أطفال يحيّون الرئيس السوري الجديد، بأساليب تذكّر بمشاهد الولاء التي كانت سائدة في عهد الأسد. أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فتنتشر تعليقات تُشبه الخطاب التشبيحي، تظهر في كل مرة يرتفع فيها صوت النقد، وكأنها محاولات منظمة لإسكات أي معارضة. الخطاب السائد يحمل ملامح خطاب أنصار الأسد ذاته: تمجيد للسلطة، رفض لأي صوت مختلف، ودعوات للمخالفين لمغادرة البلاد. مشهد يُعيد نفسه بشكل مقلق.
استخدام خطاب أتباع النظام السابق
أية محاولة للنقد أو التساؤل حول سياسات السلطة الجديدة في سوريا تقابَل بردود فعل قاسية. تشوَّه سمعة المنتقدين، أو يصنَّفون على أنهم جزء من مؤامرة خارجية، أو تتم دعوتهم لترك البلاد والرحيل… في شيء يشبه تماماً ما فعله أتباع الأسد حين وجدوا في خروج المعارضين فائدة للبلاد!
على مدار أكثر من خمسة عقود، نشأ السوريون في بيئة قمعية لا تعترف بحق الاختلاف، وتعرّض كل من يخرج عن الخطاب السائد، السياسي بخاصة، للتخوين والقمع والتهميش.
واليوم، مع تغيّر موازين القوى، يجد بعض الأفراد أنفسهم، يُعيدون في اللاوعي استخدام الأدوات نفسها التي استخدمها النظام ضدهم، لكن هذه المرة ضد خصومهم أو من يختلف معهم في الرؤية أو الهوية. لم يعد القمع محصوراً فقط في يد سلطة الأسد، بل تحوّل إلى أنماط سلوكية يمارسها البعض تجاه الآخرين في مختلف المساحات، سواء في الواقع السياسي والاجتماعي، داخل العائلات أو ضد الخصوم حتى لو لم يكونوا سياسيين، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما كان يحدث تماماً على عهد الأسد.
عندما نتحدّث عن رغبة بعض السوريين في إعادة إنتاج الاستبداد، أو الاستمرار في ممارسات ديكتاتورية شبيهة بنظام الأسد السابق، فنحن لا نوجّه اتهاماً أخلاقياً أو نلقي باللوم على الأفراد، بقدر ما نحاول فهم الظاهرة وتحليل جذورها.
ما يحدث غالباً لا ينبع من نية حقيقية لإعادة تأسيس نظام قائم على الخضوع، أو فرض الديكتاتورية على الآخرين، سواء في الواقع، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل هو انعكاس لتجربة طويلة من القمع الأسدي، والتنشئة السياسية والاجتماعية التي رسّخت أنماطاً معينة من التفكير والسلوك لدى شرائح واسعة من السوريين.
إقرأوا أيضاً:
إنه إرث نظام الأسد
خلق العيش تحت ظل الاستبداد لفترات طويلة، عوامل وتجذّرات نفسية واجتماعية معقّدة، إذ يتحوّل القمع من مجرد تجربة خارجية إلى آلية داخلية، تُعيد إنتاج ذاتها بطرق مختلفة، حتى لدى أولئك الذين ثاروا ضدها يوماً ما، فإنهم يجدون أنفسهم منساقين الى الديناميات نفسها التي نفروا منها سابقاً.
في بعض الحالات، نلاحظ اعتقاداً لدى فئة معينة، بأنها أصبحت في موقع القوة لمجرد انتمائها الديني السني، ما يدفعها إلى إعادة إنتاج عقلية الاستبداد، ولكن بأدوات وخطابات مختلفة. هذا التصوّر لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج عقود من التمييز الطائفي والسياسي الذي مارسه النظام، فكانت الطائفة العلوية هي القوة السياسية المطلقة في البلاد، ما عزز لدى بعض المجموعات إحساساً متضخماً بالمظلومية، وهو أمر صحيح، لكنه أدّى اليوم إلى تبني خطاب سلطوي مضاد، لفرض وجودهم الذي حاربه نظام الأسد لعقود.
إضافة إلى ذلك، فإن انهيار النظام القديم، لا يعني بالضرورة انهيار ثقافة الاستبداد التي تراكمت لعقود. لا يمكن اختزال المشهد بالقول إن طاغية قد استُبدل بآخر، فمثل هذا الحكم السريع على التجربة السورية الجديدة سيكون مجحفاً. اليوم، ننتقد السلطة من دون خوف مباشر من انتقامها، لكن لا شكَّ في أن هناك خشية من بعض أتباعها، الذين قد يتولّون دور القامع بالنيابة عنها. لقد أصدرت الحكومة أوامر واضحة بعدم وضع صورة الرئيس المؤقت أحمد الشرع على الأعلام، وتميل كذلك الى رفض مظاهر التبجيل، لكن الشعب انساق مباشرة إلى قولبة التجربة السابقة، فتحوّلنا من أبد الأسد إلى أبد شرع.
حتى لو كانت السلطة الجديدة هي نفسها ترفض هذا الأسلوب، لكن الرفض سيبقى غير مجدٍ، إن لم تُسنّ قوانين وإجراءات فاعلة لحماية هذه الحريات.
الأنظمة السيئة والأقل سوءاً
لا شك في أن المجتمعات الخارجة من ظل الطغيان، لا تتحوّل تلقائياً إلى بيئات ديمقراطية، فلا نتوقّع أن ننتقد النظام الحالي ويتقبّل البعض هذا برحابة صدر، حتى لو كانوا هم أنفسهم نادوا قبل أشهر فقط بحق الناس في نقد السلطات.
ما نشهده اليوم من رفض للنقد وتكرار لأنماط القمع، سواء في الواقع أو على وسائل التواصل، ليس استمراراً للنظام القديم بصيغ جديدة، بل هو نتيجة طبيعية للخوف من الفوضى والرغبة في الاستقرار، إلى جانب التكيّف مع لغة الإقصاء التي ترسّخت لعقود. اعتاد السوريون هذه اللغة، ومن كانوا إلى جانب الأسد أدركوا اليوم أن القانون وحده قادر على بناء دولة عادلة، وباتوا يطالبون به على رغم أنهم أدركوا ذلك متأخرين أو تحت وطأة الخوف. لكن في الوقت ذاته، وجد الضحايا القدامى أنفسهم في موقع القوة. وهكذا، نشهد في سوريا اليوم تبدّلاً في مواقع القوة بين الضحايا السابقين والجلادين القدامى.
ينطلق المدافعون عن السلطة الجديدة من مقارنة أي تصرف لها بانتهاكات النظام السابق، وكأن المعيار الوحيد للحكم على جودتها، هو ألا تصل إلى مستوى جرائم الأسد. يعكس هذا التصوّر العميق طبيعة السلطة التي عرفها السوريون لعقود، إذ ترسّخت في وعيهم فكرة أن أي سلطة بديلة لمجرد أنها أنهت حكم الديكتاتور، فهي بالضرورة أفضل. هذا التفكير، وإن بدا مفهوماً في سياق تجربة طويلة من الاستبداد، يتجاهل إمكانية وجود نموذج آخر للسلطة، قائم على العدالة والمساءلة، لا مجرد مقارنة بين الأسوأ والأقل سوءاً.
الشعب السوري شعب مقهور فتّته الديكتاتور، صنع هوّة عميقة بين الإنسان والحرية وفهمها وطريقة ممارسته لها. وتغيير النظام اليوم لا يعني أن الإنسان لم يعد مقهوراً، فالقهر مفهوم حياتي لدى السوري، أكثر من كونه نية واضحة وصريحة يودّ ممارستها إلى الآخر. والأصح القول إن شريحة واسعة من السوريين لا تعرف كيف تعيش حريتها التي حصلت عليها، لأنها مشغولة بملاحقة حريات الآخرين، ببساطة لأن هذا ما رسّخه نظام الأسد في داخلهم.
من جهة أخرى، وصْف الجمهور الغاضب من النقد اليوم بالمستبد ليس دقيقاً، لأنه ببساطة لا يمتلك أدوات الديكتاتور إنما فكره وحسب، الجمهور الغاضب من المساس بالسلطة الجديدة يقول بطريقة مواربة، لسنا ضعفاء بعد اليوم، لن يتم قصفنا ولا تدمير منازلنا ولا زجّنا في السجون، بسبب هويتنا السياسية أو الدينية، وهو موقف متأتٍّ من دور الضحية الذي فُرض عليهم لعقود.
إذاً، ما الحرية التي نشهدها اليوم في سوريا؟ يبدو أنها حرية سقوط النظام، خروج المعتقلين والتحرر من ثقل العسكرة، والتجربة السياسية بغض النظر عن الأسئلة المطروحة حولها، لكن لا يزال هناك طريق طويل أمام الحريات الفردية.
الأنظمة تسقط، لكن النهج البعثي والأسدي الاستبدادي هو أكثر تجذراً من إنزال علم ورفع آخر. والاعتقاد بأن الحرية تحققت هو فهم قاصر للواقع السوري المعقّد، فالكثير من الفئات والمجموعات لم تحصل على حقوقها وحرياتها بعد، كالمثليين والنساء، لكن أيضاً حتى الجمهور المنتصر بالحرية لم يمارس حريته حقاً، وما يمارسه من رفض للمساس بسلطته الجديدة أفضل مثال، فالحرية تشترط تقبّل الآخر واحتواءه مهما كان مختلفاً، وانحيازاً إلى الإنسان لا السلطة.
إقرأوا أيضاً: