يخشى تناول الطعام من دون التأكد من تعقيم يديه بالكامل.
“فالميم والنون يمرّان في لفظهما في الأنف، والزكام بيجي في الأنف، فلما تقول الميم والنون بطريقة كويسة، يبقى ما عندكش زكام”.
تقول ابنته عصمت إن أبيها كان يخاف كثيراً على نفسه. لا يسلّم باليد على أي أحد يعرف أنه مصاب بنزلة برد أو بانفلونزا، أو بأي نوع من الأمراض المعدية. يتحاشى التواجد مع أشخاص مصابين “بالبرد” ولا يستثني من ذلك أبناءه وبناته، فلا يطمئن عليهم إلا عبر التلفون ولا يقابلهم إلا بعد أن يشفوا تماماً من الفيروس. ولا تتذكره ابنته إلا وهو يأكل الطعام المسلوق في كل الوجبات التي يتناولها طوال اليوم. أما الفاكهة فلا يطمئن إلى أكلها إلا بعد التأكد بنفسه من غسلها وتعقيمها، وأبعد من ذلك كان شديد الصرامة في مسألة منع الحشرات من دخول المنزل، لما قد تحمله من ميكروبات وفيروسات، “فلو دخلت دبانة البيت ممكن السفرجي ينطرد”، تقول ابنته عصمت.
كان عبد الوهاب يحبّ الأطباء جداً، ويحرص على صداقتهم، وقد تجد يومياً طبيباً في منزله، وكان يريد لابنه محمد أن يدخل إلى كلية الطب، لكن الأخير تخصص بالهندسة. وكان يكره يوميّ الخميس والجمعة لأن الأطباء في هذين اليومين يكونون في إجازة: “الحكما أمان، ولما ييجي يوم الخميس أخاف خوف شديد جداً، لأنني لن أجد أي دكتور، وابقى حامل هم ربنا يفوت الخميس والجمعة على خير”، يقول لمفيد فوزي في حوار تلفزيوني طويل.
عندما كان يُسأل عن خوفه من الموت، كان محمد عبد الوهاب يقول إنه لا يخاف من الموت، بل يخاف من المرض ويكرهه.
في إحدى المرات كان عبد الوهاب في العاصمة الفرنسية باريس، واتصل بابنه وسميّه محمد في مصر وهو في حالة اضطراب وتوتر، وطلب إليه أن يأتي حالاً إلى باريس لأنه يعاني من عارض صحي، وفي خلال أربع وعشرين ساعة وصل ابنه إلى مكان إقامته في فندق الانتركونتيننتال في باريس فوجد معه طبيبه عوض ابراهيم وزوجته نهلة القدسي، وعبد الوهاب في حالة توتر وهياج، والطبيب يحاول عبثاً طمأنته إلى أن ما يعاني منه ليس أمراً مرضياً ولا يشكل أي خطر عليه، ليكتشف ابنه أن العارض الصحي الذي “يعاني” منه عبد الوهاب لم يكن إلا شعوره بحكة في فروة الرأس!
عندما كان يُسأل عن خوفه من الموت، كان محمد عبد الوهاب يقول إنه لا يخاف من الموت، بل يخاف من المرض ويكرهه. لقد جرب الموت سابقاً حينما كان طفلاً، وكان موتاً بسبب مرض فيروسي. تغلب على المرض والموت، وعاش حتى عمر متقدم (91 سنة)، ليموت وهو بكامل صحته، على كرسيه الهزاز في غرفة زوجته نهلة في منزلهما الزوجي في القاهرة، ونجا من العمر المديد حتى أيامنا هذه، أيام الكورونا.