على الغرب من القلعة وفي الجهة المقابلة لقرافة (مقبرة) جلال الدين السيوطي يقع حي عرب اليسار، المنطقة التي تشكل ظهيراً عمرانياً لقلعة صلاح الدين في القاهرة، ومكملاً لوجه المدينة التاريخي مع قرافة جلال الدين السيوطي ومنطقة السيدة عائشة.
حي عرب اليسار، الذي بدأ تأسيسه مع تاريخ القلعة تقريباً في العصر الأيوبي، والذي يُنسب إلى قبيلة بني يسار؛ القبيلة العربية التي سكنت المكان وتوارثته جيلاً بعد جيل، يدين بملامحه المعمارية للقرن التاسع عشر، حيث غالبية المباني والعقارات فيه، ترجع إلى تلك الفترة التاريخية، بنمطها المعماري الدقيق الذي اقتبس ملامحه الفنية من أوروبا، خاصة في نمط الأبواب والمداخل أو الواجهات الحجرية، وكان من بين تلك المنازل المهمة في الحي منزل الطبيب المصري محمد الشباسي، الذي كان من أوائل خريجي مدرسة الطب المصرية المعروفة بقصر العيني، والذي كان ضمن أول بعثة طبية أُرسلت إلى فرنسا في القرن التاسع عشر.
على كل هذا التنوع المعماري والتاريخي في منطقة عرب اليسار التاريخية، إلا أن الحكومة المصرية لم تتورع عن بدء عمليات الهدم والتهجير القسري للسكان المقيمين في المنطقة، العملية التي بدأت منذ سنة 2017 تقريباً استمراراً حتى أواخر سنة 2023، غيرت ملامح المنطقة تماماً، حيث تمت إزالة العقارات والمنازل في المنطقة، فيما استُبدلت بإنشاءات حديثة تجارية وخدمية، ضمن مشروع أكبر لتطوير منطقة القلعة والقرافة، كوجه سياحي جديد للقلعة.

بيوت عرب اليسار التاريخية – تصوير مصطفى الصادق
كيف بدأت قصة التهجير؟
في سنة 2017، كان أول فصول تهجير المنطقة، يُكتب من قِبل محافظة القاهرة، حيث تم إصدار قرار يحمل رقم 5725 لسنة 2017، باعتبار عدد من مناطق أحياء القاهرة مناطق خطورة ثانية، وتم إيرادها ضمن الخريطة القومية لحصر المناطق غير الآمنة، المعدة من قبل صندوق تطوير المناطق العشوائية. أتت منطقة عرب اليسار ضمن تلك القائمة، التي شملت مناطق تاريخية هامة أخرى، مثل منطقة الحطابة، وبناءً على هذا القرار؛ استوجب إزالتها تماماً وتعويض الأهالي المقيمين فيها، بشقق سكنية أخرى في المناطق الجديدة، التي أنشأتها الدولة على أطراف المدينة الصحراوية، على إثر هذا القرار بدأت زيارات موظفي الحي المستمرة نحو عرب اليسار، حيث أخبروا السكان بضرورة الإخلاء، وإيجاد بدائل لحين تقديم أوراقهم اللازمة لتأجير الوحدات السكنية التعويضية في المشاريع الجديدة، لكن السكان الذي قابلوا تلك الإشارات الحكومية بالاستنكار، لم يغادروا أماكنهم على أمل تغيير القرار أو إعادة النظر فيه.
قابل السكان تلك القرارات المتتالية التي اتخذتها محافظة القاهرة بالاستهجان، ولم يتخذوا أياً من الإجراءات التي طالب بها الحي أو المحافظة، سواءً بإخلاء الوحدات السكنية أو بالإجلاء من الحي، خاصة أولئك الذين لا يجدون بديلاً من الناحية الاقتصادية لمساكنهم، أو لمحال أعمالهم القريبة من الحي.
مرت عدة سنوات منذ 2017 حتى أواخر سنة 2022، السنة المفصلية في تاريخ الحي، التي بدأت فيها الإزالات بشكل فعلي وعلى أرض الواقع في المنطقة، حيث بدأت محافظة القاهرة بشكل متتابع على مدار أشهر متتالية، بإزالة العقارات في حي عرب اليسار، ففي مارس/ آذار من عام 2023، هدمت المحافظة 8 عقارات في منطقة درب المأذنة، تلى هذا في شهر مايو/ أيار من السنة نفسها، إزالة 103 عقاراً في المنطقة، العقارات التي أزيلت كانت في مناطق درب الشيخ عبدالله وزقاق الصادق من درب داود الكبير تحديداً في حي عرب اليسار، بالإضافة إلى فك مأذنة مسجد الغوري وإزالتها، وهو المسجد المقام على رأس منطقة حي عرب اليسار تجاه طريق صلاح سالم، ويرجع تاريخه إلى عصر سلاطين المماليك في فترة السلطان قانصوه الغوري، الذي أقامه في تلك المنطقة تحديداً، خدمة للحي القائم أسفل القلعة، قانصوه الغوري أحد أشهر السلاطين المماليك الذين حكموا مصر في الفترة بين 1500 و 1516 الميلادية.
وصل عدد العقارات التي أزالتها الحكومة في حي عرب اليسار إلى 133 أواخر سنة 2023، وهو ما جعل المنطقة شبه خالية تماماً من أي وجود عمراني أو بشري، فيما فُرض على السكان الانتقال إلى أحياء أخرى جديدة مثل حي الأسمرات خارج القاهرة.

عمليات الهدم في عرب اليسار – تصويري 2021
الحق المنتهك
لقد توارث أهالي منطقة عرب اليسار منازلهم منذ سنوات طويلة بطرق شرعية وقانونية، وهو ما تثبته الأوراق التي يحملونها في حوزتهم، ويظهرونها عند أي زيارة حكومية سبقت قرارات الإزالة، فضلاً عن تعسف القرار الذي تم إصداره بحق طبيعة المكان العمرانية، وهو ما يتنافى مع وصفها بمواقع خطرة آيلة للسقوط، وهو ما أثبتته الزيارات المستمرة للمهتمين بالتراث والعمران في الفترات بين 2016 و 2022، حيث جرى تصوير وتوثيق تلك المنطقة باعتبارها نموذجاً معمارياً فريداً لا يزال محافظاً على نمطه العمراني القديم حتى الآن، على عكس ما روج له الإعلام التابع للحكومة، الذي يتعامل معها كمناطق عشوائية تشكل خطورة أمنية على الزوار، فضلاً عن كونها تشكل خطورة عمرانية على السكان المقيمين فيها والمحيطين بها، وتثبت المحاضر والدعاوى القضائية، التي رفعها بعض سكان منطقة عرب اليسار ضد الحكومة والحي التابع لمحافظة القاهرة، بهدف منع قرارات الإزالة، أن المباني السكنية في المنطقة ليست كما توصف بأنها آيلة للسقوط، بل ما تعانيه هو إهمال متعمد بحقها، حيث كانت ترفض المحافظة الطلبات المقدمة من السكان لإجراء ترميمات على العقارات، وهو ما يجعل من عملية تخريبها أمراً متعمداً، ودافعاً نحو هدمها وإزالتها بحجة الخطورة المحتملة.
لسكان عرب اليسار حق كامل في أراضيهم التي هُجروا منها قسراً، لهم كذلك الحق الكامل في ملكيتهم لها، فيما يقع الحق على الحكومة في تطوير المنطقة، بما لا يتعارض مع إجلائهم منها، حيث تعمدت المحافظة والحي اللذان تتبع لهما المنطقة – وفقاً لروايات السكان فيها- إلى إفساد المرافق العامة وعدم صيانتها، بل والعمل على تخريبها مثل قطع المياه والكهرباء بشكل متكرر، حتى تكون ذريعة لتهجير أهالي عرب اليسار منها، فضلاً عن أن العقارات المجاورة لعمليات الهدم، تتأثر بشكل فعلي وملموس بها، وهذا ما يسهل عملية هدمها كلياً لإخراج سكانها منها.
عرب اليسار…إحلال وتبديل سكاني
لم يكتمل عام 2023 إلا وقد أُخليت عرب اليسار تماماً من سكانها، الذين أقاموا فيها على مدى سنوات طويلة، حيث تم ترحيلهم إلى منطقة الأسمرات الجديدة، التي تقوم على الحدود الصحراوية لمدينة القاهرة، إلا أن دورة العمل في المنطقة سارت بشكل أسرع من المتوقع، حيث بدأت المشاريع بشكل سريع تظهر في بداية 2024، بإنشاء عدد كبير من المباني ذات العلو المنخفض نسبياً، حيث يهدف المشروع إلى تحويل تلك المنطقة إلى منطقة سياحية، ضمن أعمال تطوير القلعة، التي أصبح جزء منها تابعاً لصندوق مصر السيادي، وتبين طبيعة المباني في المنطقة المهجرة، إنشاء مبنى فندقي ومساحة خضراء و 20 مطعماً وكافتريا و 16 محلاً تجارياً، فضلاً عن إنشاء مساحات للجلوس ضمن إطار تطوير محيط القلعة، الجدير بالذكر أن المشاريع التي يتم تنفيذها داخل هذا الإطار، تتم من خلال “الهيئة الهندسية للقوات المسلحة”، وهو ما يطرح مزيداً من الأسئلة حول طبيعة العلاقة بين الهيئة والمناطق العمرانية في القاهرة.

المنشآت الجديدة في منطقة عرب اليسار – تصويري

السكن البديل…أزمة التأقلم
يرى سكان حي عرب اليسار؛ أصحاب القرار الأوحد في تقرير مصير سُكناهم، أنه لا يوجد بديل مرضي لمساكنهم الحالية، من نواح كثيرة؛ إذ إن المساحة التي تمتلكها الأسرة في حي عرب اليسار، أكبر من المساحة التي تؤجرها لهم الحكومة إجباراً في المناطق الجديدة، حيث يوجد فارق شاسع في المساحة، تأتي الوحدات السكنية في حي الأسمرات الجديد بـ 60 متراً، فيما كانت الأسرة الواحدة وفقاً لتصريحات بعض الأسر في حي عرب اليسار تملك منزلاً مستقلاً، يتكون من ثلاثة طوابق على الأكثر، تعيش فيه تقريباً ثلاث أسر من مكون اجتماعي واحد (أب – ابن – حفيد) في شقق تتراوح مساحاتها ما بين 100 متر إلى 150 متراً. ويعيش الأقارب في مكان واحد أو في عقار واحد، وهو ما يوفر لهم طبيعة اجتماعية خاصة يفتقدونها في الأحياء الجديدة، خاصة أن توزيع الأسر على الشقق في الأحياء الجديدة، يتم بشكل عشوائي من دون اعتبار للأبعاد الاجتماعية الواحدة أو صلات القربى.
كانت العقارات في حي عرب اليسار ملكاً لهم وليست مستأجرة، كما هو الحال في الأحياء الجديدة، وهو ما يحملهم عبئاً اقتصادياً زائداً على احتياجاتهم الاقتصادية، بخاصة مع محدودية الدخل لدى تلك الأسر، حيث يتكبد المواطن مبدئياً مبلغ 4500 تقريباً كدفعة أولى من أجل عقد حق انتفاع مع الحي، ثم يدفع شهرياً 350 جنيهاً، العائق الأكبر لدى تلك الأسر هو أنه لا أمان مع الوحدات السكنية الجديدة، حيث يلتزم المستأجر في تلك المناطق بدفع إيجار شهري، ويوقع على عقد يُسمى حق انتفاع وليس عقد ملكية كاملة، ويكون هذا العقد مستمراً طوال حياة الشخص المقيم، وينتقل إلى الأقارب حتى الدرجة الثالثة الذين يقيمون إقامة دائمة وقت وفاة صاحب العقد، لكن المشكلة الأكبر تكمن في أنه يحق للمحافظة سحب العقار من أصحابه، إذا تعثروا في سداد قيمة الإيجار لمدة ثلاثة أشهر، وهو ما يشكل خطورة عليهم، مع تردي الأوضاع الاقتصادية مؤخراً في مصر، بخاصة أسعار الغذاء والوقود.
إضافة إلى ذلك، يواجه هؤلاء السكان مشكلة أخرى، وهي أن المنطقة التي كانوا يقطنون فيها، والتي كانت موضع أعمالهم ومصدر أرزاقهم، تُعد من الناحية العملية مناسبة أكثر من المناطق التي تأخذ مواقع بعيدة عن محيط القاهرة ووسط المدينة، وهو ما لا تتم مراعاته في القرارات الحكومية الخاصة بنقل السكان، حيث تقع معظم المواقع السكنية البديلة في مناطق بعيدة عن المناطق المهجرة داخل أحياء القاهرة، الأمر الذي يشكل صعوبة حقيقية وملموسة على أهالي تلك المناطق المهجرة في مناطقهم الجديدة، في الوصول إلى أعمالهم وأماكن إقاماتهم القديمة، مما يشكل عائقاً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً أمامهم.
إقرأوا أيضاً: