في المشهد الأول، تجلس جوليا واثقة فوق كرسي البيانو الجلدي، تنقل أناملها بين مفاتيح البيانو البيضاء والسوداء، وهي تعزف مقطوعة كلاسيكية للمؤلف الموسيقي الفرنسي – البولندي الأصل فريدريك شوبان…
المعزوفة هي “المقطوعة الليلية” أو “المقطوعة الحالمة”، التي ألفها شوبان لتكون تمريناً بسيطاً لشقيقته لودويكا ليساعدها على إتقان العزف على البيانو. مع الأيام، أصبحت واحدة من المقطوعات التي ينبغي أن يتعلمها كل عازف بيانو متدرب. ربما بسبب بساطتها وانسيابيتها اكتسبت شهرتها فصارت واحدة من كلاسيكيات التمرين الموسيقي، وربما لذلك كانت جوليا تعزفها بهذا القدر من الإتقان والاحتراف.
المكان هو منزل جوليا الذي يتربع على تلة عالية في بلدة الخيام في الجنوب اللبناني، والخيام كلها تقوم على تلة عالية، وتنتشر فوقها البيوت مثل أعين مفتوحة من شدة الدهشة، كيف لا وهي تشرف على سهلين أخضرين كريمين على مدار الفصول والأزمان، سهل الخيام من الغرب، هناك حيث تتداخل همهمة أشجار الحور بكركرة مياه الدردارة وزقزقات عصافير التين وثرثرات زيزان الحصايد، وتنحني لها رؤوس السنابل تواضعاً، لتشكل معاً مقطوعة موسيقية حالمة تضاهي معزوفة شوبان بساطة وتفوقّها كثافة، وسهل الحاصباني من الشرق، حيث تنضم إلى المقطوعة الموسيقية عناصر بصرية، توليفة من أزهار اللوز والدراق والخوخ والمشمش بتدرجات ألوانها وعبق روائحها ومذاقاتها الشهية، وترتسم كمعجزة إلهية تحفّز العين على التحديق والتصديق أن هذه البقعة الصارخة بالجمال ليست صرحاً من خيال، بل بلدة تتقن كل لغات الحب والحياة، وتخبّئ تحت كل حجر وخلف كل شجرة شاعراً أو أديباً أو عازفاً أو طبيباً أو صحافياً شهيداً.
كل ما يقدّمه المشهد الأول من لقطات يصلح أن يكون مقتطعاً من حلم…
المنزل الرحيب، الأسقف العالية، الردهة الفسيحة، الأثاث الكلاسيكي المنتقى بعناية، اللون الأزرق المخملي الذي يتكرر بين الستائر والكنبات، الأضواء الذهبية المنسابة من الثريات العملاقة، الشباك الضخم الذي يختفي خلف ستارة بيضاء رقيقة، الصبية الحلوة بشعرها البني الطويل وجلستها المستقيمة أمام البيانو، وأصابعها التي تتحرك برشاقة مع انحناءة إلى الأمام بجسدها من حين الى آخر.
أنغام “المقطوعة الحالمة” التي تتسلّل من خلف الشبابيك والأبواب المفتوحة، وتهبط نحو الدردارة تمسح آثار النوم عن ينابيعها، توقظها وتقول لها قومي أنجبي لنا مزيداً من الشعراء والقصائد، ثم تحلّق عالياً، تتمايل يميناً وشمالاً فيبتسم لها جبل الشيح… شيخ ويبتسم؟ أجل، لا يحدث هذا إلا في الخيام…
المشهد الثاني
في المشهد الثاني، في البيت نفسه، يجلس الجندي أمام البيانو نفسه، يضغط على مفاتيحه كأنه يضغط على زناد بندقيته، فتخرج الأنغام مثل طلقات الرصاص، يملأ أزيزها المكان.
“المعزوفة الحالمة” التي لا يتقن الجندي عزفها، لم تكن لتحظى بهذا القدر من الشهرة، لو لم تنقذ عازفة البيانو البولندية الشهيرة ناتاليا كارب من القتل المحتّم في أحد المعتقلات النازية، بعدما عزفتها أمام جندي يضع على زنده صليباً معقوفاً، لتصبح لاحقاً رمزاً للناجين من الهولوكست، ويستخدمها المخرج البولندي رومان بولانسكي في فيلم “عازف البيانو” المقتبس عن كتاب لمواطنه اليهودي عازف البيانو فلاديسلاف شبيلمان، الذي روى فيه مآسي يهود بولندا في زمن النازية.
مثل هذه التوليفة، ترغمنا على الاعتراف بمآسي الحروب، حتى تلك التي تربكنا هوية ضحاياها أحياناً، وتكشف لنا أن في عزف جوليا وعزف نتاليا والموسيقى التصويرية في مشهد خراب وارسو لبولانسكي، تتبدى الموسيقى كقيمة خير أصيلة داخل النفس البشرية، ممنوعة على الأشرار لذلك هم لا يحبّون الموسيقى ولا يتقنون العزف، وتتكثف رمزيتها لتتحول إلى إدانة لأحفاد الناجين من الهولوكست.
الخيام بعيدة جداً عن وارسو، والجندي في المشهد الثاني يُلصق على زنده “نجمة داوود”، ورفاقه الجنود المهووسون بالتدمير، المتكئون على قدرتهم على محو الألوان، يرقصون فوق الخراب، يقهقهون، يتمادون في التهريج، ويتمدد أحدهم على سطح البيانو وقفاه للصورة، كأنه يقول للعالم “رأيك مثل…”.
كل ما يقدمه المشهد الثاني يصلح أن يكون مقتطعاً من الجحيم.
البيت الذي فقد صخب ألوانه، وتحوّل إلى ما يشبه لوحة مرسومة بالفحم الأسود، الردهة التي استحالت خراباً، الستائر الممزقة، وحطام الأثاث. بين الجنود والألوان عداوة، بنادقهم تُحيل كل شيء إلى رماد، وبينهم وبين الجدران والأسقف وخشب الأبواب والشبابيك عداوة أخرى أكثر عمقاً، الحجارة العتيقة وجذوع الأشجار بنات الأرض، يدمرها الجندي لأنها تذكره بأنه غريب لا جذور له في هذا التراب.
يخاف الجندي من ضوضاء البيوت، من انعكاس ضوء الشمس على الستائر، من الورود على أقمشة الكنبات، من الجدران المزينة بالصور، يخاف أن تسقط عليه الأسقف المنعقدة على شكل سماء، لذلك يلجأ إلى جينات الوحش في داخله، يستدعيها إلى الإبادة وينقضّ على المدينة يخطفها ويحملها إلى الغابة.
والحرب حادة الصفات، سلوك يتوقف فيه الخيال عن إنتاج صور للحياة، لا تؤمن الحرب إلا بلون واحد هو الخراب، والخراب ليس له سوى لون واحد… الأسود الذي هو الحزن، الذي هو القهر، الذي هو الخسارة، الذي هو الفقد، الذي هو عدو الحياة.
في انتقال درامي من فيديو جوليا في صيف سنة 2023، إلى فيديو الجنود في خريف 2024، نتابع تفاصيل الديكور والألوان والموسيقى إلى حركة الأجساد، لنكتشف أن العناصر التي تؤلف المشهدية، آتية من مقتلة ما، من تجربة القاتل نفسه.
في فيلم “عازف البيانو” يؤثث الديكور المشاهد المختصة بالحرب، يرتب الدمار والرماد لتبدو صورهما كأنها مأخوذة في أماكنها الأصلية، في فيديو جوليا وفيديو الجنود، التصوير في المكان الأصلي نفسه، فلم يحتج الجنود إلا إلى دخول المنزل الذي دمروه بأيديهم، وأعدوا خرابه بعناية فائقة، ليصوروا “فيلمهم”.
هذا الفيديو سيصبح وثيقة تاريخية، سنحتاجها يوماً ما حين ينقلب ميزان العدالة لصالح الحق والإنسان، تماماً كما حدث لأجداد الجنود وآبائهم.
للمفارقة، أن سبيلمان كاتب “عازف البيانو” مات سنة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وفي هذه السنة ذهبت لأتعرف لأول مرة على البلاد، وصلت إلى الخيام ووقفت أعلى تلة الحمامص التي تزرعها إسرائيل بالبارود منذ سنة، وفي الأسفل يجري نهر الحاصباني شحيحاً بعدما امتصوا ماءه، وقبالتي مستوطنون يتنزهون في بساتين مغتصبة، ويلوح بين الشجر قرميد فندق “آرتزيم” أي “أرزتنا”، أرزتنا نعم، كمراد لصاحبه أو معنى يُظهر نيته حقيقة وليس مجازاً…
إقرأوا أيضاً: