فوجئ الجمهور المصري خلال شهر رمضان الماضي ببرنامج “قطايف” للفنّان سامح حسين، الذي تحوّل فيه من ممثّل إلى واعظ ديني. البرنامج نال شهرة واسعة، وصلت إلى بوّابة الرئاسة المصرية، أسفرت عن دعوة الفنّان للمشاركة في المؤتمرات الرئاسية، حيث خاطب الرئيس عبد الفتاح السيسي، وحصل على تكريمات عدة، مع تداول شائعات أبرزها تأثيره على اعتناق البعض الإسلام نتيجة المادّة الدينية التي قدّمها. وقد تنوّعت الآراء حول البرنامج، إذ اعتُبر خطوة نحو تحرير الدين من احتكار رجال مؤسّسة الأزهر، وأن رجال الفنّ يمكنهم أيضاً التحدّث باسم الله، بينما رآه آخرون محاولة من السلطة لصناعة شخصيات موالية لها.
اللافت أن برنامج “قطايف” من إنتاج شركة “رائج ديجيتال” وتسويقها، وهي شركة إعلامية تستهدف الترويج للمحتوى المتميّز، ويبدو من خلال محتواها المنشور على صفحتها الرسمية على “فيسبوك” أنها حديثة التأسيس، مع تركيز ملحوظ على إنتاج المحتوى الديني.
في الجهة المقابلة، برز بودكاست الشيخ مبروك عطية، الذي واجه رفضاً قاطعاً بعد تصريحاته المثيرة للجدل، التي شملت دعوته لمطربي المهرجانات الشعبية لقراءة القرآن واعتزال الغناء. وقد أثار هذا التناقض تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الموادّ الإعلامية جزءاً من مشروع الخطاب الديني الجديد المختفي، أم محاولة لصرف نظر الرأي العام عن الأزمات الاقتصادية المستمرّة، خصوصاً أن برنامج “كلام مبروك” قد تم إنتاجه لصالح جمعية خيرية إماراتية، تمتلك خبرة تمتدّ لأكثر من عشر سنوات في مجال العمل الخيري.
تضمّنت فقرات البرنامج مساحة مخصّصة لعرض أنشطة الجمعية والمساعدات التي قدّمتها، مثل الشقق السكنية والدعم المتنوّع للمحتاجين، وبدأ تصوير البرنامج في عام 2021 داخل استوديو الأهرام، وكان أوّل ضيوفه المطرب الشعبي عمر كمال، إلا أن عرضه تعثّر طوال السنوات الماضية بسبب عدم التمكّن من تسويقه سواء داخل مصر أو خارجها.
بداية حكاية “قطايف” في رمضان
بدأت القصة من صفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي ضجّت بحلقات برنامج “قطايف”، ما لفت انتباه الهيئة الوطنية للإعلام، التي سارعت إلى تكريم الفنان سامح حسين في منتصف آذار/ مارس الماضي تقديراً لنجاح برنامجه، وخلال حفل أقيم على مسرح التلفزيون في ماسبيرو، تسلّم درع التكريم من رئيس الهيئة الإعلامي أحمد المسلماني، ووزير الأوقاف الشيخ أسامة الأزهري، وبحلول نهاية الشهر نفسه، كان حسين قد دُعي مرتين لحضور موائد إفطار بصحبة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
في البداية، سعى المروّجون للبرنامج إلى تضخيم مدى تأثيره على الرأي العام العربي والدولي عبر إطلاق شائعات مبالغ فيها، من بين هذه الشائعات، كان الحديث عن منحه الإقامة الذهبية في الإمارات تقديراً لنجاح برنامجه، على رغم أنه حصل عليها بالفعل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أي قبل عرض البرنامج، كما انتشرت شائعة أخرى تزعم أن برنامجه أدّى إلى اعتناق بعض الأشخاص الإسلام، وهو أمر لم تثبت صحّته. ومع تزايد التفاعل بين السلطة والفنّان، أطلق الأخير تصريحات مثيرة للجدل، من بينها اقتراح تقليص إجازات الأعياد، ما أدّى إلى تصاعد موجة الانتقادات ضدّه.
لطالما احتكر بعض رجال الدين الحديث باسم الله، وقدّموا أنفسهم بوصفهم المرجع الوحيد لفهم الدين وتعاليمه. المفارقة أن كثيراً من الشيوخ البارزين الذين تصدّروا المشهد لم يتخرّجوا في الأزهر، مثل الشيخ محمد حسان خرّيج كلية الإعلام، والشيخ محمد حسين يعقوب خرّيج كلية دار العلوم، إلا أنهم ظهروا للناس وفق الصورة النمطية المعتادة: لحية طويلة، وخطاب موحّد يغلب عليه الطابع العدائي، خصوصاً تجاه المرأة، ومع أن دعاة مثل عمرو خالد ومصطفى حسني حاولوا كسر هذه الصورة النمطية، من خلال إطلالة أكثر عصرية وخطاب أقل تشدّداً، لم ينجحوا في التأثير على الشريحة الشعبية الواسعة، التي لا تزال تفضّل الشكل التقليدي للشيخ كما ألفته.
ومع ظهور الفنان سامح حسين في برنامج ديني، بدا أن هذا الاحتكار القديم للحديث عن الله قد بدأ يتعرّض للتحدّي، لكن ما حدث أن شريحة من الجمهور لم تستقبل ظهوره بترحاب، بل راودها القلق من أن يكون مجرد “واجهة” جديدة لمشروع قديم، يروّج لنسخة معدلة من الخطاب السلفي، من دون لحية هذه المرة. ورأى البعض في الدعم الذي حظي به من مؤسسات الدولة تجسيداً لتوجّه رسمي نحو إعادة تشكيل الخطاب الديني، بما يخدم السياسات القائمة. لكن، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وغلاء متصاعد، بدا أن المجتمع بات أكثر حساسية من أي خطاب ديني، حتى وإن جاء بوجه فنّي محبوب، وبدأت تهم النفاق تُطارد هذا النموذج الجديد.
استراتيجية استحسان القبح والرداءة
يرى عضو المجلس الأعلى السابق لوزارة الثقافة المصرية هاني إسحاق، أن انتشار البرامج الرديئة في “التوك شو” إلى جانب بعض الأعمال الفنّية المتدنية، ليس أمراً عفوياً، بل يدخل ضمن ما يسمّيه “استراتيجية استحسان القبح والرداءة”، التي تعتمد في تنفيذها على إشغال الرأي العام بوسائل ترفيهية سطحية، لإبعاده عن قضاياه الحقيقية المتعلّقة بمشاكله الاقتصادية.
يؤكّد إسحاق في حديثه لـ “درج”، أن ما يُقدَّم للجمهور من فنّ ومحتوى يبتعد عن القضايا الحقيقية التي تخصّ المواطن، كالمشاكل الاجتماعية مثل انتشار المخدرات، والاقتصادية مثل غلاء المعيشة “هو إنتاج مقصود، يهدف إلى برمجة العقل الجمعي على تقبّل الرديء والتعايش معه كأنه أمر طبيعي أو حتى مستحب”، وهذه العملية، بحسب رأيه “لا تعكس فقط تراجع الذوق العام، بل تكشف عن حالة من الانحدار في الوعي الشعبي، حيث يغيب النقد، ويحلّ محلّه التلقّي السلبي والخضوع لما يُعرض من دون مقاومة فكرية”.
يعتقد عضو المجلس الأعلى السابق لوزارة الثقافة، أن “اهتمام الدولة بالبرامج الدينية ودعمها، فيما يقبل المجتمع أعمالاً فنّية لا تناقش واقع المصريين الحقيقي، يُعتبَر مؤشراً خطيراً الى أن الشعب في هذه الحالة لن يكون قادراً على النهوض بوعيه أو الارتقاء بذوقه، ما يفتح الباب لمزيد من التراجع الثقافي والتهميش الفكري المتعمّد” حسب ظنه.
الطريق إلى “دروشة“ المصريين
من جهته، يقول المخرج أمير رمسيس أن الحكم على برنامج “قطايف” لا ينبغي أن يكون من باب التهويل أو تحميله مسؤولية “دروشة الوعي الجمعي”، مضيفاً بسخرية “الشعب تتمّ دروشته منهجياً منذ السبعينات… مش جت على قرمط!”، في إشارة إلى شخصية أحمد آدم الساخرة.
ووفقاً لما أورده كتاب “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن سلفنة المجال العام في مصر بدأت تزدهر منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً، إذ اتسعت المساحة أمام الفكر السلفي ليتغلغل تدريجياً في المجتمع. ومع دخول جماعة “الإخوان المسلمين” إلى المشهد السياسي، وتصاعد التنافس بين التيارين على كسب التأييد الشعبي، استطاع “الإخوان” تحقيق حضور لافت بفوزهم بمقاعد في برلمان 2005. إلا أن نظام مبارك سارع إلى تحجيم نفوذهم وتقليص نشاطهم في المجال العام.
استغلّ التيّار السلفي هذا الصراع لصالحه، فعزّز حضوره في وسائل الإعلام، وتوسّع اجتماعياً حتى أصبحت له اليد الطولى في المشهد الديني، وتمكّن من ترسيخ خطابه وهيمنته على السوق الدينية، متفوقاً على “الإخوان” في التأثير الشعبي. وأتاح له ذلك فرصة واسعة لنشر أفكاره، ودفع المجتمع نحو مزيد من التدين المحافظ، عبر فرض نمط فكري ينظر إلى مختلف القضايا من زاوية دينية حصرية.
ويؤكد رمسيس، أثناء حديثه مع “درج”، أن “سامح حسين حرّ في تقديم ما يراه مناسباً من محتوى، طالما يمتلك القدرة والرغبة في ذلك، لكنه في الوقت نفسه يُبدي تحفّظه على نوعية البرامج التي تقدّم نصائح دينية أو اجتماعية بشكل مباشر”، معتبراً أن “هذا النوع من الخطاب يتطلّب حساسية ووعياً خاصاً”.
كما يرفض رمسيس التعميم في تفسير أسباب توجّه بعض الفنّانين إلى تقديم البرامج، معتبراً أن لكل فنّان دوافعه الخاصة، ولا يرى في هذا التحوّل أي عيب، بل قد يكون وسيلة لجذب اهتمام الجمهور أو التعبير عن جوانب أخرى من شخصية الفنّان.
من جانبه، صرّح المنتج محمد يوسف، أن “الفنان سامح حسين فقد جزءاً كبيراً من بريقه الفنّي في السنوات الأخيرة، شأنه شأن عدد من الفنّانين الذين مرّوا بتجارب مماثلة، واختاروا العودة إلى الواجهة من خلال تقديم محتوى وعظي وديني”.
وقال يوسف عبر حسابه الشخصي على “فيسبوك”: “انطباعي الشخصي عن سامح حسين أنه شخص خلوق ومحترم، وقد اتّجه في الفترة الأخيرة إلى مجال الإرشاد والوعظ من خلال برنامجه (قطايف) بعدما تراجعت شهرته كممثّل، كما فعل غيره من الفنّانين الذين سلكوا الطريق ذاته بعد أفول نجمهم الفني”.
من ناحية أخرى، يرى يوسف أن الزخم الإعلامي الذي رافق برنامجه (قطايف) تقف خلفه لجان إلكترونية تابعة لجماعة “الإخوان المسلمين”، ويُشير إلى دور هذه اللجان في محاولة لتلميع صورته وتوظيفه ضمن أدوات القوى الناعمة للجماعة المحظورة.
تشهد المرحلة الحالية بوادر لإعادة فتح المجال تدريجياً أمام الخطاب الديني السلفي، الذي يأخذ شكلاً أكثر نعومة، مستفيداً من اتّساع منصّات التواصل الاجتماعي، حيث يتمّ تسويقه بلغة حديثة وبوسائل تواكب العصر الرقمي، مع الحفاظ على المضمون المحافظ نفسه، ويبرز ذلك في نماذج عدة، من بينها محتوى بعض الشخصيات المؤثّرة على “السوشيال ميديا”، مثل فدوى مواهب التي تقدم خطاباً دينياً محافظاً بأسلوب عصري، ما يمنحه قبولاً لدى جمهور واسع.
في مشهد يعيد إلى الأذهان تلك الحقبة التي تصاعدت فيها حملات غير رسمية لتحجيب الفنّانات المصريات، ودفع بعضهن إلى اعتزال الفنّ خلال تسعينات القرن الماضي. وتصف الكاتبة أمل زيادة في كتابها “الفنّانات المعتزلات”، تلك الفترة، بأنها مرحلة أربكت المشهد الثقافي والاجتماعي، حيث برز خلالها تأثير دعاة ذوي توجّهات محافظة، من أبرزهم الشيخ محمد متولّي الشعراوي، المعروف بخطابه الحادّ تجاه قضايا المرأة، وتشير الكاتبة إلى شائعات راجت آنذاك حول دور الشعراوي في إقناع عدد من الفنّانات بالاعتزال، بخاصّة أثناء لقاءات غير رسمية بهن خلال أدائهن مناسك الحج في السعودية، حيث كان يُقيم في ظل ازدهار الخطاب الوهابي في المملكة.
عودة الخطاب الديني السلفي
لا يمكن فصل ظاهرة اعتزال الفنّانات المصريات أعمالهن الفنّية، ثم توجّههن إلى تقديم البرامج التلفزيونية ذات الطابع الديني، عن السياق الأوسع لصعود الخطاب السلفي المحافظ. فالتحوّل من خشبة المسرح أو شاشة السينما إلى المنصّات الدينية الإعلامية لم يكن مجرّد خيار شخصي، بل هو جزء من منظومة خطابية تسعى دائماً لإعادة توظيف رموز فنّية سابقة كـ”نماذج للهداية”، لإعادة تقديم هؤلاء الفنّانات التائبات كدليل حي على “تحقق التوبة” و”نُصرة الحقّ”، في رسالة ضمنية مفادها أن اعتزال الفنّ، بوصفه عملاً محرّماً لا يعني نهاية النجومية، بل يمكن استعادتها في ثوب جديد، أكثر قبولاً لدى جمهور التيّار المحافظ.
وعلى رغم هذا الزخم الدعائي الذي رافق ظهور المعتزلات على الشاشة بوصفهن داعيات أو مقدّمات برامج دينية، فإن معظم هذه التجارب لم تحظَ بالنجاح الجماهيري المتوقّع، ربما لافتقارها الى العمق الديني الحقيقي، أو لعدم قدرة المتلقّي على تقبّل هذا التحوّل كمصدر موثوق للخطاب الديني، ما جعل التجربة في أغلبها قصيرة العمر وعُرضة للنقد أو النسيان.
يرى الناقد الفني أحمد سعد الدين، أن “الفنّانات اللاتي قدّمن برامج دينية مثل عبير صبري وميار الببلاوي ومنى عبد الغني، لم يحقّقن نجاحاً ملحوظاً سواء في عصر “الترند” أو بعده، إذ إن البرامج الدينية تتطلّب ثقافة مختلفة ومذيعين متخصّصين وإعداداً جيداً، بعيداً عن السعي للفت الأنظار أو إثارة الجدل الإعلامي، وهو ما يراه ليس متوافراً في الفنّان سامح حسين، ليكون مقدّم برامج دينية.
ويقول في حديثه لـ “درج” إن “سامح حسين اجتهد وحقّق نجاحاً في جزء من عمله، عند تقديمه محتوى ديني واجتماعي في حلقات “قطايف”، إلا أن هذا لا يُعدّ برنامجاً دينياً بالمعنى الصحيح، والتوسّع في هذا النوع من المحتوى سيكون صعباً عليه مع مرور الوقت”.
وكانت ميار الببلاوي قد بدأت مسيرتها الفنّية كعارضة إعلانات، ثم انتقلت إلى عالم الفنّ بالمشاركة في أعمال مسرحية وسينمائية وتلفزيونية عدّة، اتّجهت مؤخراً إلى تقديم البرامج التلفزيونية، وبعد ارتدائها الحجاب، قررت تقديم برامج دينية، حيث تعرض حالياً برنامج “أحلى الكلام مع ميار الببلاوي”، على قناة “الشمس” الفضائية. أما عبير صبري فكانت محلّ تنافس شديد بين قناتي “الناس” و”إقرأ”، خاصّة لكونها فنّانة معتزلة، وقد تركت العمل لدى قناة “إقرأ” الدينية، وانضمت إلى فريق قناة “الرسالة” لتقديم الثانية لها عرضاً مالياً أكثر إغراء.
استغلال الفنّ لخدمة شعبية السلطة
لم يكن التحوّل المفاجئ في موقف الرأي العام المصري من الممثّل سامح حسين، من الاحتفاء الواسع ببرنامجه “قطايف”، إلى موجة من النقد والسخرية عقب ظهوره المتكرّر في فعّاليات ومؤتمرات الرئيس عبد الفتاح السيسي، مجرّد تقلّب في مزاج الجمهور، إنما كشف عن وعي شعبي تجاه العلاقة بين الفنّ والسلطة، وعكس حالة رفض عامّة للنفاق السياسي، وتوظيف الرموز الثقافية والفنّية في خدمة الخطاب الرسمي.
على مدار عقود، ترسّخت لدى الوعي المجتمعي المصري قناعة بأن الفنّ مساحة حرّية نسبية، يُعبّر من خلالها الفنّانون عن نبض الشارع وهموم الناس. إلا أن هذه الصورة لم تكن دوماً مكتملة، فالفنّ كان ولا يزال ساحة للتجاذب مع السلطة، التي كثيراً ما سعت إلى توظيفه كأداة تجميل لوجهها، أو كوسيلة ناعمة لتمرير رسائلها السياسية والاجتماعية، التي تريد إقناع الرأي العامّ بها، مستفيدة من قدرة رموز الفنّ على التأثير والإقناع. ولهذا عندما انتقل سامح حسين، من ممثّل يقدّم مادّة دينية بأسلوب قريب ومحبّب للمصريين، إلى متحدّث في مؤتمرات رسمية يخاطب الرئيس مباشرة، ويُدلي بتصريحات ذات طابع دعوي أو سياسي، ما ترتّب عليه انكسار الحاجز بين ما هو فنّي وما هو سلطوي، وأدّى إلى رؤية حالة من التزلّف في عيون الجمهور.
حمل رد الفعل الشعبي، في طياته سخطاً مكتوماً تجاه سلوك متكرّر تعتمده السلطة المصرية، الذي يعتمد بدوره على استخدام الوجوه المحبوبة، لخلق شرعية اجتماعية جديدة قادرة على تجميل وجه النظام. وهو ما أدّى إلى تصوّر الجمهور أن هذا الانتقال المفاجئ من “الفنّان الداعية” إلى “فنّان النظام”، يمثّل نموذجاً مستهلكاً لتدوير الوجوه في فلك الحكم، وهو ما لم يعد يلقى قبولاً في زمن السوشيال ميديا، حيث تتكشّف النوايا وتُقابل التناقضات بالرفض الساخر الذي يطرح الفجوة في الثقة بين السلطة والشارع. وبناء عليه، فإن التحوّل في النظرة إلى سامح حسين، يعدّ مجرّد استعراض لحالة عامّة من الاستياء الشعبي، يطاول كل من يختار الاصطفاف مع السلطة، حتى وإن جاء هذا الاصطفاف في صورة ناعمة مغلّفة بالدين أو الفنّ.
رجل دين… ناقد فنّي
سجّلت الناقدة الفنّية ماجدة خير الله، اعتراضاً على تقديم الشيخ مبروك عطية أستاذ اللغويات المتفرّغ في كلية الدراسات الإسلامية، بعد استضافته مجموعة من الفنّانين ومطربي المهرجانات مثل انتصار وحسن شاكوش وعمر كمال، في بودكاست “كلام مبروك” المذاع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقالت عبر حسابها الشخصي على “فيسبوك”: “يعني إيه رجل دين يتحوّل لناقد فني ويستضيف الفنّانين لإقناعهم بالاعتزال”، وبعد موجة الجدل التي أُثيرت حوله، قرّرت جامعة الأزهر استدعاءه للتحقيق.
تعرّض الدكتور مبروك عطية لانتقادات من عدد من أعضاء هيئة التدريس في جامعة الأزهر، على خلفية تصريحات منسوبة إليه، اعتُبرت مُسيئة لأساتذة الجامعة. وبناءً على ذلك، قرّرت إدارة الجامعة استدعاءه لمناقشته بصفته جهة اختصاص، وذلك في أعقاب الجدل الذي أثاره برنامجه، وقد باشر رئيس جامعة الأزهر الدكتور سلامة داود، إجراءات استدعائه للتحقيق في هذه التهم.
جاء ذلك اعتراضاً على محتوى البرنامج الذي قدّمه، في خطوة تهدف إلى الحفاظ على القيم والمبادئ الأخلاقية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعة، حسبما جاء في تصريحات سابقة للمتحدّث الإعلامي باسم الجامعة الدكتور أحمد زارع.
تعليقاً على الحدث، قال الدكتور محمد الباز رئيس تحرير جريدة “الدستور”، إنه لا يرى مبرّراً منطقياً لـ “غضب جامعة الأزهر من الدكتور مبروك عطية”، مشيراً إلى أن “الانتقادات الموجّهة إليه بسبب استضافته فنّانين ومطربين في برنامجه “كلام مبروك”، تعكس نظرة دونية غير مبرّرة للفنّ والفنّانين”.
وفي منشور عبر حسابه الشخصي على “فيسبوك”، اعتبر الباز أن “مبروك عطية يمثل نموذجاً متميّزاً للداعية العصري”، مؤكّداً أنه “يتفوق على كثير من العلماء الذين انحصر دورهم داخل المساجد، بينما اتّجه عطية إلى الناس حيث هم، ناقلاً الدعوة إلى فضاءات أوسع وأكثر تنوعاً”.
وقال الباز إن “عطية، استطاع أن يكسر الحواجز بين رجال الدين والفنّانين، وقدّم خطاباً متزناً يزيل الصور النمطية، التي ترسّخت في أذهان بعض علماء الدين تجاه العاملين في المجال الفنّي”، مؤكّداً أن “كثراً من الفنّانين يحملون خيراً يستحقّ أن يُكتشف”.
ووجّه حديثه إلى جامعة الأزهر، قائلاً: “كان الأجدر بها أن تكرّم الدكتور مبروك عطية، لا أن تُحيله إلى التحقيق، بخاصّة أنه يقدّم خطاباً دينياً مبسطاً يتماشى مع متطلّبات العصر”.
وتؤكّد الناقدة الفنّية مها مدبولي، أنه “من غير المقبول أن يكون للشيخ مبروك عطية برنامج يستضيف فيه فنّانين”، مشيرة إلى أنها “تتّفق مع قرار الأزهر باستدعائه للتحقيق”، وتقول لـ”درج”: “الشيخ مبروك عطية، كرجل دين لا يستوجب عليه أن يمارس نشاطاً مختلف متعلقاً بالفنّ، والأزهر، كمؤسّسة دينية، من مسؤولياتها التصدّي لأي معايير قد تكون غير مناسبة أو مخالفة لقيمها”.
فجر ظهور الدكتور مبروك عطية في دور الناقد الفنّي ضمن برنامجه، حالة من الجدل سادت داخل الأوساط الفنّية والدينية، حيث انقسمت الآراء بين رافضين من الطرفين لهذه التجربة. ويرى بعض المتخصّصين في المجال الفنّي أن النقد الفنّي حرفة لا يُتقنها سوى النقّاد المحترفين ودارسي الدراما والنقد الفنّي، بينما اعترض آخرون من التيّار الديني على ظهور مبروك عطية في هذا السياق، معتبرين أن وظيفته تنحصر في الإفتاء والوعظ والردّ على أسئلة الناس في قضايا دينية، وليس التطرق إلى قضايا الفن الذي يرونه في الأصل “محرّماً”.
هل يعود الخطاب الديني الجديد ؟
بدأ الترويج للخطاب الديني الجديد، بشكل واسع في مصر في عام 2014، عندما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب رسمي، مؤسّسات الدولة الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف، إلى ضرورة مواجهة الفكر المتطرّف وتقديم صورة أكثر تسامحاً للإسلام. ومنذ تلك اللحظة، ارتبط المشروع في أذهان الكثيرين بـ”الرؤية الرسمية للسلطة”، وهو ما أثار شكوكاً حول نوايا الدولة، وفتح الباب أمام انتقادات ترى في هذه الدعوة محاولة لتسييس الدين وتطويع خطابه لخدمة مصالح النظام الحاكم. وفي العام نفسه صدر قرار من وزارة الأوقاف المصرية بتوحيد الخطبة لضمان عدم توظيف فكر سياسي حزبي، أو مذهبي، أو طائفي للمنبر أو للمسجد.
فهل يُعدّ مشروع تجديد الخطاب الديني، الذي روّجت له السلطة المصرية، ثم اختفى الحديث عنه، مرتبطاً بتقديم برامج دينية يقدّمها فنّانون، مثل تلك التي يُعرض فيها وعظ ديني من شيوخ مثل مبروك عطية؟ هل يُعتبر هذا جزءًا من تجديد الخطاب الديني أم أنه مجرّد توجه إعلامي عابر لا يحمل أي أبعاد حقيقية؟
يصف الطبيب والمفكر محمد داوود، مشروع الخطاب الديني الجديد، بـ”الغموض الشديد”، مشيراً إلى أن “الحديث عن التجديد بدأ بزخم كبير، مدعوماً بخطابات متكرّرة من الرئيس السيسي، لكنه تلاشى فجأة من دون أن ينعكس فعلياً على الواقع”، ويعزو ذلك إلى “افتقار القيادة قناعة حقيقية بفكرة التجديد الديني، بالإضافة إلى عدم منطقية الفكرة نفسها”، إذ يرى أن “المؤسّسات الدينية بطبيعتها لا تُجدّد، بل تقوم على تكريس التقليد ومنع التغيير، وليس العكس”.
ويؤكّد داوود، خلال حديثه لـ”درج”، أن “التقدّم الحقيقي لا يأتي من داخل هذه المؤسّسات، بل يجب أن تمضي الدولة والمجتمع قُدماً في مسار الحداثة، بينما تجد المؤسّسات الدينية نفسها مضطرّة لمواكبة التطوّرات، بدلاً من فرض الوصاية على الفكر والمجتمع”، إلا أن السلطة، من وجهة نظره، “لم تتبنَّ هذا النهج، بل اكتفت بإطلاق موجة كلامية مؤقتة دون أي إصلاح حقيقي.
ويحذّر داوود من أن النتيجة الحالية ليست مجرد ركود فكري، بل حالة متفاقمة من الاستسلام لسلطة دينية تفرض حضورها القوي على مختلف جوانب الحياة، مما يؤدّي إلى عواقب وخيمة، ويعبّر عن قلقه العميق حيال ما يصفه بـ”حالة سعار ديني غير مسبوقة عالمياً”.
إقرأوا أيضاً: