في إحدى ليالي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، طُلب من كبير الأطباء المقيمين في مستشفى في مدينة جورجان الإيرانية التشاور بشأن حالة محيرة: كان المريض يعاني من فايروس غامض، كان يتقدم بسرعة عبر جسده. قام الطبيب، الذي طلب ذكر اسمه فقط بآزاد، خوفاً من السلطات، بإجراء فحص بالأشعة وسلسلة من الأشعة السينية على الصدر، لكن الفايروس طغى على المريض قبل أن يتمكن من تحديد العلاج. بعد قراءة التقارير الواردة من الصين، استنتج آزاد أن سبب الوفاة كان الفايروس التاجي، “كورونا”. قال لي: “لم أر شيئاً مثل هذا من قبل”.
بدأ المزيد من المرضى يأتون، في البدء فرادى، ثم في مجموعات مات الكثير منها. عندما نبه آزاد وزملاؤه مسؤولو المستشفى بأنهم يعالجون حالات “كورونا”، أُمِروا بالتكتم عن الموضوع. قال لي طبيب ثانٍ: “تلقينا تعليمات خاصة بعدم نشر أي إحصاءات حول معدلات الإصابة والوفيات”. وأُمر الطاقم الطبي أيضاً بعدم ارتداء الأقنعة أو الملابس الواقية. قال آزاد: “كان الهدف منع انتشار الخوف في المجتمع، حتى لو كان ذلك يعني ارتفاع عدد الضحايا بين الطاقم الطبي”.
مع مرور أسابيع، وتفجر الوباء في الصين، ظلت وسائل الإعلام الإيرانية صامتة تقريباً. أخبرني صحافيان يعملان في منفذ إخباري في طهران أنه كان بإمكانهما رؤية قصص ومصابين بالفايروس على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن محررهما أوضح أنه لا تجب ملاحقة هذه القصص. كان من المقرر إجراء انتخابات برلمانية في 21 شباط/ فبراير، وقد تثبط أنباء ناخبين بالفايروس. قال لي أحد الصحافيين: “الجميع يعرف ما هي القصص التي يمكن أن تسبب لك المشكلات”. “كان من المفهوم أن أي شيء ساعد على خفض الاقبال على الانتخابات سيكون مفيداً للثورة المضادة، ولم يرغب أحد في اتهامه بدعم جماعات المعارضة الأجنبية”.
وكان المسؤولون قلقين بشأن العلاقات مع الصين، وهي واحدة من الدول القليلة التي استمرت في شراء النفط الإيراني منذ فرض العقوبات المدعومة من الولايات المتحدة. لأسابيع بعد الإبلاغ عن تفشي المرض في ووهان، واصلت شركة “ماهان إير” الإيرانية رحلاتها المباشرة هناك. يسيطر على ماهان فيلق الحرس الثوري الإسلامي، القوة الأمنية القوية التي تعمل بشكل متزايد كحكومة ظل في إيران.
قبل يومين من الانتخابات، أعلنت الحكومة الإيرانية أخيراً عن وفاة مواطنين بسبب الفايروس التاجي. في غرفة أخبار طهران، اندلع الضحك المرير. قال لي المراسل: “أبلغنا عن حالات وفاة قبل الإبلاغ عن أي إصابات”. “لكن هذه هي الحياة في الجمهورية الإسلامية”. وبحلول ذلك الوقت، كان مئات المرضى يزدحمون المستشفى في جرجان. تراكمت الجثث بحيث استأجرت المقبرة المحلية حفاراً لحفر القبور. قال الطبيب الثاني: “لقد كان أسوأ من معاملة الجنود في ساحة المعركة”.
سرعان ما أصبحت إيران مركزاً عالمياً للفايروس، وتم الإبلاغ عن حوالى 70 ألف اصابة وأربعة آلاف حالة وفاة. لكن الحكومة حافظت على سيطرة مشددة على المعلومات. وفقاً لوثيقة رسمية مسربة، أمر الحرس الثوري المستشفيات بتسليم عدد الموتى قبل إعلانه للجمهور. قال آزاد: “كنا ندفن ما بين ثلاثة إلى أربعة إلى خمسة أضعاف ما أبلغت عنه وزارة الصحة”. “كان يمكن أن نتعامل مع هذا- كان يمكننا أن نبدأ إجراءات العزل في وقت سابق، وكان بإمكاننا اتخاذ احتياطات مثل تلك التي قام بها الصينيون في ووهان- لو لم نكن في الظلام”. في 24 شباط، ظهر إيراج حريشي، نائب وزير الصحة، في مؤتمر صحافي ونفى التستر على حجم الإصابات. بدا شاحباً ومرتبكاً، ومسح العرق مراراً وتكراراً عن جبينه. في اليوم التالي، كانت نتائج فحصه أيضاً إيجابية.
في منتصف آذار/ مارس، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” صور الأقمار الصناعية للمقابر الجماعية المحفورة حديثاً. بعد أسابيع، قام السجناء بأعمال شغب في السجون في جميع أنحاء البلاد، وذلك خوفاً من أنهم محاصرون بالفايروس، ففتح الحراس النار، ما أسفر عن مقتل 35 على الأقل. وبينما دمر الوباء الاقتصاد الذي أضعفته العقوبات أساساً، طلبت إيران من صندوق النقد الدولي قرضاً طارئاً قيمته 5 مليارات دولار. كانت هذه المرة الأولى منذ ننحو 60 عاماً تناشد فيها الحكومة صندوق النقد الدولي، الذي وصفته تاريخياً بأنه أداة للهيمنة الأميركية.
مع تشنج البلاد، قال علي خامنئي، المرشد الأعلى للنظام الثيوقراطي في إيران، إن الولايات المتحدة وحلفاءها نشروا سلاحاً بيولوجياً. وقال في خطاب ألقاه في آذار: “الأميركيون متهمون بإحداث هذا الفايروس”. “هناك أعداء شياطين، وهناك أعداء بشر، وهم يساعدون بعضهم بعضاً. تتعاون أجهزة الاستخبارات في الكثير من البلدان ضدنا”.
حتى أثناء حديث خامنئي، كان الفايروس ينتشر إلى أعلى المستويات في البلاد، لا سيما بين المسنين. أصيب ما لا يقل عن 50 من رجال الدين والشخصيات السياسية، وتوفي ما لا يقل عن 20. قيل إن المرشد الأعلى تم عزله عن معظم الاحتكاك البشري، لكن دائرته الداخلية كانت لا تزال عرضة؛ فأصيب نائبان للرئيس وثلاثة من أقرب مستشاريه. زاد الفايروس، الذي بدا أنه قادر على الوصول إلى أي شخص. خامنئي، الذي قاد البلاد منذ عام 1989، يبلغ من العمر 80 سنة، وقد نجا من سرطان البروستات، ويشاع أنه في حالة صحية سيئة. ما الذي سيحدث لإيران عندما يموت؟
الرحلة إلى زعيم إصلاحي
في شباط، زرت سرا منزل زعيم إصلاحي في طهران، كان قضى سنوات في السجن لكنه لا يزال على اتصال مع المسؤولين ذوي التفكير المماثل في النظام. قلقاً من أنه قد يكون حديثي معه يعرضه للخطر، سلكت طريقا دائرياً إلى شقته. في منتصف الرحلة، خرجت من سيارة الأجرة، وسرت إلى المبنى التالي، واستقلّيت سيارة أخرى.
أخبرني مضيفي أن البلد وصل إلى مرحلة حاسمة. لقد انهارت ثقة الجمهور في النظام الثيوقراطي- الذي تم تثبيته بعد الثورة الإيرانية عام 1979. بعد فترة وجيزة من تولي خامنئي السلطة، وعد الإيرانيين بأن الثورة “ستقود البلاد على طريق النمو الاقتصادي والتقدم”. وبدلاً من ذلك، ترك رجال الدين الحاكمون في إيران البلاد متعثرة اقتصادياً وانقطعوا إلى حد كبير عن بقية العالم. أدت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عام 2018، بعدما ألغى الرئيس ترامب الاتفاق النووي بين البلدين، إلى تفاقم تلك الإخفاقات وزاد من فساد النخبة الحاكمة. قال مضيفي: “أود أن أقول أن 85 في المئة من السكان يكرهون النظام الحالي”. “لكن النظام غير قادر على إصلاح نفسه”.
تنتشر التكهنات حول طول عمر خامنئي في المراكز العليا للحكومة والجيش. قال مضيفي: “بدأ النضال من أجل خلافته”. لكن خامنئي أمضى عقوداً في وضع الموالين في جميع أنحاء المؤسسات الرئيسية في البلاد، مشيداً بذلك نظام يخدمه ويحميه. أضاف: “خامنئي مثل الشمس، والمجموعة الشمسية تدور حوله”. “هذا هو قلقي: ماذا يحدث عندما تخرج الشمس من النظام الشمسي؟ فوضى”.
قبل أن تجدد الثورة إيران، كان خامنئي رجل دين شاباً في مدينة مشهد. نشأ متواضعا، ابن رجل دين. رجل نحيف، ذو وجه طويل ورفيع تزينه النظارات المستديرة الكبيرة التي أعطته سلوكاً براقاً. كان من أنصار الشعر والأدب الفارسي، وأعجب أيضاً بتولستوي، وستينبيك، وفيكتور هوغو، ووصف “البؤساء” بأنه كتاب “معجزة”… كتاب علم الاجتماع، كتاب التاريخ، كتاب النقد، كتاب إلهي، كتاب الحب والشعور”. تأثر خامنئي بالمفكرين الإسلاميين الراديكاليين في عصره، ولا سيما سيد قطب، الذي امتدح استخدام العنف ضد أعداء الدين. ولكن، في التجمعات العائلية، احتفظ بأفكاره القاسية لنفسه. قال لي أحد أقاربه الذي نشأ معه: “إنه يعانق الناس، ويقبل الأطفال، ويحادثهم جيداً”. “ولكن عندما يرتدي الزي السياسي، عندها يصبح سيئاً. وعندها أيضاً يصبح عدوانياً”.
عندما كان خامنئي يشكل وجهات نظره، كانت البلاد في حالة اضطراب. عام 1953، أدى انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة إلى ازاحة محمد مصدق، رئيس الوزراء المنتخب ديموقراطياً. تم استبداله بمحمد رضا بهلوي، شاه إيران، الذي سيطر على البلاد، بمساعدة الولايات المتحدة وقوة لا تعرف الرحمة من الشرطة السرية. في السنوات التي تلت، أثار آية الله المنفي روح الله الخميني معارضة شديدة على نحو متزايد، مبنية على فكرة أن دولة بقيادة رجال دين، مسؤولة فقط أمام الله وتعارض المفاهيم الغربية للحداثة، بإمكانها أن ترفع البلاد بعد عقود من الإذلال.
اعتنق خامنئي هذه النظرة الثورية للعالم وبدأ السفر عبر البلاد، وحث رجال الدين على إيقاظ رعاياهم. بعد فترة وجيزة، تزوج، تفاجأت زوجته بعقيدته الشديدة. سألني زوجي في الأشهر الأولى من زواجنا، “كيف ستشعرين لو تم اعتقالي؟” صرّحت، في مقابلة عام 1993 مع مجلة نسائية إيرانية. “كنت مستاءة للغاية في البداية. لكنه تحدث عن الاشتباكات والمخاطر والمشكلات وكيف أن هذا واجب على كل الناس وأقنعني”.
سُجن خامنئي 6 مرات على يد شرطة الشاه السرية، بما في ذلك خلال مهمة، عام 1974، في سجن في طهران يدعى اللجنة المشتركة لمكافحة التخريب. ويتذكره هوشانغ أسدي، وهو زميل في الزنزانة، بأنه رجل لطيف على رغم تشدده الديني، ولطيف بما يكفي لإطعام أحد زملائه السجناء بعد جلسة تعذيب. كان خامنئي يقرأ القرآن بصوتٍ عالٍ، ويغرق في كلمات النبي، أو ينظر الى السماء من خلال قضبان زنزانته. كان فضل الاسدي، وهو ملحد، يفضل تمضية الوقت مع زملائه في الزنزانة بالترفيه عنهم عبر مجموعة من النكات. عندما التقيت بأسدي في باريس، حيث يعيش في المنفى، قال لي “الخامنئي لم تعجبه نكاتي الجنسية”، “أطلقتها في أي حال، لأن الجميع أحبها. كان يناشدني للتوقف”.
بعدما فر الشاه عام 1979، وأصبح الخميني المرشد الأعلى للبلاد، عُين خامنئي نائباً لوزير الدفاع، وقائد صلاة الجمعة لمدينة طهران. بدأ وسط أزمة. قبل وقت ليس ببعيد، اقتحمت مجموعة من الشباب المتعصبين السفارة الأميركية وأخذوا 52 رهينة، معظمهم من الديبلوماسيين، الذين اتهموا بأنهم جواسيس. استمر الحصار 444 يوماً ودمر أي أمل في تقارب أميركي- إيراني مبكر.
عارض خامنئي الاستيلاء في البداية، لكنه أيده عندما أصبح يستحيل التراجع. ذكر جون ليمبرت، وهو موظف سياسي كان من بين المحتجزين في السفارة، أنه بعد أشهر من المحنة، زارهم خامنئي مع طاقم تصوير، لإظهار أن الرهائن عوملوا جيداً. حاول ليمبرت قلب الطاولة، متظاهراً بأنه كان يستضيف خامنئي في منزله. قال لي ليمبرت: “اعتذرت لأنني لم أتمكن من تقديم أي شيء له لتناول الطعام أو الشراب، وللظروف السيئة حقاً”. “لم يعتذر، لكنه كان مرتبكاً ومحرجاً. كان يعلم أنني أسخر منه”.
الحكومة الثورية
أنشأت الحكومة الثورية نفسها، لكنها لم تكن مسيطرة بالكامل. عام 1980، أرسل صدام حسين، الديكتاتور العراقي، جيشه عبر الحدود، وبدأ حرباً كارثية استمرت 8 سنوات وقُتِل حوالى مليون شخص. في الداخل الإيراني، تم استبعاد الجماعات اليسارية التي حاربت إلى جانب الإسلاميين من السلطة. وعندما قاد الخميني حملة على حلفائه السابقين، قاتل بعضهم. وكان من بينهم “مجاهدو خلق”، وهي جماعة متطرفة يمولها صدام. أنشأت منظمة مجاهدي خلق معسكراً شاسعاً في العراق، حيث سادت الأجواء الطائفية، وتم حظر الأزواج وطلب من الأعضاء تسجيل أفكارهم الجنسية في دفاتر الملاحظات الخاصة. وشنّت المجموعة عبر الحدود حملة اغتيالات وهجمات إرهابية.
في حزيران/ يونيو 1981، عندما كان خامنئي يستعد لإلقاء خطبة في مسجد أبوذر في طهران، انفجرت قنبلة زرعت في جهاز تسجيل ووضع أمامه. أصيب بجروح خطيرة. وفقاً لروايته، فقد توقف نبضه. وفقد سمعه في أذن واحدة والقدرة على استخدام ذراعه اليمنى. بعد ذلك، أعطى تقييماً خداعياً لآثار الإصابة: “لن أحتاج إلى اليد، يكفي لو عمل دماغي ولساني”. لكن الناس الذين عرفوه قالوا إنه تغير. لاحظ قريبه الذي نشأ معه أنه لا يصافح إلا بيده اليسرى. قال: “لمدة 40 سنة، كانت لديه قطعة من اللحم تتدلى من جسده، وما زالت تسبب له الألم”. “لقد جعلته هذه التجربة الشخصية غاضباً للغاية من الداخل- فقد أعطته ضغينة ضد الناس”. بعد أشهر قليلة من الهجوم، انتخب خامنئي رئيساً.
بعد 8 سنوات، مات الخميني، تاركاً الثورة من دون شخصية موحِدة. وفقاً للدستور الإيراني، سيتم اختيار المرشد الأعلى من قبل مجموعة من كبار رجال الدين المعروفين باسم مجلس الخبراء. كان خامنئي عضواً في المجلس، لكنه لم يكن عضواً عالي المستوى أو مفضلاً لهذا المنصب. تم اختياره من قبل علي أكبر هاشمي رفسنجاني، أحد القادة السياسيين المهيمنين في عصره، والذي حل محل خامنئي كرئيس. يعتقد كثيرون أنه رأى خامنئي سهل التلاعب. عندما تم الإعلان عن الاختيار، قدم خامنئي عرضاً يعلن فيه افتقاره للخبرة في اللاهوت الإسلامي. وقال أمام الجمعية “أنا حقاً لا أستحق هذا اللقب”. “ترشيحي يجب أن يجعلنا جميعاً نبكي دموعاً”. اعتبر المتشككون هذا عرضاً كلاسيكياً لـ“التعارف”، وهو تقليد فارسي من التجاذب، أو التهذيب غير الأخلاقي.
سلطة مطلقة
أعطت الوظيفة خامنئي سلطة مطلقة تقريباً: السيطرة على فروع الحكومة، قيادة القوات المسلحة، الإشراف على القضاء. أثبت أنه مستبد ذكي وحيوي، وخلق هيكلاً موازياً لكل مؤسسة. قال مهدي خلجي، رجل الدين الشيعي السابق في إيران، وهو الآن زميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: “بهذه الطريقة، أبقى الجميع ضعفاء”. أشرف خامنئي أيضاً على أكبر الثروات في البلاد: مجموعة من الصناديق المؤسسية، المبنية على الممتلكات التي تم الاستيلاء عليها من نخبة الشاه، والتي بلغت قيمتها مئات المليارات من الدولارات.
وبحلول ذلك الوقت، كان لخامنئي ومنصورة أربعة أبناء وابنتان. نقل الخامنئي الأسرة إلى منزل في وسط طهران في نهاية شارع فلسطين، وسدها عن الجمهور. نما المجمع في النهاية ليحتوي على نحو 50 مبنى، لكن خامنئي قدم نفسه على أنه زاهد، عبر ارتداء الملابس العادية وتناول الطعام ببساطة. وقالت زوجته المنصورة لمجلة نسائية “ليس لدينا زينة بالمعنى المعتاد”. “لقد حررنا أنفسنا من هذه الأشياء منذ سنوات”. (لم تكن هناك صور مصاحبة للمقابلة. خلال أربعة عقود، لم تظهر قط في صورة).
في منصبه، تحرك خامنئي بشراسة ضد أعدائه. واصل جهود النظام لاغتيال المنفيين المعادين، وقتل حوالى 160 شخصاً في جميع أنحاء العالم. وقاد حملة قاتلة ضد منظمة مجاهدي خلق، وتم إعدام عشرات الآلاف من الأعضاء. خامنئي، الذي لا يزال مقتنعاً بقوة الأدب، جعل الكتاب والمثقفين المنشقين هدفاً خاصاً، فحظر الكتب، وأغلق الصحف، وسجن الفنانين، قائلاً: “يجب أن يكون الشعر طليعة قافلة الثورة”.
على مر السنين، دفع الإصلاحيون داخل الحكومة وخارجها إلى تعزيز سيادة القانون، لإعطاء الصحافة قدراً أكبر من الحرية، والحد من الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن. مراراً وتكراراً، كان الخامنئني بالمرصاد وخرب أي جهد جاد في التحرير. جاءت إحدى أبرز اللحظات عام 1997، عندما فاز مرشح إصلاحي يدعى محمد خاتمي بالرئاسة بأغلبية ساحقة. عندما بدأ خاتمي متابعة أجندته، واجه مقاومة فورية من داخل النظام. مع بداية ولايته، اهتزت البلاد بما أصبح يعرف باسم جرائم القتل المتسلسل، وقتل حوالى 80 فناناً ومثقفاً منشقاً، تم تشويه وطعن وتسميم بعضهم. استغلت الصحافة الحرية الجديدة التي سمح بها خاتمي، وأصدرت سلسلة تقارير، كشفت أن عمليات القتل نفذها عملاء من وزارة المخابرات والأمن، على الأرجح لتخويف أنصار خاتمي الأكثر وضوحاً.
ورداً على ذلك، أغلقت الحكومة الإيرانية الصحيفة “سلام” التي أبلغت عن الفضيحة بشراسة. بدأت الاحتجاجات في جامعة طهران، وانتشرت بسرعة إلى الكليات في جميع أنحاء البلاد. أعرب خامنئي في البداية عن اشمئزازه من عمليات القتل، ولكن عندما أصبح واضحاً أن المتظاهرين هددوا سلطته، انقلب عليهم. هاجمت قوات الأمن مهجعاً في جامعة طهران، ما أسفر عن مقتل أربعة طلاب وإصابة 300 واعتقال 400 آخرين. لم يتأثّر خامنئي. وقال إن “المسؤولين في الحكومة، وبخاصة المسؤولون عن الأمن العام، تلقوا تعليمات صارمة بإخماد العناصر الفاسدة والمتناحرة ببصيرة وقوة”. وبعدما أصبح عاجزاً تقريباً، اعتزل خاتمي منصبه عام 2005.
كان من المقرر الاحتفال في وسط مدينة طهران في 11 شباط بالذكرى 41 للثورة كنت في مطعم في المدينة في ذلك الصباح، عندما سمعتني نادلة وانا اخطط للحضور. “أنت ذاهب؟” سألت بسخرية. “يجبرون الناس على الذهاب إلى هناك- يبتزونهم. يقولون للناس إنهم إذا لم يذهبوا سيفقدون وظائفهم”.
موكب أسفر عن شارع الاستقلال لأكثر من ميلين. على طول الطريق، علّقت لافتات انتصار الثورة، وانشترت في كل حي صور الخميني وخامنئي. بدت الاحتفالات ضعيفة، مع وجود فرق صغيرة من المتظاهرين يرعون الأطفال مجمعين ضد البرد. صرخ بعض الحاضرين بصرامة “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل”. ولكن عندما حضر حسن روحاني، رئيس البلاد، إلى المحاضرة في ساحة الحرية، عمّ الصمت. ولكن سرعان ما استمر معظم الناس في التحدث مع بعضهم بعضاً. قالت لي امرأة تدعى مجيدة: “وعد روحاني أنه بعد الاتفاق النووي سيتم حل معظم مشاكلنا”. “قررنا أن نؤمن بالمعجزة! أنظر ماذا حدث”.
لم يتوقف شعوري بعدم واقعية العرض؛ رافقني طوال فترة وجودي في إيران. حتى ظروف وصولي بدأت بسخرية. كنت أطلب لسنوات إذناً للزيارة، وكان يرفض دائماً. ثم، في شباط، تلقيت مكالمة غير متوقعة من قسم المصالح الإيرانية في واشنطن، أبلغتني الموافقة على التأشيرة. (علل بعض الإيرانيين أنه مع ارتفاع حدة التوترات الدولية ووباء الوباء في مراحله الأولى، أراد النظام إظهار الثقة). قيل لي إن التأشيرة سارية المفعول وستنتهي في غضون 6 أيام. أسرعت إلى المطار.
في طهران، قابلتني امرأة لطيفة وقديرة، تم تكليفها من جهة حكومية لتكون دليلي. وكان هدف هذا الترتيب أن يقتصر اتصالي على الأشخاص الموثوق بهم من الحكومة. وهذا يعني أن أكثر المحادثات الكاشفة والمهمة، كانت تلك التي أعددتها بمفردي، مع استعداد الإيرانيين للمخاطرة بمقابلتي بعدما غادرت دليلتي إلى المنزل في المساء. لم يكن هناك الكثير من المستعدين للمخاطرة بأنفسهم. في وقت مبكر من زيارتي، عرضت محامية تدعم مبادرات حقوق المرأة في طهران، جمع ناشطات من أربع منظمات مختلفة. جميعهنّ رفضن. قالت: “أنا آسفة”. “هناك مخاطرة كبيرة”.
موجات الإصلاح والقمع
تحدث المنشقون الذين وافقوا على مقابلتي عن موجات الإصلاح والقمع التي لا تزال موجودة. في إحدى الليالي، التقيت الصحافي والناشط بهمن أحمدي أموي في مطعم هادئ، وتشاركنا وجبة “كباب قبيدة” وهو طبق إيراني من لحم الضأن والبهارات. عندما خفف خاتمي القيود على الصحافة في أواخر التسعينات، حقق أموي أقصى استفادة منها. بصفته مراسلاً لصحيفة “همشهري”، كتب سلسلة تفصّل كيف استغل رجال الأعمال وكبار المسؤولين الحكوميين السوق المغلقة في البلاد لإثراء أنفسهم. سأل في أحد المقالات المشهورة: “لماذا يتم استيراد جميع الشادورات (العباءات التي ترتديها النساء) تقريباً؟”. قال لي: “سبب ذلك هو أن الأشخاص الأقوياء، في الحكومة وخارجها، يصبحون أغنياء من الواردات ومن خلال منع المنافسة”. تمت قراءة قطع أموي ومناقشتها في جميع أنحاء طهران. كان انتقاد الحكومة حداثة مبهجة. وقال أموي إن خاتمي لم يكن سعيداً، لكنه “تحمّل ذلك”.
كما غطى أموي الانتخابات الرئاسية لعام 2009، والتي تبين أنها الاختبار الأكثر صرامة لالتزام خامنئي بالحكم الشعبي. ووضعت الانتخابات الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد ضد منافسه المحبوب مير حسين موسوي. وعلى الفور بعد إغلاق صناديق الاقتراع، أعلنت السلطات فوز أحمدي نجاد- وذلك بوقت سابق لأوان فرز الاصوات. تدفق الإيرانيون، وبخاصة من الطبقة الوسطى المتعلمة، إلى الشوارع للاحتجاج على تزوير نتائج الانتخابات. كانت بداية ما أصبح يسمى بالحركة الخضراء.
وانضمّ أموي وزوجته جيلا بني ياغوب، صحافية وناشطة في مجال حقوق المرأة، إلى الاحتجاجات. قال: “لقد سرق النظام الانتخابات”. “الشعب أراد كرامته فقط”. لكن مع تزايد قوة التظاهرات، اجتاحت قوات الأمن المتظاهرين واعتقلت وضربت وقتلت كثراً منهم. وأعرب خامنئي عن أسفه للعنف، لكنه أوضح أيضاً أن المتظاهرين تمادوا جداً. وقال “إنهم ليسوا على صلة بالمرشحين”. “إنهم مرتبطون بالمخربين ومثيري الشغب”. في اليوم التاسع من الاحتجاجات، اعتقلت الشرطة أموي وزوجته بانياغوب لنشرهما اكاذيب ومعلومات معادية للحكومة. حُكم عليها بالسجن لمدة عام. وعلى اموي بخمسة. في الأشهر الثلاثة الأولى، كان محبوساً في زنزانة انفرادية بحجم خزانة، وكانت الأضواء مضاءة دائماً “للتعذيب الأبيض”، على حد تعبير اموي. “لم أستطع شم أي شيء، او الشعور بأي شيء”، “كل ما أردته هو التحدث مع أي شخص قليلاً، ولكن لم يكن هناك أحد”، “أتحدث مع نفسي، وأحياناً أفقد عقلي”.
ومع هدوء التظاهرات بعد عشرة أشهر، كان قد تم اعتقال موسوي ومعه حوالى أربعة آلاف متظاهر. وقتل ما لا يقل عن 70 شخصاً، وعُذِب واُغتُصِب آخرون في السجن. لكن الانتخابات والاحتجاجات كانت بمثابة نقطة تحول للجمهورية الإسلامية. بعد أشهر، انتشر فيديو مسرب لاجتماع لقادة الحرس الثوري على الإنترنت. في الفيديو، قال الجنرال محمد علي جعفري، الذي كان آنذاك قائد الحرس، إن المشكلة ليست في منع الإصلاحيين من الاستيلاء على الرئاسة- بل في أن الإصلاحيين تحدوا مبادئ الثورة. وأضاف: “لقد كانت ضربة أضعفت الركائز الأساسية للنظام”. وقال إن الاحتجاجات قدمت للطبقة السائدة “نموذجاً جديداً” لم يعد بإمكانها الاعتماد على الدعم الشعبي. “أي شخص يرفض فهم هذه الشروط الجديدة لن ينجح”.
أُطلق صراح أموي في 2014. منذ ذلك الحين وهو ينتقل من وظيفة إلى أخرى، ويعمل محرراً وأحياناً يكتب بدون خط ثانوي. (نُشرت مذكراته “الحياة في السجن” في الولايات المتحدة). سألته إذا كان يشعر بالأمان في التحدث معي، وعما إذا كان يريد نشر اسمه. لم يتردد. قال “هذا من حقي”. بعد العشاء، بينما كنا في طريقنا إلى الفندق، مررنا على تقاطع مظلم، حيث كان ضباط مسلحون يوقفون السيارات ويفتشونها. قال، “إن الأمر كله يتعلق بالحفاظ على نسبة من الخوف في نفوس الناس”.
لم يكن خامنئي دائماً يهدّد. عندما تم اختياره في المرة الأولى ليكون المرشد الأعلى، كان يُنظر إليه على أنه ضعيف، ويفتقر إلى احترام زملائه من رجال الدين. لذا لجأ إلى الحرس الثوري الإسلامي. لبناء الدعم، عين عقيداً وعسكريين جدد. وقال خلجي من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى “خامنئي يدير النظام برمته، لذا فإن الجميع مخلصون له”. “إنه شديد النشاط. إنه يعرف كل قائد ذا رتبة منخفضة وأسماء أبنائه”. أصبح الحرس الثوري الإيراني الأساس الرئيسي لسلطة خامنئي. بدوره، جعلها المؤسسة الأمنية الأبرز في البلاد.
خلال الحركة الخضراء، كان للحرس وميليشياته في ملابس مدنية، والمعروفة باسم الباسيج، دور فعال في سحق المعارضة. وبحسب عباس ميلاني، مدير برنامج الدراسات الإيرانية في ستانفورد وسجين سياسي سابق في إيران، فإن الانتفاضة وصلت إلى دعك سياسي. قال ميلاني: “من الواضح أن النظام اعتقد أنه سيفقد السيطرة، فاستُخدم الحرس الثوري الإيراني والباسيج”. والنتيجة هي أن الحرس الثوري الإيراني الآن له اليد العليا والسيطرة الكاملة، “يعرف خامنئي جيداً أنه من دون الحرس الثوري الإيراني، سيكون خارج السلطة خلال أربع وعشرين ساعة”.
إن الرمز الأكثر وضوحاً لقوة الحرس الثوري الإيراني هو الباسيج، الذين تمكن رؤية أعضائه في زوايا الشوارع في كل مدينة إيرانية. والتدبير الأقل وضوحا وسريةً هو تلاعبه بالاقتصاد. عندما تولى رجال الدين زمام الأمور بعد الثورة، تمكنوا من السيطرة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد، بما في ذلك إنتاج النفط والمصانع والموانئ. خلال العقدين التاليين، تمت خصخصة مجموعة من الشركات المملوكة للدولة – ولكن بدلاً من الذهاب إلى رجال الأعمال المهرة، تم الحصول على الكثير منها من قبل الحرس الثوري الإيراني وشركائه. اليوم، يُعتقد أن عناصر من الحرس يملكون شركات البناء ومصافي النفط والمناجم، إلى جانب مركز تجاري فاخر من 19 طابقة في حي فخم في طهران. لا أحد متأكد تماماً من حجم الاقتصاد الذي تسيطر عليه المجموعة. تقديرات موثوقة تتراوح من 10 إلى أكثر من 50 في المئة. وجاء أحد مؤشرات ثروتها عام 2009، عندما دفعت ذراعها الاستثمارية 7.8 مليار دولار مقابل حصة أغلبية في شركة الاتصالات الإيرانية. كانت الميزانية الإجمالية للحرس الثوري الإيراني، على الورق، 5 مليارات فقط. في المجتمع الإيراني، نما الحرس ليصبح نخبة لا يمكن المساس به. قال لي ضابط مخابرات كبير سابق في الشرق الأوسط: “لديهم مدارسهم وأسواقهم وأحياؤهم ومنتجعاتهم الخاصة”. “الأحياء تبدو كنسخة كربونية من بيفرلي هيلز الاميركية”.
جهود خنق الحرس الثوري
منذ توليه منصبه، بذل ترامب سلسلة من الجهود لخنق الحرس الثوري الإيراني عام 2017، وصنفت وزارة الخزانة الحرس منظمة إرهابية، وتعهد الوزير ستيفن منوشن “بعرقلة الأنشطة التدميرية للحرس الثوري الإيراني”. لكن العقوبات التي فرضها الغرب كان لها تأثير ضار. ولأن بلداناً قليلة تتاجر مع إيران، فإن الشركات التي يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني أصبحت تمارس نوعاً من الاحتكار داخل البلاد. وفيما تراقب الولايات المتحدة وحلفاؤها الشحن الدولي، شدد الحرس الثوري قبضته على الممرات البحرية والمطارات، حيث ازدهر تهريب النفط والمخدرات.
عندما أصبح روحاني رئيساً، عام 2013، بدأ العمل لكبح جماح قوة الحرس الثوري الإيراني. وتحرك لانتزاع بعض ممتلكاتها التجارية، مشجعاً فكرة أن “على جميع الجنود يجب أن يعودوا إلى الثكنات”. كما قاد المفاوضات مع الغرب حول البرنامج النووي للبلاد، والذي يشرف عليه الحرس. لكن المبادرتين تعثرتا في نهاية المطاف، ودفع الحرس الثوري الإيراني بحملة خاصة به. عام 2017، بدأ المدعون، وكثر منهم موالون للحرس، سلسلة تحقيقات جنائية لأشخاص مقربين من روحاني، وسجنوا شقيقه بتهم الفساد.
ازدادت التوترات لدرجة أن المسؤولين ناقشوا فعالية جهود تحييد روحاني. في خطاب في آب/ أغسطس 2018، اشتكى خامنئي من المنتحلين الذين “كانوا ينجزون خطة العدو”. بعد ذلك بشهرين، قال عزة الله زرغامي، الجنرال السابق في الحرس الثوري الإيراني ورئيس القناة الرسمية الإيرانية، في مقابلة له، إن رؤساء مؤسسات حكومية رائدة كانوا يستعدون “لتولي الكثير من تلك المجالات وإدارتها بدلاً من الحكومة”.
أُحبط هذا الجهد، ولكن ربما كان هناك جهد آخر. أخبرني مسعود بستاني، الصحافي الإيراني الذي أودت به تقاريره إلى السجن ثلاث مرات، أنه في أواخر العام الماضي، كان الحرس الثوري الإيراني يتحرك لتجريد روحاني من معظم سلطته. أخبرني مصدر مطلع على الأعمال الداخلية للحرس أن الضباط كانوا يخططون لاعتقال حوالى 100 شخص قريب من الرئيس.
لكن قبل أن يحدث أي شيء، أوصلت إدارة روحاني البلاد في حالة من الفوضى. في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، أعلنت الحكومة رفع سعر البنزين 50 في المئة. نشرت الأخبار بهدوء- في منتصف ليل يوم عطلة وطنية- لكنها سرعان ما تلقت غضباً واسعاً. فالإيرانيون يقودون السيارات لكل مكان ويعتمدون على البنزين المدعوم من الحكومة. بدأ المواطنون العاديون يتدفقون إلى الشوارع للاحتجاج، واندلعت أكبر أعمال الشغب وأكثرها تشويشاً منذ الثورة.
في اليوم الثاني من التظاهرات، كان بويا باكتياري وهو مهندس كهربائي، عائداً من عمله في ضاحية طهران، كراج، عندما مرّ من أمام تجمع حاشد للمتظاهرين. كانت وسائل التواصل الاجتماعية تعج بأخبار الاحتجاجات. عندما وصل البيت، تناول وجبة الغداء مع والدته ناهد. بعد ذلك، أخبرها أنه كان يتجه إلى الشوارع، وسأل عما إذا كانت تريد أن تأتي. وافقت، بشرط واحد: “فقط إذا أمسكت بيدي”. منى، شقيقة بويا، قررت أيضاً مرافقتهما.
سئم البكتيون من الثورة، على رغم أن والد بويا قاتل في الحرس الثوري خمس سنوات خلال الحرب العراقية- الإيرانية. بويا، الذي كان يأمل بالزواج قريباً وبناء حياة، كان يكره النظام بشدة. قالت لي ناهد: “أحب بويا الشعر والطبيعة- رأى الجمال في كل شيء”. “لقد أحب التاريخ أيضاً، وكان يقول إن هؤلاء رجال الدين دمروا بلادنا. كان يقول، “لم نر يوماً مثل هذا الوقت الرهيب في تاريخنا”. سرعان ما أصبحت الاحتجاجات منفذاً لإحباطات مختلفة، ومنفذاً لإحباطات أوس. وقالت ناهد “يمكننا أن نرى أن الحكومة تنفق أموالنا على دول أخرى، فترسلها إلى حماس وسوريا وحزب الله”. “لم تكن الاحتجاجات تتعلق بالبنزين. كانوا يتظاهرون احتجاجاً على المجموعة ذاتها من الأشخاص الذين تحكموا بالبلاد 40 عاماً، يسعون عمداً إلى قتال مع الولايات المتحدة. هؤلاء الأشخاص هم الذين حولوا إيران إلى دولة منبوذة. لا يمكن أن نستمتع، فإيران ديكتاتورية دينية بلا فرح. نحن مجبرون على قبول هويات مزيفة”.
عندما انضمت العائلة إلى التظاهرة، شعرت ناهد باندفاع. كان الجمهور غاضباً، ولكنه لم يكن عنيفاً. “أميركا ليست العدو!” صرخ المتظاهرون. العدو هنا! أطلقت الشرطة الغاز مسيل الدموع، لكن المتظاهرين استمروا في التقدم. شعرت ناهد بالحرية فجأة: “التفتت إلى منى وقالت: “إن هذه أفضل ليلة في حياتي”.
أخبر بويا والدته أن حذاءه تمزق وأنه عائد إلى السيارة، ثم اختفى وسط الحشد. سمعت ناهد صوت إطلاق نار متقطع في البداية ثم استمر. دفعت من خلال الحشد، ورأت الناس يسقطون حولها، ينزفون من جروح الرصاص. وقالت لنفسها: “كم سيكون الأمر مرعباً لأمهات هؤلاء الأبناء”. ثم رأت بويا في أحضان مجموعة من المتظاهرين. وكان أصيب بطلق ناري برأسه. “إنه ابني!”، صرخت. سحبت ناهد ومنى بويا الى السيارة، وتوجهوا إلى المستشفى. مات قبل وصولهم.
الأيام التالية لم تجلب الراحة للعائلة. قالت ناهد “دفعني الحزن نحو الجنون”. في البداية، رفضت قوات الأمن تسليم جثمان بويا. ثم جروا ناهد وزوجها إلى مركز الشرطة لاستجوابهما. بقي ضباط يرتدون ملابس مدنية خارج منزل الأسرة. اتصل الرجال على الهاتف وهددوهم، فقالت: “عندما سألنا من قتل بويا، قال العميل إنها يجب أن تكون منظمة مجاهدي خلق”. عندما استلموا جثة بويا أخيراً، خرج ألف من المتعاطفين في حفل حداداً على وفاته. حامت الشرطة في المحيط. في الأشهر التي أعقبت وفاة ابنها، بدأت ناهد زيارة أمهات الإيرانيين القتلى الآخرين. وقالت: “لقد أظهر لنا القمع أن هذا النظام سيفعل كل ما يلزم للتمسك بالسلطة”.
تظاهرات مختلفة
كانت تظاهرات تشرين الثاني مختلفة بشكل ملحوظ عن تلك التي حدثت عام 2009. قاد الاحتجاجات السابقة الطبقة الوسطى وطلاب الجامعات، وحدثت إلى حد كبير في المدن الكبرى. بدأ التظاهرات الأخيرة العمال، القاعدة التقليدية للنظام، وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء البلاد. كما تحولت إلى العنف؛ في مدن كثيرة. أحرق متظاهرون المخازن ودمروا مخافر الشرطة. قال لي صاحب متجر شهد احتجاجات في ضواحي طهران: “أظهرت احتجاجات 2009 أن النظام فقد الطبقة الوسطى”. “تظهر احتجاجات تشرين الثاني أنه فقد الطبقة العاملة أيضاً”.
رد النظام بوحشية. قال لي ديبلوماسي غربي في طهران: “لقد حدث ذلك بسرعة كبيرة”. “أغلقت الحكومة الهواتف والإنترنت- وانتهى الأمر برمته في غضون ثلاثة أيام. أعتقد أن النظام كان خائفاً حقاً». وأكدت السلطات الإيرانية اعتقال حوالى 7 آلاف شخص، لكنها لم تكشف عن عدد القتلى المدنيين. وقدرت “منظمة العفو الدولية” عدد القتلى بـ300. وقدرت “رويترز”، نقلاً عن مسؤولين لم تكشف عن أسمائهم قريبين من خامنئي، العدد بـ500. أحد السياسيين المنشقين الذين تحدثت إليهم أيد العدد الأعلى، قائلاً إنه قيل له إن 200 شخص دفنوا في منطقة واحدة في ليلة واحدة. وأضاف: “ثم هناك المرحلة الثانية من قبل الشرطة، التي يتحدث عنها عدد قليل من الناس”. “إنهم يفحصون صور لوحات السيارات للتعرف إلى القادة والتحدث إلى المخبرين لتحديد المزيد. إنهم يعتقلون هؤلاء الأشخاص أيضاً”
في علامة غير مسبوقة من الاضطرابات، بدأ المتظاهرون القتال. وبحسب روايات إخبارية إيرانية، قتل 6 من ضباط الشرطة والجنود على الأقل، على ما يبدو من قبل المتظاهرين. قُتل أربعة منهم رمياً بالرصاص، على رغم أنه من غير المسموح للمواطنين إلى حد كبير بحمل السلاح، وطُعن آخرون. واجهت قوات الأمن مقاومة في مناطق مثل كردستان وخوزستان المتاخمة للدول المجاورة. يظهر مقطع فيديو على “يوتيوب”، يُقال إنه تم التقاطه في خوزستان، قوات الأمن تطلق النار على المدنيين أثناء فرارهم إلى الأهوار. وقال علي الفونة كبير زملاء معهد دول الخليج العربي في واشنطن “هذا يشير إلى وجود نوع من المقاومة المنظمة”. “المدنيون العاديون لا يختبئون في الأهوار”.
حاول عدد قليل من السياسيين إحداث ضجة. ألقت بروانه صلاحشوري، عضوة في البرلمان، كلمة من أرضية المجلس التشريعي، نددت فيها بتأثير الجيش في قرارات الحكومة. “كيف يمكنني، بصفتي ممثلة عن الناس، أن أشاهد مقتل شباب بلدي؟”. وأخبرتني أنها تعرضت للتحرش والمضايقة لأيام بعد ذلك.
حاول خامنئي إبعاد اللوم منه، معتبراً أن قرار استخدام القوة لم يكن قراره. لكنه لم يبد شفقة تجاه القتلى، قائلاً إن قوات الأمن أطلقت النار على “مثيري الشغب” والعملاء الأجانب. “إن مثل هذه الأعمال لا يقوم بها أناس عاديون”. “إنهم بلطجية”. وحذّر خامنئي من أنه لن يقف في طريق قوات الأمن في المستقبل.
لم يظهر الرئيس روحاني في العلن لأيام. لكن خلال زيارتي، عقد مؤتمراً صحفياً، وسألته عن عدد المدنيين الذين قتلتهم الحكومة. ورد بفضول قبل أن ينتهي، “عليك أن تسأل المكتب الطبي”. (تواصل مراسلون إيرانيون في ما بعد مع المكتب الطبي في طهران. اعترض المكتب: “وزارة الداخلية مسؤولة عن الإعلان عن هذه الإحصاءات”.)
عندما عدت إلى مقعدي، التفتت إليّ مراسلة إيرانية، ووجهها محاط بشادور، وقالت بلغة إنكليزية لا تشوبها شائبة: «لاحظت أن الرئيس لم يجب على سؤالك. نحن نكرهه”.
بعيداً من المواجهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية، يستمر الإيرانيون في التحرّك بسرية وبشكل موازٍ. يعتبر خروج النساء من المنزل من دون الحجاب جريمة، ولكن في الأجزاء الميسورة من شمال طهران، ليس من غير المألوف رؤية نساء في الشارع وشعرهن مكشوف. تقع مجالات من الحياة الخاصة ضمن اختصاص الدولة، ما يجعل تجنب انتهاك القانون أمراً صعباً. عام 2014، سجل ستة رجال ونساء إيرانيون أنفسهم يرقصون على أغنية فاريل ويليامز “Happy”، ونشروا الفيديو على “يوتيوب” بعنوان “Happy We Are from Tehran”. اعتقلتهم السلطات لانتهاكهم القوانين التي تحظر الرقص مع الجنس الآخر. وقد حُكم عليهم بالسجن لمدة عام و91 جلدة.
حفلة في إيران
في بعض الأوقات أثناء زيارتي، ذكّرتني طهران بأوروبا الشرقية في الثمانينات، عندما كان الناس العاديون، مقيدين بنظام شيوعي متصلب، تعاملوا مع العيش وكأن الدولة غير موجودة. ذات ليلة، حضرت حفل عشاء في حي للطبقة الوسطى في طهران. انحرفت الموسيقى الإيرانية عن مشغل الموسيقى. وارتدت النساء التنانير والأحذية الجلدية، وكشفن عن شعورهن. تم تجميع زجاجات العرق والنبيذ محلية الصنع، ولكنها لذيذة، على طاولة. أخبرني أحد الرجال أن الحفلات غير المشروعة كانت شائعة لدرجة أنه كان يكسب رزقه كـ”دي جي” كل حفلة تقريباً تتلقى زيارة من ضابط الشرطة، الذي يقول، عادة مع غمزة، إن الموسيقى كانت عالية جداً. قال لي الرجل: “أعطيه بعض المال، فيذهب”. اشتكى رجل آخر من النضال اليومي في نظام فاسد لا يمكن التنبؤ به، مع النقص المزمن في المواد والمفتشين الفاسدين الذين يسعون للحصول على رشى. “التخطيط للربع المقبل؟” قال. “لا أستطيع التخطيط لصباح الغد”.
في إيران، تأتي معظم الاضطرابات الأكثر حدة من الإحباط من تدخلات النظام في الحياة الخاصة. ذات مساء، قابلت امرأة شابة، تدعى سارة، شاركت في حركة احتجاج لفتح أماكن لعب كرة القدم للنساء. اكتسبت الاحتجاجات شهرة عام 2018، عندما اجتمعت 35 امرأة- معظمهن صديقات سارة- خارج مباراة بين ناديين لكرة القدم في طهران وطالبنّ بالسماح بدخولهنّ. يحاولن القيام علانية، بما كانت تفعله الشابات الأخريات سراً، من طريق تسطيح الأثداء والرسم على الشوارب وارتداء ملابس الرجال والتسلل إلى الداخل. تم القبض على الـ35 جميعاً.
قمع النظام الإيراني الحركة النسائية بضراوة شديدة. عام 2017، صعدت امرأة تدعى فيدا موهافد إلى علبة توزيع كهرباء في وسط مدينة طهران، أزالت حجابها، ولوحت به على عصا. تبعتها أخريات، وأصبحن يعرفن باسم “بنات شارع الثورة”. لم تقبض السلطات عليهنّ وعلى موهافد فحسب، بل اعتقلت أيضاً محاميتها نسرين ستودة، التي حُكم عليه بالسجن لمدة 38 عاماً و148 جلدة.
كانت سارة متوترة بشأن مقابلتي في مكان عام. قالت: “إنه أمر خطير حقاً”. “إن جلوسي هنا أتحدث إليك قد يسبب لي مشكلة كبيرة”. ومع ذلك، كانت متوازنة ومصممة على منحها حقوقها. قالت: “إذا كنت تريد أن تعرف كيف نعيش، فعليك مشاهدة” حكاية الخادمة”. هنا جلعاد الحقيقية. لقد كتبت مارغريت أتوود قصتنا قبل أن نولد”.
في العام الماضي، ألقي القبض على امرأة في الـ29 من عمرها، تُدعى سحر خضاري أثناء محاولتها التسلل إلى مباراة لكرة القدم واتُهمت “بالظهور في الأماكن العامة من دون حجاب”. فأشعلت النار في نفسها وماتت.
وتحت ضغط من اتحاد كرة القدم وافقت الهيئة الإيرانية لكرة القدم على السماح للنساء بحضور مباريات المنتخب الوطني طالما أنه يلعب ضد فريق أجنبي. ووصفت سارة إثارة الدخول إلى استاد طهران في مباراة بين الفريقين الإيراني والكمبودي. قالت لي: “ملعب كرة القدم أخضر حقاً عندما تراه”. على رغم أن النساء وضعن في منطقة مشدودة خلف هدف، “جميعهنّ صرخن وبكين”، قالت سارة. “لقد كان الحلم”.
سألت سارة عن سبب قلق السلطات من شيء تافه مثل مباراة كرة قدم. وقالت “إنهم يعرفون أنهم إذا فتحوا أبواب الاستاد، فعليهم فتح أبواب أخرى أيضاً”. لكن نساء هذا البلد لن يتوقفن. أنا مستعدة تماماً للذهاب إلى السجن. “وقالت إن جميع أصدقائها شعروا بالشعور ذاته حيال السلطات. “إن المشكلة التي يواجهونها معنا هي أنه إذا حصلت النساء على السلطة، فسوف نسقطهم. هذا هو الواقع. النساء سيسقطن الحكومة”.
في 9 نيسان/ أبريل، ظهر خامنئي على القناة الأولى الإيرانية للحديث عن الفايروس التاجي. منذ بدء التفشي، دمر الفايروس إيران، مع وجود 114 ألف حالة مؤكدة، وما يقرب من 7 آلاف قتيل، وليس هناك احتمال معقول لاحتواء الوباء. بدلاً من الاعتراف بفشل الحكومة، أعلن خامنئي انتصاراً. وقال، “أدت الأمة الإيرانية أداء رائع في هذا الاختبار”. “لقد خلق تعاون الناس أيضاً مشاهد جميلة ورائعة ومذهلة، تمكن رؤيتها في كل مكان”. ورأى أن المثال الإيراني يلمع على نقيض الغرب، حيث أفرغ السكان المجانين رفوف المتاجر وانتحروا و”تقاتلوا على ورق التواليت”. وأضاف: “لقد تم إحياء الغرب المتوحش”.
كره أميركا
منذ بداية عهده في الحكومة، أعلن خامنئي كرهه الولايات المتحدة. عام 1987، قال للأمم المتحدة، “إن تاريخ أمتنا في فصل أسود مرير ودموي، ممزوج بأنواع من العداء للنظام الأميركي”. يبدو أنه يستمتع بسرد الخطايا الأميركية. وأثناء اجتماع مع المسؤولين الحكوميين، ألقى خطاباً حول “كابينة العم توم” في صورة “واقع أميركا والحكومة الأمريكية”.
الشعور بالعداء موجود لدى الاتجاهين. منذ اندلاع الثورة الإيرانية، ضغطت الولايات المتحدة على النظام الإيراني بسبب رعايته الإرهاب وبرنامجه النووي. لكن خامنئي استخدم المواجهة لتبرير سحقه الخصوم المحليين وشرح سوء الإدارة الاقتصادية. تزامنت التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة دائماً تقريباً مع قمع المعارضين والمثقفين، واستبعاد الإصلاحيين من بطاقات الاقتراع. عام 2010، أخبر محمد خاتمي كريم سادجادبور، الخبير في شؤون إيران في مؤسسة كارنيغي، أن المرشد الأعلى أكد ذات مرة، “نحن بحاجة إلى الولايات المتحدة كعدو”.
تضمنت مهارة اللعبة الإيرانية النهائية الاتفاق النووي. أيضاً لسنوات، عارض خامنئي إجراء محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة لكنه قدم تنازلات دورية، حتى أنه وافق أحياناً على وقف البرنامج تماماً. بالتوازي كان قاد بلاده إلى سلاح قابل للاستخدام. أخيراً، عام 2013، مع شل الدولة بسبب العقوبات، بدأ يشير إلى أنه منفتح على المحادثات، داعياً الإيرانيين إلى إظهار “المرونة البطولية”. كان يأمل قادة البلاد بأن تؤدي الصفقة إلى تحسن الاقتصاد. انهار هذا الاحتمال عندما ألغى ترامب الصفقة وفرض عقوبات أشد.
أخبرني خبراء إيرانيون في الولايات المتحدة أنهم يعتقدون أن النظام قد يستأنف المفاوضات بعد الانتخابات الرئاسية هذا الخريف. اختلفت أسباب التفاؤل لديهم. جادل البعض في أنه إذا خسر ترامب، يمكن إحياء الصفقة النووية. قال آخرون إنه إذا فاز ترامب، فلن يكون أمام خامنئي سوى التفاوض. رفض المسؤولون الإيرانيون السيناريوهين قائلين إن المرشد الأعلى لن يعقد صفقة مرة أخرى. قال لي محمد مراندي، أستاذ في جامعة طهران، “لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة”.
بمرور الوقت، كانت هناك تلميحات إلى أن النظام يحتفظ بقدرات سرية. ظهر أحدثها عام 2018، بعدما نفذ جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد مؤامرة وقحة لسرقة أسرار نووية من مستودع آمن في طهران. وصل العملاء بشاحنة قبل منتصف الليل، واقتحموا المنشأة بمشاعل عالية الحرارة. لـ6 ساعات، نقلوا الوثائق والأقراص المدمجة، وغادروا قبل أن يبدأ حارس مسلح مناوبته الصباحية. وفقاً لمسؤول استخباراتي أميركي كبير سابق، شن الجيش الإيراني عملية سحب كبيرة، لكن الإسرائيليين هربوا عبر الحدود إلى آذربيجان. قال لي مسؤول استخباراتي سابق آخر إن كثراً من أفراد قوات الأمن الإيرانية اعتقلوا بعد ذلك. قال: “كان هناك تطهير كبير”.
عندما ظهرت تقارير عن العملية، قال مسؤولون إيرانيون إن الأمر برمته كان خدعة، والوثائق كانت زائفة. يؤكد الإسرائيليون أن “الأرشيف”، كما يسمونه، كان تاريخاً لبرنامج الأسلحة النووية الإيرانية حتى عام 2003، عندما ادعى النظام أنه أوقفه إلى حد كبير. وبحسب خبير غربي، أوضحت الوثائق وجود موقعين نوويين تم إخفاؤهما عن المفتشين. أنتج أحدهما سادس فلوريد اليورانيوم، وهي مادة تستخدم في التخصيب، والآخر كان منشأة لاختبار مكونات الأسلحة. لم يستطع المسؤولون الغربيون تحديد إذا كانت المواقع نشطة، ولكن عندما طلب المفتشون الدوليون، بعدما نبههم الإسرائيليون، زيارة هذه المواقع، رفض الإيرانيون- ودمروا منشأة الاختبار. قال لي الخبير: “كان هناك اندفاع لتنظيف الموقع”.
التخلي عن القيود
في الربيع الماضي، أعلنت إيران أنها تخلت عن القيود التي يفرضها الاتفاق النووي، وزادت تخصيب اليورانيوم. أخبرني مسؤول غربي يتابع البرنامج أنه، وبالمعدل الحالي، كان بإمكان الإيرانيين الحصول على ما يكفي من المواد المخصبة لصنع قنبلة في أقل من 7 أشهر. ويقدر ديفيد أولبرايت، رئيس معهد العلوم والأمن الدولي، أن الأمر قد يستغرق نصف هذه المدة. من المرجح أن يتطلب بناء سلاح معقد مع اليورانيوم المخصب من 12 إلى 18 شهراً إضافية. قد يكون الجهاز الخام جاهزاً للاختبار في وقت أقرب بكثير، ربما في الصحراء الإيرانية. ربما لا يمكن إطلاق مثل هذا الجهاز على عدو، ويرجح أن يستخدم الكثير من اليورانيوم المخصب الذي تمتلكه إيران. لكن المسؤول الغربي قال، “سيبدو العالم فجأة مختلفاً تماماً”.
حتى الآن، يبدو أن القادة الإيرانيين لم يبدأوا العمل على تسليح جهاز نووي. لكن الشكوك حولت محللي الاستخبارات الغربيين إلى مسألة ملحة: هل سيقرر خامنئي صنع سلاح؟
يعتقد معظم المحللين الذين تحدثت إليهم أنه لن يفعل ذلك، ما لم يواجه النظام تهديداً وجودياً من خارج البلاد. ولكن إذا مات؟ قال المسؤول الغربي “في اليوم الذي سيرحل فيه، أعتقد أن جميع الخيارات ستصبح مطروحة على الطاولة”.
في 6 كانون الثاني/ يناير، وقف خامنئي أمام حشد كبير في جامعة طهران وبكى. كان هناك لحضور جنازة قاسم سليماني– قائد فيلق القدس النخبوي، الذي من خلال الضغط العسكري والمناورة السياسية والهجمات الإرهابية القاسية، جعل إيران الدولة الأكثر نفوذاً في الشرق الأوسط. كان قُتل قبل ذلك بثلاثة أيام، بناء على أوامر ترامب، عندما ضربت طائرة بدون طيار MQ-9 Reaper موكبه بالقرب من مطار بغداد. وأظهرت اللقطات التي أرسلها لي مسؤول عراقي إحدى يدي سليماني، متفحمة وممزقة من جسده، مع وجود خاتم مميز من الياقوت الأحمر لا يزال سليماً- وهو ما يكفي لإثبات هويته.
أثار مقتل سليماني سيلاً من الحداد الوطني، وجاء ملايين الإيرانيين لمشاهدة جسده أثناء موكبه الجنائزي. في طهران، امتد خط المشيعين أكثر من ثلاثة أميال. وخلال الجنازة رثى خامنئي: “يا إلهي، الجثث الملتفة أمام أقدامنا هي عبادك وأبناء عبادك”. بدا أنه يودّع، ليس بطلاً وطنياً وحسب، بل يودّه شخصاً لا يأمل مطلقاً بأن يحظى بشعبية مماثلة لشعبيته.
كان سليماني مهندساً رئيساً لسياسة إيران الخارجية، ولكن يُعتقد أيضاً أنه كان متورطاً بعمق في القرارات المحلية، بما في ذلك قمع التمرد عامي 1999 و2009. قال ماراندي، الأستاذ في جامعة طهران، الذي كان يعرف سليماني، إنه كان المستشار الأقرب للزعيم الأعلى- “رأى خامنئي مثل الابن”، وكان الجنرال الوحيد في الحرس الثوري الذي لم يتنازل عن وظيفته. تذكر مسؤول عراقي رفيع مرة ذات مرة سأل سليماني لماذا لم يرشح نفسه للرئاسة. فكر سليماني للحظة وقال: “لماذا أفعل ذلك؟” وأوضح المسؤول: “كان سليماني يملك السلطة الكاملة ولا مساءلة”.
وكان من المتوقع أن يساعد سليماني خامنئي في تنسيق اختيار خليفة، مؤكداً أن المرشد الأعلى التالي يناسب رغباته. وفقاً للدستور الإيراني، فإن العملية ضعيفة مثل طريقة الفاتيكان لتعيين البابا: يتم اختيار الزعيم الجديد من قبل مجلس الخبراء، الذين تم تعيينهم غالباً بموافقة خامنئي. لكن معظم الأعضاء الحاليين ينتمون إلى الجيل الثوري الأصلي، وهم الآن بطيئون بشكل واضح بسبب العمر. وصف سادجادبور، من مؤسسة كارنيغي، التركيبة السكانية: “متوسط العمر قد مات”.
من المرجح أن يكون اختيار خامنئي الأول هو ابنه مجتبى، وهو رجل دين في طهران. في السنوات الأخيرة، رفع خامنئي صورة مجتبى وأعطاه المزيد من المسؤولية في الإشراف على الحكومة. لكن كثراً من الإيرانيين يعتقدون أنه بعد مغادرة خامنئي، سيصبح الحرس الثوري الإيراني مسؤولاً عن اختيار المرشد الأعلى الجديد. يتوقع البعض من الحرس أن يحاول الحكم مباشرة. وتولى قادة سابقون بالفعل أدواراً سياسية بارزة، بمساعدة قدرة المؤسسة على إنفاق مواردها الهائلة على المرشحين المفضلين. وقال الفونه من معهد دول الخليج العربية “إن الحرس الثوري لن يتولى زمام الأمور فجأة”. “إنه انقلاب بطيء كان يُحضّر منذ سنوات”.
اعتَقد معظم الناس الذين تحدثت معهم أن الحرس سيحتفظ بواجهة حكم رجال الدين. وكثيراً ما يُذكر إبراهيم الريسي، كبير قضاة إيران، كمرشح. الريسي، إلى جانب قيادته السلطة القضائية، هو عضو مؤثر في مجلس الخبراء. كما أثبت حماسته الثورية في نهاية الحرب العراقية الإيرانية، عندما ساعد في تنفيذ عمليات القتل خارج نطاق القضاء لآلاف سجناء منظمة مجاهدي خلق وغيرهم من اليساريين. أخبرني رويل جيريشت، محلل إيراني وضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية، أنه “غارق في الدم”.
وعزز تفشي “كورونا” نفوذ الحرس الثوري الإيراني فقط. في آذار، أعطى خامنئي للحرس مسؤولية احتواء الفايروس، ومنذ ذلك الحين نشر عشرات الآلاف من القوات في جميع أنحاء البلاد. أخبرني أحد اختصاصيي الصحة العامة العاملين في وزارة الصحة أن الآلاف من أفراد ميليشيات الباسيج يتنقلون حول إيران، بلا أدوات واقية، لتطهير المباني والشوارع. قال، “إن الحراس يحاولون حل مشكلة كورونا في إيران بالقوة الغاشمة”. في طهران وأماكن أخرى من البلاد، حاول الحرس السيطرة على المعلومات حول الفايروس، بما في ذلك إحصاءات الوفيات، قال المتخصص: “يريد الحراس احتواء أي ضرر ناتج عن قرارات خاطئة- أو عدم اتخاذ قرارات- تم اتخاذها من قبل خامنئي، وإلقاء اللوم على السلطة التنفيذية والرئيس ووزارة الصحة”.
حكم الضباط
يعتقد ديبلوماسيون وخبراء غربيون أن الحرس الثوري يسيطر عليه الضباط الذين يعتزمون الحفاظ على الوضع الراهن، الأمر الذي قوّاهم. مع بقاء خامنئي في السلطة، تشير معظم الدلائل إلى أن الدولة الإيرانية تصبح أكثر محافظةً. قبل الانتخابات البرلمانية في شباط، منعت السلطات القانونية والدينية 7 آلاف مرشح أكثر من نصف أولئك الذين حاولوا الترشح. وكان من بينهم 90 عضواً حالياً في البرلمان، وبينهم محافظون. قال لي محلل غربي يعمل في المنطقة: “ربما كان بعضهم فاسداً”. “والبعض ليسوا مخلصين بما فيه الكفاية”.
ومع ذلك، يعتقد إيرانيون أن كثراً من كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني يريدون توجيه البلاد إلى سياسة تشبه الصين: سياسات صارمة، ولكن سوق أكثر حرية. اعتقد الزعيم الإصلاحي الذي تحدثت إليه، والذي كان على اتصال مع ضباط في الحرس الثوري الإيراني، أن أحد الجنرالات سيظهر في نهاية المطاف كرجل قوي خيري- “نابليون الشعب”- لتوجيه إيران نحو مزيد من الازدهار. سيدير الحكومة تكنوقراطيون، لا رجال دين، وسيخفف الجنرالات السيطرة على حرية التعبير واللباس. وقال “يريدون الوصول إلى الطبقة الوسطى”. “فكروا في الأمر: في اللحظة التي يخرجون فيها رجال الدين من الحكومة، سيصبحون محبوبين بشكل لا يصدق”.
أثار هذا التوقع الكثير من الخبراء الغربيين على أنه مفرط في التفاؤل. يحتمل أن يشكل الضباط ذوو العقلية الإصلاحية داخل الحرس الثوري الإيراني واحدة فقط من فصائل، في حالة من التنافس والانشقاق الداخلي. إذا كانت هذه الفصائل غير قادرة على الاتفاق على المرشد الأعلى، فقد تخرج العملية عن السيطرة. قال لي ديبلوماسي غربي في طهران: “أعتقد أن اختيار زعيم جديد يجب أن يتم بسرعة- إنها مسألة 24 ساعة”.
كان للعلاقات المتدهورة مع الولايات المتحدة آثار واضحة في السياسة الداخلية الإيرانية. الأزمة الأخيرة مدفوعة بنضال البلدين من أجل النفوذ في العراق، حيث كثفت الميليشيات المدعومة من إيران هجماتها على الأفراد الأميركيين. كانت هذه الهجمات هي التي دفعت ترامب إلى قتل سليماني. وتعهد خامنئي بالانتقام، وفي 8 كانون الثاني، ضربت الصواريخ الإيرانية قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق، وأصيب جنود. في وقت لاحق من ذلك اليوم، سقطت طائرة تابعة للخطوط الجوية الأوكرانية بالقرب من مطار طهران، وعلى متنها 176 شخصاً. نفت الحكومة في البداية أي تورط لها، لكن التقارير على وسائل التواصل الاجتماعي كشفت أن الحرس الثوري أسقط الطائرة، واعتبرها صاروخ كروز معادي. اندلعت تظاهرات غاضبة. قالت لي سارة: “كان الجميع ضد الحكومة آنذاك”.
اعتقد إيرانيون تحدثت إليهم أن النظام سيضرب مرة أخرى، في محاولة لإذلال ترامب قبل انتخابات تشرين الثاني. أخبرني البعض أنه قد يحاول أخذ رهائن أميركيين- ما يثير ذكريات الاستيلاء على السفارة عام 1979، وتدمير رئاسة جيمي كارتر. قال أحد الأكاديميين المرتبطين بالقيادة الإيرانية: “أعتقد أن مصير ترامب حالياً بيد طهران”.
قد يكون هذا أكثر حدة، ولكن مع تفاقم مشكلات إيران الاقتصادية، قد يجد النظام نفسه يميل بشكل متزايد إلى إحداث تحويل. قد يكون الشيء نفسه صحيحاً بالنسبة إلى ترامب، الذي أصبح خطابه أكثر قذارة منذ هجوم السليماني. وفي نيسان، غرد قائلاً: “أمرت البحرية الأميركية بإسقاط وتدمير الزوارق الحربية الإيرانية إذا تحرشت بسفننا في البحر”. وردت وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية واصفة الفكرة بأنها “حكاية هوليوودية مزيفة”.
حتى فيما يتكهن الإيرانيون حول من سيخلف خامنئي، يعتقد كثيرون أن الثورة، لم تعد قابلة للإنقاذ. من هؤلاء فايزة رفسنجاني، نائبة سابقة وابنة الرئيس الراحل رفسنجاني. نشأت فائزة وسط النخبة الحاكمة في البلاد لكنها أصبحت مستاءة من أيديولوجيتها. عام 2009، أيدت المتظاهرين بقوة. تحدثت إلى حشد منهم، وقارنت خامنئي بالشاه- وهذا يعتبر إهانة كبيرة- وشجبت ما اعتبرته سرقة تصويت الشعب. وقالت: “يجب أن تستمر الاحتجاجات، حتى يدركوا أنه لا يمكن التغاضي عن عملية احتيال بهذا الحجم”.
ساعد الخطاب في ترسيخ رفسنجاني كواحدة من أبرز المعارضين في البلاد، وجعل اسمها الشهير انتقاداتها أكثر تهديداً لمن هم في السلطة. أصبحت رفسنجاني هدفاً للمضايقة التي لا هوادة فيها، وبخاصة من قبل أعضاء الباسيج. في حادثة تم التقاطها في مقطع فيديو ظهر أوائل عام 2011، كانت رفسنجاني تخرج من المسجد عندما واجهتها ميليشيات. “يا عاهرة!” صرخ، بالقرب من وجهها. “هل تريدين أن أمزق فمك إرَباً؟ هل يجب أن أفعلها هنا؟ سوف ندمرك! سنقتلكم كلكم!”.
وعندما سئلت عن الحادث بعد شهرين، قالت لمحاورها: “هذه الحكومة يديرها الوحوش والبلطجية”. ألقي القبض عليها، وأدينت في قاعة محكمة مغلقة، وحكم عليها بالسجن 6 أشهر لنشر بروباغندا معادية للحكومة. عام 2017، سجنت مرة أخرى، لانتقادها الحرس الثوري. سُجنت كلتا فترتيها في جناح النساء سيئ السمعة في سجن إيفين.
في صباح ماطر، قابلت رفسنجاني في مكتبها. كانت ترتدي وشاحاً وردياً يحجب وجهها، لكن عينيها لمعتا ذكاءً. (على رغم مناصرتها حقوق المرأة، فهي ترتدي الحجاب لاقتناع شخصي). أثناء حديثها، جلست- ووقفت أحياناً- خلف مكتب معدني مغطى بأكوام من الأوراق.
لم يكن لدى رفسنجاني سوى القليل من الثقة في النظام الذي تأسس قبل 41 عاماً. قالت: “حتى الذين يقولون إنهم إصلاحيون ليسوا إصلاحيين على الإطلاق”. وأشارت إلى أن روحاني تولى منصبه بتفويض ساحق من أجل التغيير. “كان لدي بعض الأمل به، لكنه كالباقين”.
لم تلم رفسنجاني إدارة ترامب أو العقوبات الأميركية على مشكلات البلاد. فهي ككثر من الإيرانيين الذين تحدثت إليهم، شعرت بأن إلقاء اللوم على الولايات المتحدة كان عذراً ضعيفاً لفشل النظام في إصلاح نفسه. وقالت: “الكورونا مجرد مثال”. “وقعت أحداث كثيرة في السنوات الأخيرة تبين أن سياساتنا سارت بشكل خاطئ”. ورأت أن الانقسامات المتزايدة في إيران كانت نتيجة لأفكار النظام المعيبة، منها “عدم أهمية الحياة البشرية، والتي يبدو أنها واحدة من أكثر سياساتنا جدية، وعدسة الأمن القومي- نحن ننظر إلى أشياء لا علاقة لها بالسياسة أو الأمن من خلال عدسة الأمن القومي. وعندما تضع هذين الأمرين معاً، تبدأ في إدراك سبب استمرار حدوث هذه الأشياء”.
وقالت إن الجمهورية الإسلامية معزولة والخلل وصل إلى طريق مسدود، “لقد فقد النظام الدعم الشعبي، ومع ذلك فهو غير قادر على التغيير. والنتيجة أن الشعب الإيراني فقد الأمل”.
قبل عودتي إلى الوطن مباشرة من إيران، زرت سفيراً غربياً في طهران. عندما أخبرته أنني ذاهب إلى المطار، قال: “إنها نقطة التفتيش الثانية التي يجب أن تقلق بشأنها. هذا هو الحرس الثوري الإيراني”. في طريقي، أزلت كل شيء من هاتفي وجهاز الكمبيوتر المحمول- البريد الإلكتروني والصور الفوتوغرافية وتطبيقات الدردشة المشفرة.
في مطار طهران، مررت عبر الخطوط الأمنية حتى وصلت إلى نقطة التفتيش الأقرب إلى بوابة الصعود إلى الطائرة. كنت أنتظر ظهور حقيبتي عبر جهاز الأشعة السينية عندما وضع رجل يده على كتفي. قال: “لدينا بعض الأسئلة لك”.
اقتادني إلى غرفة بحجم خزانة ملابس، وكان ينتظرني خمسة رجال. أثناء جلوسنا، لمست ركبنا بعضها بعضاً. قاد رجل ذو وجه مقروص وقميص غير لائق الاستجواب. ترجم له رجل آخر. لم تكن هناك دردشة.
قال المحقق: “نحن نراقبك منذ فترة”. فكرت في جميع الإيرانيين الذين قابلتهم، والذين سيكونون في خطر الآن. “لقد شوهدت تتحدث إلى الناس بلا إذن”.
أخذ المحقق هاتفي، وأخرجه أحدهم من الغرفة. تساءلت إن كانت ستنتظرني طائرتي.
قال: “لقد شوهدت أيضاً تدخل مناطق محظورة”.
فكرت في نيكولاس بيلهام، مراسل الإيكونوميست. الذي تم منحه تأشيرة من قبل البيروقراطية الإيرانية ثم اعتقله الحرس الثوري الإيراني- يبدو أن أحد مراكز القوة يتخطى مركزاً آخر. احتجز لمدة سبعة أسابيع.
استمر الاستجواب دقائق، وحان وقت رحلتي. سأل المحقق عن الصحافي مسعود بستاني. “من أعطاك رخصة لقاء البستاني؟”، سأل بحزم. شعرت بالرعب، ربما قد يعيدون البستاني إلى السجن. ولكن مع استمرار التحقيق، أدركت أنهم لا يعرفون الذين التقيت بهم بالفعل.
قال المحقق: “لقد لوحظت تصور مواقع محظورة”.
بحلول ذلك الوقت، عاد الرجل الآخر بهاتفي. أخبرت المحقق بفحصه.
تفقد الهاتف ولم يجد شيئاً. للحظة بدا محرجاً. ثم أعاده إلي.
قال: “كنت على حق، لم تكن تلتقط أي صور”. أنت حر، تمكنك مغادرة الجمهورية الإسلامية. أتمنى لك رحلة طيبة”.
ترجمة : حسن الحفار