تستحيل الكتابة عن جنوب لبنان بوصفه منطقة تعكس ثقافة وتجربة تاريخية متشابهة، وله هموم وشجون وحاجيّات واحدة، على الرغم من أنه يتساوى بالخطر المتمثّل بالاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة والأطماع والعدوانية الثابتة. فمن غير الممكن التعميم على منطقة تكاد تجتمع فيها الطوائف والمذاهب اللبنانية كافّة، من دون البحث في خصوصيتها، لا سيّما عندما نتكلّم عن دولة طائفية مركزية، يتناوب في السيطرة عليها تمثيل سياسي يهيمن عليه حزب طائفي في كلّ حقبة زمنية. فالعرقوب منطقة جنوبية تنتمي إلى قضاء حاصبيا، تقع على الحدّ الفاصل بين البقاع الغربي من ناحية، وبين الجنوب من ناحية ثانية، وتمتدّ في سبع قرى، هي: شبعا، كفرشوبا، كفرحمام، راشيا الفخار، الماري، الهبّارية، والفرديس.
إشكاليّة تجيير التمثيل السياسي
لا تنحصر أزمة التمثيل النيابي في الجنوب ومنطقة العرقوب وقضاء حاصبيا حصراً، بل تتعمّم على لبنان بسبب قوانين انتخابية لا تراعي التمثيل الصحيح، لا على المستوى الوطني، ولا على المستويات المحلّية. ولمنطقة العرقوب وقضاء حاصبيا، صولات وجولات في هذا الخصوص. إذ إن آخر ما تحتاجه أي منطقة في بلد يعاني الانهيارات المتتالية، والحروب والمناوشات المستمرّة، والمركزية والطائفية القاتلة، هو تمثيل نيابي يقتصر على التعزية والتبريكات، تلك التي لم يتلكّأ النائب قاسم هاشم (الذي يصادر الثنائي الشيعي عبره الموقع السنّي فيها) عن القيام بها طيلة فترة نيابته، فأصبحت جلّ اهتمامه ومجال نشاطه شبه الوحيد.
فالنيابة تمثيل سياسي للمنطقة ولناسها، ولشجونهم وهمومهم الكبيرة والثقيلة والمزمنة، وهو ينعكس في اقتراحات قوانين تعالج المشاكل، وتعمل على تنمية المنطقة وعلى صمود أبنائها، لا مجرّد تمثيل شكلي لا مضمون ولا طعم ولا رائحة له، وحين تظهر بعض ملامحه تأتي على قياس تصوّرات الأحزاب الطائفية السلطوية بخياراتها وتوجّهاتها، التي تصادر القرار السياسي وتقضي على كلّ تعدّدية.
أزمة القانون الانتخابي لا تقتصر على هذا الموقع وهذه المنطقة بالتحديد، بل هي مشكلة تمثيلية لبنانية عامّة، خصوصاً عندما نتذكّر، على سبيل المثال، ما قاله المرشح الدرزي عن قضاء حاصبيا مروان خير الدين في الانتخابات الأخيرة، وذلك حينما توجّه إلى أهالي قضاء حاصبيا، قائلاً: “حيّ من أحياء الخيام (قضاء مرجعيون) يمكن أن يأتي بي نائباً”. وهل يُعقل أن يُنتخب النائب الياس جرادي عن قضاء حاصبيا من خلال عناوين تعكس صحّة التمثيل، ليعود ويلتفّ لاحقاً حول محور ترشّح بوجهه لأنه يطيح صحّة التمثيل، من دون أي إمكانيّة لمحاسبته؟ إن كانت هذه الأمثلة تعني أي شيء، فهي تصوّب على أزمة التمثيل التي نتكلّم عنها وعليها. إذ كيف بإمكان مرشّح أن يهين أبناء منطقته الذين يمثّلهم؟ كيف يمكن أن يكون عليهم وليس معهم؟ وكيف بإمكان مرشّح آخر أن يلتفّ على العناوين التي انتُخب على أساسها، وأن تكون نتائج نيابته تساوي صفراً على المستوى التنموي والقوانين التي تحتاج إليها المنطقة؟ وكيف يُعقل أن يكون القانون الانتخابي على هذا النحو الذي يصادر التمثيل السياسي الصحيح للبنان عموماً، ولأهل منطقة عانوا الأمرّين في الفترات التاريخية المتعاقبة؟
إشكاليّة المصادرة
أزمة التمثيل النيابي لا تقف عند هذا المستوى، إذ ليس خافياً على أحد أن منطقة العرقوب تعاني من اعتداءات إسرائيلية مباشرة، ومن انفلات وضعها العسكري والأمني، ومن ظلم ذوي القربى المتمثّل بدولة تخلّت عن واجباتها كافة في الأرياف عموماً، وفي الجنوب خصوصاً، وعن قضاء حاصبيا ومنطقة العرقوب تحديداً، فتمحور تمثيلها السياسي على معيار واحد، هو المصادرة والتجيير.
فمن نافل القول إن القوى الطائفية التي تصادر التمثيل الطائفي في لبنان، تجيّر المواقع والنفوذ في المناطق لبعضها بعضاً، تتاجر بالناس وبخياراتهم وحيواتهم، فتتخلّى عن مواقع حاصبيا لتقرّشها مواقع نيابية في مناطق أخرى. كما أنها تتاجر بأمنهم وتجيّره لقوى الأمر الواقع. تارة يكون التجيير للمنظّمات الفلسطينية تحت اسم الوطنية والقومية، وطوراً للثنائي الشيعي والمحور الإيراني تحت راية المقاومة. وبالمجمل، التجيير للقضايا الكبرى التي قضت على التنمية، وعلى أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية التي لم تكن تشبه أي ديناميكية حياتية.
ليست معاناة أهل العرقوب خافيةً على أحد، ولا هي محصورة فيها. لكن للمنطقة خصوصية الطمع والشره الذي لا يتوانى العدو عن السير بها، وخصوصية المصادرة السياسية لخيار المحاور وتدمير ما لم يدمّر بعد. علماً أن المنطقة لم تتلكّأ يوماً عن القيام بواجباتها الوطنية.
إقرأوا أيضاً:
وفي الحالين، كانت، وها هي اليوم، تعاني جرّاء خيارات ليست خياراتها، لأنها لا تعكس صحّة التمثيل التي يتطلّع أبناء المنطقة إليها، بل تأتي من محاور تمتدّ الى خارج الدولة، فتقوّض الدولة والمنطقة في آن. خيارات لم تؤدِّ في الأشكال الممكنة كافة إلا إلى تقويض إمكانات العيش وشروطه، وشروط التجربة السياسية الديمقراطية، وشروط الدولة والمواطنيّة وقيمهما. فحين يسيطر نظام التجيير والهيمنة والمصادرة، والاستزلام، والمحسوبيّة والهيمنة، تكون أي منطقة على فوّهة بركان يطيح بالحرّية والعدالة والتنمية، لصالح تشريع التعدّيات ونشر الأمّية السياسية والجهل والتداعي الحياتي والاجتماعي، ولا تؤدّي إلا إلى تسعير الخلافات القبلية وانحيازات روابط الدم.
إشكاليّة الإهمال
يؤدّي المعياران أعلاه إلى تعميم سياسة الإهمال والتداعي. فإذا انتقلنا من العامّ الى الخاصّ، تصبح المشكلة السياسية واحداً من التداعيات، أزمة واجهة لأزمات ذهنية أعمق وأخطر. فالمنطقة لم تتمثّل في مراكز صنع القرار، كما لم تكن يوماً في صلب الاهتمام التنموي، إذ ليس هناك من سياسات تنموية تطاولها، لا مسشتفيات ولا جامعات ولا مصانع ولا معامل ولا تنمية زراعية، كما أنها تعاني من ندرة وظائف الفئة الأولى، ما يجعلها في حالة تردٍّ دائم، ويجعل الوظائف التي يتولّاها بعض أبنائها سياسوية بحتة، ومشروطة بشكل مسبق، بحيث تجعل أولويّاتها آخر المعايير.
فهل يمكن الكلام عن حمل خيار الدولة إن كانت المنطقة غير ممثّلة في مواقع صنع قرار أي من مؤسّساتها، لا دبلوماسياً، ولا إدارياً، ولا وزارياً، ناهيك ببقية المؤسّسات؟ ما الذي قدّمته الدولة للمنطقة؟ وكيف ربطتها بها فجعلت هذا الارتباط متيناً؟ تعليم هشّ ومدارس رسمية بالكاد تعمل، تعليم جامعي رسمي غير متوافر إلا خارجها، لا مستشفيات فيها، مصادرة للمستشفى الوحيد المجهزّ في المنطقة (في شبعا) لغايات ونكايات ومحاصصات سياسية، وسياسات لا تدعم المزارعين ولا تؤمّن شروط استقرارهم وأمنهم. إطار أمني مهدّد ويكاد يكون أشبه بالغربال من كثرة الخروقات الإسرائيلية والهيمنة الميليشياوية، وشروط إنتاج لقمة عيش تسمِّم أكثر مما تغذّي! أيعقل أن يكون حضور الدولة محصوراً بجباية الفواتير مقابل خدمات بالكاد يحصل أهل المنطقة عليها؟ أيعقل أن تكون الدولة الحاضرة الغائبة هي المؤسّسة التي تنكفئ عن مدّ نسيجها في المنطقة؟
وعلى الرغم من ذلك، لم تطلب منطقة العرقوب، كما غيرها من المناطق، المستحيل، ما عكس وعياً سياسياً ومصلحياً استثنائياً، خصوصاً وأن غياب الدولة عن العرقوب لم يصنع التفافاً وتضامناً، ولو شكلياً، على حكم الميليشيات، ولا على حكم المحاور، على الرغم من بعض الهنّات من هنا وهناك. بل كانت المنطقة وما زالت، تطالب بالدولة العادلة وتحاول العمل على رفع الظلم عنها لتحاول صرفه تمثيلاً وتأثيراً صحيحاً وصحّياً.
فمنطقة العرقوب لم تخطئ البوصلة، ولا الاتّجاه، وهي لا تحتاج إلى دورات وطنية مكثّفة. إذ على الرغم من مرحلة الاحتلال، وغيابها عن وظائف الفئة الأولى، استمرّت ولا تزال تعمل جاهدةً على تعيين أبنائها في مؤسّسة الجيش اللبناني، وغيرها من المؤسّسات الوطنية، أو تقوم بالمستحيل لإدخالهم بفتات إحدى مؤسّسات الدولة وإن في وظائف الفئات الثانية والثالثة والرابعة…
لكن، هل تكفي مواجهة الهيمنة السياسية لتنظر الدولة إليها بوصفها منطقة تابعة لها؟ حتماً لا. بل ما تطمح المنطقة اليه أبعد من ذلك بكثير. هي تطمح إلى الأساس المتمثّل بالاعتراف بلبنانيتها وبمساواتها مع غيرها مؤسّساتياً وقانونياً وعلى مستوى الفرص. تطمح إلى تقويض المركزية القاتلة التي تتظهّر بتكاليف باهظة خلال إنجاز المعاملات الحكومية. تتأمّل في تغيير ذهنية مقاربة قضاياها. تطمح إلى قانون انتخابي يعكس صحّة التمثيل ولا يصادره لجهة وطرف سياسيين. تطمح إلى المشاركة في صنع القرار عموماً وقرارها خصوصاً. تطمح إلى التنمية لتعزيز صمود ناسها وشروط عيشهم واستمرارهم. تطمح إلى عدم موت أبنائها قبل وصولهم إلى المستشفيات لتلقّي العلاج. تطمح إلى تعليم أبنائها من دون دفع تكاليف باهظة لا يستطيع أهلها تحمّلها. وتطمح، فوق هذه وتلك، إلى التعامل معها بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من بقايا عقد اجتماعي يترنّح يومياً، لكنّها لم تعلن ولن تعلن وفاته من على منابرها.











