الجسر هو الدليل على وجود الفراغ، أحدق في جسرٍ حديدي أمامي يمتد من الضفة إلى وسط البحر دون أن يصل إلى ضفةٍ أخرى! على الرصيف أمامي حيث أجلس وضعت الكتاب الذي أقرأه “أعرف لما تبكي الطيور في أقفاصها” لمايا أنجلو.
كم أشبه هذا الجسر! امتد من الضفة إلى اللاشيء. كم يوجع عنوان كتاب كهذا، يقرأه رجل عابر هارباً من كل صفحات التواصل الاجتماعي الناطقة باللغة العربية صوب البحر. هنا حيث الغرق لا يعني سوى أن يغمرك الماء ويسرق حصة رئتيك من الهواء، بينما تغرق النساء في بلادي بكل ما يحيط بهن. ولا أستثني الماء أيضاً فهو نصيب الهاربات بقوارب الموت التي تثقبها جيوشنا العربية مع ما بقي من كرامتنا.
لو أنني شاركت كل صور النساء المقتولات هناك، لصارت صفحتي مقبرة.
غدت صفحات التواصل الاجتماعي الجرائد اليومية التي تصل الناس ببعضهم وتعكس أحوال الشارع في أي بقعة من العالم. في شهر الفخر لتكريم الذكرى السنوية لانتفاضة ستونوول Stonewall Uprising، التي تعتبر حدثاً محورياً في تاريخ مجتمع الميم، نشرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات تُحيي فيها ذكرى وفاة الناشطة المصرية الكويرية سارة حجازي. قرأت الكثير من التعليقات على مقالات تم نشرها لهذه المناسبة، تفوح منها الكراهية والعدوانية. كانت رداً عنيفاً جداً من البعض، شتم ولعن، وهناك من ذهب للإفتاء بعدم جواز الترحم على روحها. هذا فيما يشارك كثيرون صور من قُتلوا في سبيل قلوبهم، من أجبروا على مغادرة بيوتهم، وترك بلادهم، للتذكير بخطورة العالم عندما تسوده الكراهية، وفي محاولة لصنع مستقبل يصلح للجميع دون تمييز أو إقصاء.
نلحظ رفضاً واضحاً للتنوع في شارعنا العربي من فئة تصدح وتمرح على كل المنصات كوصية على كل من نطق بالعربية أو انتمى لها. وأنا أصفها بذلك مستنداً إلى تجربة مررتُ بها أذكرها هنا: كان نُشر مقال لي على “فيسبوك” للموقع الذي كتبت لمصلحته، فاجأني ارتفاع معدل التفاعل على هذا المنشور فقررت أن أعرف السبب وراء ذلك ورحت أقرأ التعليقات لأكتشف أن معظم من تفاعل لم يقرأوا سوى عنوان المقال!
كيف لهؤلاء أن يحكموا على مقال من أكثر من 1000 كلمة من عنوانه فقط؟ أثار الموضوع فضولي فرحت أبحث في المواقع التي تنشر مقالات باللغة العربية. كان معظم التفاعل من هذا القبيل. ناس لم يقرأوا سطراً من المقالات يتهافتون للتصارع بالتعليقات حول العناوين لا سيما تلك التي تتطرق إلى حرية المرأة، مجتمع الميم عين، أو أي موضوع ديني. فأي تهديد يشعر به هؤلاء من نيل المرأة لحريتها أو وجود المثليين/ات والعابرين/ات بينهم؟ ولماذا يخافون أمثال سارة التي عاشت دون أن تؤذي أحداً، بل على العكس دافعت عن الآخرين، بينما لا يحركون ساكناً أمام جرائم القتل اليومية ضد النساء؟ السؤال هنا، ما نوع الرضا النفسي الذي يريدونه بمواصلة جَلدها حتى بعد موتها؟
يقول درويش…
تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه… لأنها هي ما
تيسَّر له من الطرائد.
في حزيران/ يونيو ذاته تداولت صفحات “فيسبوك” خبراً مفجعاً، مفاده “اغتصاب لاجئة فلسطينية من ذوي الإعاقة في مخيم عين الحلوة جنوب صيدا من قبل عدد من الشبان بينهم عم الضحية”. كان هناك جو احتفالي في بعض الصفحات، وأخرى تدور في فلك الشفقة، أما الغضب فتولته الصفحات النسوية والكويرية منفردة… إنه خبر تم التستر عليه ولفلفته، لأن من قام بجريمتي الاغتصاب والقتل ينتمون إلى “الأمن الوطني الفلسطيني” وهو جهاز تابع لحركة “فتح”!
ولفلسطين حصة الأسد من البلايا فلم يقتصر الاحتلال على سرقة الأرض وتشريد الشعب، إذ يمتد إلى سرقة العقول من طريق إفقار الفلسطيني وحصاره وسيطرة فصائل ما عاد أحد يعرف ما عملها على مخيمات الشتات، يُحرّم ويُجرّم كل نقد داخلي لها ويتم ربطه بالتخوين والمساس بقدسية القضية. تم تكسير صورة المرأة الفلسطينية على يد هذه السلطات كمناضلة وثائرة، في سعي واضح إلى تحجيم دورها وحصره.
أضحت الجرائم التي تستهدف نساء حوادث يومية تروح ضحيتها نساء من مختلف الخلفيات والطبقات الاجتماعية في الأردن ومصر ولبنان وسوريا وفلسطين. تُقتل النساء في بيوتهن، على أبواب الجامعات، وفي الطرق. وحدهن، بين الناس، أو أمام أطفالهن.
إقرأوا أيضاً:
نُقتل بدورنا بدوائر التخلف والمحسوبيات. لم تشهد بلادنا يوماً حكومات مدنية غايتها الإنسان. لطالما تمزقت بلادنا بصراع العسكر ورجال الدين على الحكم ليتحد الطرفان في وجه المرأة والحريات الفردية. فمن أين يأتي هؤلاء المجرمون؟ ولماذا يتم تجييش الشارع ضد مجتمع الميم عين بذكورية لم تجف دماء ضحاياها بعد؟
لطالما ركزت السلطات في بلادنا على الصورة النمطية للرجل والمرأة، وحاربت كل من يخرج عنها بخلق أعداء مصطنعين وملكيات وهمية لتسرق ما تيسر لها من البلاد. فعوضاً عن المحتل الإسرائيلي الذي يتم التطبيع معه من كل الجهات يُفرّغ غضب الشارع بمجتمع الميم عين وتتم محاربة ناسه وملاحقتهم. وبدلاً من تحرير المرأة ودعم استقلالها يتم إقناع الرجل بأنها ملكه فيغض الطرف عن أرضه التي تباع أمام عينيه، ويمارس الوصاية على نساء عائلته. تتحول الدول العربية المدنية إلى دول دينية، لا بل إلى كيانات وعصابات طائفية مغطاة بغشاء دستوري ممزق، ما يخدم الوجود الإسرائيلي في المنطقة ويبرر وجوده ككيان قائم على فكرة الدين.
يبدو أن مواجهة الاحتلال أو الديكتاتور أسهل من مواجهة الجهل الذي يتم زرعه بين الناس في المناطق التي يحتلونها، فالجهل يجعل الناس أعداء ويضيّع البوصلة.
القولبة النمطية الهيكلية للشارع العربي ترسخ الحكم للديكتاتوريات في بلادنا التي غدت عصابات تتناحر. تتصاعد حملات محاربة مجتمع الميم عين في روسيا وإيران فيشتعل الشارع ضد هؤلاء في لبنان وسوريا وفلسطين والخليج. لماذا يتم تقييم من منا ومن ليس كذلك، بحسب ميول الفرد وشكل حياته الخاصة؟ الفردانية هي العدو الأول للأنظمة الشمولية ولاستمرار حكمها كما تريد إلى الأبد. والفردانية تعني الإيمان بتفرد الإنسان واحترام هويته على اختلافها والعمل على دمجه في المجتمع وهذا تماماً ما تسعى الأنظمة إلى منعه.
ما زال الطريق طويلاً ويحتاج إلى نفس طويل جداً لتتغير العقول أو لنتعلم ثقافة تقبل الآخر واحترام مساحته، بعيداً من الوصاية وثقل “التقاليد” وجهلها في أحيان كثيرة.
إقرأوا أيضاً: