fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

من الطوق إلى الأطواق: سوريات رفضن الوصاية 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الطريق إلى الحرية لم يكن يوماً سهلاً، خاصة للنساء اللواتي يرفضن الوصاية بكافة أشكالها، سواء كانت سياسية، دينية، أو مجتمعية. وما دامت الأصوات النسوية الحرة موجودة، وما دامت الأقلام تكتب عن تلك الأطواق الخفية، سيظل هناك أمل في كسرها نهائياً. لكن حتى ذلك اليوم، سنبقى نواجه أطواقاً جديدة، كلما ظننا أننا تحررنا من سابقاتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قالت لي مرة صديقة من السودان وهي تبتسم بمزيج من الجد والمرارة “أنت قاتلة للبهجة، لأنك ببساطة لا تشاركين في هذا الفرح، من دون أن ترفعي راية النقد في وجهه”. 

ربما تكون صديقتي على حق، لكن كيف يمكن التعامل مع البهجة الزائفة التي تُبنى على حساب كرامة النساء وأحلامهن، في مجتمع يعامل النساء كورود ناعمة، تُسقى بالمديح وتُزين بها الموائد، لكنه في الوقت ذاته، لا يأبه إن سقطت هذه الورود في أعراسه ومهرجاناته، ويدوس عليها في لحظة نشوة الفرح والدبكة.

أقنعت نفسي بأنه أن تكوني امرأة ناقدة أو قاتلة للبهجة، يعني أن تختاري دوراً لا ترحب به شرائح واسعة في المجتمع، ممن يفضلون المرأة التي تصفق في الزوايا، وتبتسم في صمت، وتقبل بما يُمنح لها من فتات الحقوق، باعتباره كرماً عظيماً. وربما في نهاية الأمر، لا يتعلق الأمر بقتل البهجة، بقدر ما يتعلق بإعادة تعريف الفرح الحقيقي. الفرح الذي لا يُقصي أحداً، ولا يُبنى على استغلال أحد. الفرح الذي يعترف بكل إنسان، بما يحمله من هموم وأحلام، ويمنحه المساحة ليكون نفسه، من دون أقنعة ومن دون خضوع. الفرح الذي لا يلغي تاريخاً و سرديات محقة، مبنية على آلام من تبنوها، و أحياناً صنعوها بأنفسهم.

هل تريدين حقاً أن تكوني تلك التي تنشر البهجة الساذجة؟ أم تريدين أن تكوني من يصنع فرحاً حقيقياً يليق بمن حملن على أكتافهن أعباء الصمت الطويل؟ هذا هو السؤال الذي تركته لي صديقتي منذ سنوات ولعله لا يزال بلا إجابة.

في خضم الثورة السورية وما تبعها من صراعات سياسية واجتماعية، لم تكن معركة النساء السوريات مجرد صراع من أجل إسقاط نظام مستبد فقط، بل كانت أيضاً معركة يومية ضد طوق ذكوري يحيط بهن من كل جانب. الطوق الذي يرمز إلى محاولات تقييدهن وتحديد أدوارهن، سواء كان ذلك في ساحات المظاهرات، أو في أروقة السياسة الدولية.

الطوق في المظاهرات و المجتمع المدني و السياسة

كان الطوق في المظاهرات التي سارت في الثورة ضد الأسد، يتجسد في مجموعة من الرجال الذين يمسكون بأيدي بعضهم بعضاً، ويحيطون بالنساء تحت شعار حمايتهن من التحرش، أو تسهيل هروبهن في حال اقتحام قوات الأمن المكان. وبرغم النوايا الحسنة الظاهرة لهذه الخطوة، إلا أن العديد من النساء رفضن هذا الطوق، لأنه يمارس عليهن نوعاً من الوصاية، وكأن وجودهن في الساحة مشروط بحماية الذكور لهن، ولم يكن مستغرباً أن تسمع صوت إحدى المتظاهرات تقول: “ما بدخل جوا الطوق”.  

وفي بعض المناطق كان ذلك الطوق مجموعة من المتظاهرين الرجال، يقفون في الصفوف الأمامية للمظاهرات ويصرخون: الحرائر لورا، أي أن تقف النساء في الصفوف الخلفية حماية لهن من القنص، أو إطلاق النار المباشرة من قبل الأمن السوري، وعلى غرار رافضات الطوق، أصر بعض النساء على الوقوف في الصفوف الأمامية، وقلن مراراً: “ما منرجع لورا”.

لم يكن رفض الطوق و”الورا” مجرد عناد عابر؛ بل كان تعبيراً عن رفض النساء السوريات، أن يُختزل وجودهن في الثورة بدور الضحايا، أو من يحتاج إلى الحماية. كان إصرارهن على الوجود خارج الطوق، رغم المخاطر، إعلاناً واضحاً بأنهن شريكات كاملات في النضال، لا يطلبن الإذن ولا يقبلن التقييد.

لم يقتصر الطوق على المظاهرات، بل امتد إلى المجتمع المدني، حيث أصبح العديد من المبادرات النسوية/ النسائية في المناطق المحررة، وفي الخارج، يخضع لإملاءات مموليها أو الأجندات الدولية، التي غالباً ما تفصل بين النساء والواقع السياسي. 

تلك المبادرات التي كان يُفترض بها أن تكون منبراً حراً للنساء السوريات، تحولت في بعض الأحيان إلى إطار مُقيد، لا يسمح للنساء بالتعبير عن آرائهن بشكل كامل. في كثير من اللقاءات، كان يُطلب من النساء التركيز على القضايا الإنسانية فقط، من دون التطرق إلى الاستبداد، أو الانتهاكات المستمرة من قبل النظام، وكان من اللافت أن يتم تصوير النساء في هذه اللقاءات، كأنهن الطرف المحايد الذي يجب أن يلعب دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة، في حين أنهن في الواقع كن ضحايا مباشرات للعنف والقمع.

وفي الوقت الذي كانت فيه بعض المبادرات تُستخدم كأدوات سياسية لإظهار “التنوع والشمولية” أمام المجتمع الدولي، كانت النساء اللواتي يرفضن هذه القيود، يُقصين أو تُهمش أصواتهن. وعلى الرغم من ذلك، استمر العديد من النساء السوريات في تحدي هذه القيود، وأصررن على أن يكن جزءاً من الحراك السياسي والمجتمعي، من دون أن يُفرض عليهن الطوق، سواء كان ذلك في شكل وصاية سياسية، أو أجندات دولية تخدم مصالح محددة. 

هذا الطوق الجديد الذي فرضته بعض الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، لم يكن أقل قسوة من الطوق الذي واجهته النساء في ساحات المظاهرات، فالهدف في الحالتين كان واضحاً: الحد من تأثير النساء، وجعلهن مجرد رموز شكلية تُستخدم عند الحاجة، من دون السماح لهن بالتصدر والمشاركة الفعلية في صنع القرار.

ومع تقدم الوقت، وتحول الثورة إلى صراع سياسي معقد، ظهر شكل آخر من الطوق، لكن هذه المرة كان في ساحات السياسة والمفاوضات. أصبح يُطلب من النساء أن يجتمعن ككتلة واحدة، بلا اختلافات، بلا تناقضات، وكأنهن مجرد رمز موحد يُستخدم في الصور التذكارية والاجتماعات الرسمية. 

أصبح يُفرض عليهن أن يتفقن لمجرد أنهن نساء، من دون اعتبار لاختلاف الرؤى السياسية أو الانتماءات الثورية، ولم تكن وكالات الأمم المتحدة بريئة من تلك الأجندة، فما زلت أذكر اجتماعاً من تحضير إحدى وكالاتهن في بيروت، حيث جمعن المواليات المهللات للقتل، مع أمهات الضحايا وأخواتهن، برغم أن آلة القتل كانت مستمرة، وطُلب منهن أن يحببن بعضهن بعضاً، ويلعبن دور حمامة السلام، وكأن الصقور؛ أي الرجال، يحلّقون في سرب، والنساء؛ الحمائم، في سرب آخر تماماً.

ضريبة الخروج من الطوق

مع إصرار العديد من النساء السوريات على رفض الطوق بكل أشكاله، بدأت حملات تشويه ممنهجة تستهدف هؤلاء النساء الناشطات. لم يكن التشويه مجرد انتقادات عابرة؛ بل اتخذ أشكالاً منظمة تهدف إلى إقصائهن وتحييدهن عن المشهد العام، سواء في المظاهرات أو في المجتمع المدني والسياسي.

استخدمت هذه الحملات التحريض الديني، حيث تم استهداف بعض الناشطات من قبل جهات دينية متشددة، اتهمتهن بالخروج عن “الدين”، والترويج لأفكار غربية تهدف إلى تفكيك المجتمع، ووصل الأمر إلى استخدام المنابر الدينية للتحريض المباشر ضدهن، ونشر صور مفبركة ومعلومات مضللة، تهدف إلى تقويض مصداقيتهن، وجعلهن يظهرن بمظهر غير أخلاقي، أو متآمر مع جهات خارجية.

هدفت كل تلك الحملات إلى إسكات الأصوات الناقدة، ودفع النساء إلى التراجع عن مواقفهن والانسحاب من المشهد العام، وتقويض مصداقيتهن أمام المجتمع المحلي والدولي، مما يضعف من تأثيرهن وقدرتهن على حشد الدعم، كما سعت إلى إعادة فرض السيطرة الذكورية، من خلال إجبار النساء على العودة إلى أدوارهن التقليدية كمتابعات وداعمات فقط، وليس كصانعات للقرار وشريكات في النضال.

ما بعد الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

 الساعة الآن السادسة وثماني عشرة دقيقة صباحاً بتوقيت دمشق، سوريا من دون بشار الأسد، قيادة الجيش تخبر الجنود بسقـوط النظام في سـوريا”، سمعنا كما سمع العالم هذا الخبر على قناة العربية، وحتى اللحظة أشعر بأنني في حلم لا أرغب في الاستيقاظ منه. لكن ككل قاتلات البهجة، لم أستطع الاستمتاع كفاية بخبر سقوط النظام، فمن وصلوا إلى السلطة، هم ذاتهم من كان يتم التحريض على قتلي وقتل فريقي تحت سيطرتهم قبل عام واحد فقط، وهم ذاتهم من وصلوا إلى السلطة، ومعهم قائمة بأسماء أشخاص متطرفين، أرونا النجوم في وضح النهار طوال السنوات الماضية في إدلب، مثل الرجل الذي أعطى الأمر بقتل امرأة ستينية، قيل إنها زانية عند دوار معرة مصرين في ريف إدلب، رغم كل توسلاتها بأن ترى “وليداتها”، و هو تصغير لكلمة أولادها، دلالة على إحساسها بأنهم ما زالوا أطفالاً، رغم أنهم قد يكونوا يافعين. هذا قلب الأم! لكن عجباً لم يحرك ذلك شيئاً في قلبه ومن معه قيد أنملة، وأطقلوا الرصاص مباشرة صوب رأسها ببرود مطلق.

لكن عجباً أصبح اسم الجولاني أحمد الشرع، وأصبح يردد كلامنا، نحن الناشطين و الناشطات المدنيين في سوريا، وتحديداً في إدلب، لكوننا كنا على احتكاك مباشر مع “هيئة تحرير الشام”، بصفتها سلطة أمر واقع لعقد من الزمن تقريباً. 

وهنا لا أنكر بأنهم قد يكونوا فعلاً تغيروا، و طوروا منظومتهم الدينية و الفكرية الخاصة، بعيداً عن القاعدة و السلفية الجهادية، لكن لم ينظر للتغير بأنه أحادي الجانب، لم لم يقبلوا يوماً بأن التيار النسوي في سوريا شهد تغيرات جذرية خلال السنوات السابقة، و بأنه طور نموذجاً يناسب المجتمع السوري، قد لا يتشابه مع منهج سيمون دي بوفوار مثلاً؟ لم بقيت التهمة المعلبة الجاهزة بأن النسويات عميلات للغرب، و أتين بنموذج غربي لا يناسب ثقافة المجتمع السوري المحافظ؟ كأنهم وحدهم يملكون الحق في تحديد ما يناسب هذا المجتمع وما لا يناسبه، وكأن كل ما قمنا به خلال السنوات الماضية من تحديات ونضالات وتضحيات، لا يعني شيئاً في نظرهم. لقد كنا هناك، في الميدان، نواجه الموت والرصاص، نرفض الطوق الذي أرادوا فرضه علينا باسم الدين والأخلاق والمجتمع.

لا أعلم إن كان ما سأقوله فجاً، لكن لن يعني لقاتلة بهجة الكثير أن تتهم بالفجاجة. كانت الرغبة عند جميع التيارات واضحة في ممارسة الوصاية على النساء السوريات، من خلال “صناعة نموذج” يخضع لمعايير سياسية وأيديولوجية مسبقة، من دون السماح لهن بالمشاركة الفعلية في صياغة هذا النموذج، أو التعبير عن تجاربهن وتطلعاتهن المختلفة. 

ولعل بتصريح السيدة عائشة الدبس رئيسة مكتب المرأة في حكومة تصريف الأعمال الحالية، غيض من فيض، ففي حديثها عن دور المرأة، أكدت أن نموذج المرأة الذي سيتم اعتماده في المرحلة المقبلة، سيعتمد على “الشريعة الإسلامية” كمصدر أساسي، رافضة النماذج “المستوردة” أو “الغربية”. 

هذا الخطاب يعكس توجهاً واضحاً نحو فرض إطار محدد لدور المرأة في المجتمع، يرتكز على الأدوار التقليدية مثل الأمومة والرعاية الأسرية، مع تهميش الأدوار القيادية والسياسية، التي لعبتها النساء السوريات خلال سنوات الحرب، كما يشير ضمناً إلى التيار النسوي الذي لطالما اتُهم بتنصيع نماذج مستوردة أو غربية. 

لم يكن حديث الدبس مجرد وجهة نظر شخصية، بل يعكس سياسة شاملة، تهدف إلى تقويض الحراك النسوي الذي شهد تطوراً كبيراً في سوريا خلال العقد الماضي. فمن خلال تقديم “نموذج مثالي” للمرأة السورية، تسعى السلطة إلى إعادة النساء إلى دائرة الوصاية الذكورية، التي تحاول تحديد أدوارهن ومكانتهن في المجتمع، وإدخالهن إلى الطوق مجدداً أو “لورا”. 

ألا يمكننا فعلاً أن نسمي هذه الحالة سرقة موصوفة؟ عبر تقديم سردية بديلة تجعل من قضايا المرأة امتداداً لرؤية السلطة الأيديولوجية، عبر تأكيد الأدوار التقليدية مثل الأمومة والزوجية، وعبر خلق رواية مضادة، تصور النساء المدافعات عن حقوقهن، كعنصر متمرد على المجتمع ومهدد لوحدته، ويتم تقديم النساء اللواتي يتبنين الخطاب التقليدي كـ”نساء أصيلات”، بينما يتم تصوير النسويات كـ”مستوردات لأفكار غريبة.

وفي سلسلة سرقة السرديات وطمس الحقائق عبر تعفيش سجن صيدنايا الشهير، وطلاء جدران المعتقلات التي تشكل ذاكرة حقيقية، أو روزنامة لمعاناة المعتقلين السوريين، تستخدم بعض النساء غير المقربات من السلطة أصلاً، واللواتي يعرّفن أنفسهن بأنهن نسويات من دون علمهن، في تلك الرواية المضادة فلا تحتاج السيدة أن تهاجم بنفسها، أو تلجأ مجدداً إلى تشويه المختلفات. 

هناك نساء منهن يقمن بهذه المهمة، على مبدأ وشهدت شاهدة منهن. مثلاً، خلال كل السنوات السابقة  في محافظة إدلب، فُرضت قيود عديدة على النساء من ناحية شكل اللباس و الألوان، وهنا لا نتكلم عن الحجاب أبداً، فالحجاب ليس خياراً، بل جزء من هوية النساء المجتمعية، حتى إن النساء الدرزيات في إدلب يرتدين الحجاب ذاته الذي ترتديه النساء السنيات، لكونه جزءاً من الثقافة الأدلبية و العرف المجتمعي. لا شك في أن هناك بعض الاستثناءات كالنساء المسيحيات، أو بعض النساء السنيات من عائلات معينة، لكن أيضاً لم يكن التعاطي معهن وفق المسطرة ذاتها، التي تعامل بها بقية النساء، وكان يشار إليهن بأنهن المختلفات، وغالباً ما يلقبن ب”السافرات” قبل الثورة بأعوام كثيرة. 

لذا لم تكن “هيئة تحرير الشام” في حاجة إلى فرض الحجاب أو غطاء الرأس، فقد أتت على مجتمع هاجرت نصف “سافراته”، وتحجبت الباقيات خوفاً على أمنهن الشخصي، خصوصاً أن الفترة ما قبل وصول “الهيئة” إلى إدلب، شهدت تيارات دينية وراديكالية متعددة، لكن في الوقت ذاته، لم تجرؤ سيدة غير محجبة من محافظة إدلب أن تخلع حجابها، فستتعرض حكماً لتقريع ديني ومجتمعي، خصوصاً في ظل التضييق الشديد عبر فصل الذكور والإناث في المدارس والجامعات، وليس انتهاءً بقانون الأخلاق الذي أصدرت مسودته الأولى حكومة الإنقاذ؛ الوجه المدني ل”هيئة تحرير الشام” العام الماضي، والذي يفرض وضوحاً، الحجاب الشرعي، وعدم الاختلاط، ومنع السفر من دون محرم. 

لكن مقتضيات المرحلة الحالية، والرغبة في الحصول على الشرعية للسلطة الجديدة، أصدرت حكومة تصريف الأعمال العديد من التصريحات، التي منعت التعرض لأي شخص يزور إدلب أياً كان دينه أو لباسه، ورغم أنه تقدّم ملحوظ في سلوك الحكومة المؤقتة، بغض النظر عن النوايا، لكن هل ستمنع الحكومة أولاد عمومي من قتلي بحال سافرت إلى إدلب من دون حجاب؟ أم أنها ستكون جريمة شرف؟ أم أن الحرية للنساء الزائرات فقط، كما كانت سابقاً لموظفات الأمم المتحدة اللواتي كن يأتين في بعثات رسمية، ويعقدن اجتماعاتهن في مدينة إدلب، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاز الحسبة، والمكتب الدعوي على بعد أمتار فقط منهن؟ أم أن الوصاية تطبق على الأقربين فقط، وأننا نحن الإدلبيات جميعاً، آل بيت حكومة تصريف الأعمال الإدلبية، ويحق لها أن تربينا وتفرض علينا الوصاية الأبوية، كما فعلن مع بعض الصحافيات من إدلب الكبرى التي تضم إدلب وريف حلب، اللواتي ذهبن ليغطين تحرير المدن، وتم معاملتهن بتقييد شديد، على خلاف الصحافيات من المناطق التي دخلوها مثلاً؟

الطوق الذي لم يُكسر بعد

كلما ظننا أننا حطمنا طوقاً فرضه النظام الذكوري، وجدنا أنفسنا في مواجهة أطواق جديدة، أكثر مرونة ولكن لا تقل قسوة. الطوق لم يكن يوماً مجرد دائرة مادية تحيط بالنساء في المظاهرات، أو القيود التي فرضتها التيارات الراديكالية، بل هو منظومة متجذرة في عقل المجتمع، تُعيد إنتاج ذاتها بأشكال وأسماء مختلفة كلما استجدت الظروف.

اليوم، في سوريا ما بعد سقوط النظام، نجد أن الطوق يتلون ويبدل ملامحه. ربما لم تعد القيود بالصرامة نفسها، لكن الوصاية ما زالت قائمة، وقد تكون أشد خطراً لأنها تأتي في صورة أكثر قبولاً، مدعية أنها تمثل “الهوية” و”الخصوصية الثقافية”.

الطريق إلى الحرية لم يكن يوماً سهلاً، خاصة للنساء اللواتي يرفضن الوصاية بكافة أشكالها، سواء كانت سياسية، دينية، أو مجتمعية. وما دامت الأصوات النسوية الحرة موجودة، وما دامت الأقلام تكتب عن تلك الأطواق الخفية، سيظل هناك أمل في كسرها نهائياً. لكن حتى ذلك اليوم، سنبقى نواجه أطواقاً جديدة، كلما ظننا أننا تحررنا من سابقاتها.

لن تكون هذه المعركة سهلة، ولن تكون بلا خسائر، لكن ما تعلمناه خلال كل تلك السنوات من الثورة، هو أن كسر الطوق يبدأ برفضه، برفض الرضوخ له أو التحرك ضمن حدوده المرسومة. فما زال النضال مستمراً، وما زال الصوت الحر يُسمع، رغم كل محاولات قمعه وتشويهه.

فهل سننجح يوماً في كسر كل الأطواق، أم أننا محكومون بمواجهتها إلى الأبد؟ هذا سؤال لا أعرف إجابته، لكنه سيظل يحفزني لأكتب، وأصرخ، وأرفض أن أكون “خارج الطوق” فقط، بل أن أكون ممن يحطمونه إلى الأبد.

21.01.2025
زمن القراءة: 10 minutes

الطريق إلى الحرية لم يكن يوماً سهلاً، خاصة للنساء اللواتي يرفضن الوصاية بكافة أشكالها، سواء كانت سياسية، دينية، أو مجتمعية. وما دامت الأصوات النسوية الحرة موجودة، وما دامت الأقلام تكتب عن تلك الأطواق الخفية، سيظل هناك أمل في كسرها نهائياً. لكن حتى ذلك اليوم، سنبقى نواجه أطواقاً جديدة، كلما ظننا أننا تحررنا من سابقاتها.

قالت لي مرة صديقة من السودان وهي تبتسم بمزيج من الجد والمرارة “أنت قاتلة للبهجة، لأنك ببساطة لا تشاركين في هذا الفرح، من دون أن ترفعي راية النقد في وجهه”. 

ربما تكون صديقتي على حق، لكن كيف يمكن التعامل مع البهجة الزائفة التي تُبنى على حساب كرامة النساء وأحلامهن، في مجتمع يعامل النساء كورود ناعمة، تُسقى بالمديح وتُزين بها الموائد، لكنه في الوقت ذاته، لا يأبه إن سقطت هذه الورود في أعراسه ومهرجاناته، ويدوس عليها في لحظة نشوة الفرح والدبكة.

أقنعت نفسي بأنه أن تكوني امرأة ناقدة أو قاتلة للبهجة، يعني أن تختاري دوراً لا ترحب به شرائح واسعة في المجتمع، ممن يفضلون المرأة التي تصفق في الزوايا، وتبتسم في صمت، وتقبل بما يُمنح لها من فتات الحقوق، باعتباره كرماً عظيماً. وربما في نهاية الأمر، لا يتعلق الأمر بقتل البهجة، بقدر ما يتعلق بإعادة تعريف الفرح الحقيقي. الفرح الذي لا يُقصي أحداً، ولا يُبنى على استغلال أحد. الفرح الذي يعترف بكل إنسان، بما يحمله من هموم وأحلام، ويمنحه المساحة ليكون نفسه، من دون أقنعة ومن دون خضوع. الفرح الذي لا يلغي تاريخاً و سرديات محقة، مبنية على آلام من تبنوها، و أحياناً صنعوها بأنفسهم.

هل تريدين حقاً أن تكوني تلك التي تنشر البهجة الساذجة؟ أم تريدين أن تكوني من يصنع فرحاً حقيقياً يليق بمن حملن على أكتافهن أعباء الصمت الطويل؟ هذا هو السؤال الذي تركته لي صديقتي منذ سنوات ولعله لا يزال بلا إجابة.

في خضم الثورة السورية وما تبعها من صراعات سياسية واجتماعية، لم تكن معركة النساء السوريات مجرد صراع من أجل إسقاط نظام مستبد فقط، بل كانت أيضاً معركة يومية ضد طوق ذكوري يحيط بهن من كل جانب. الطوق الذي يرمز إلى محاولات تقييدهن وتحديد أدوارهن، سواء كان ذلك في ساحات المظاهرات، أو في أروقة السياسة الدولية.

الطوق في المظاهرات و المجتمع المدني و السياسة

كان الطوق في المظاهرات التي سارت في الثورة ضد الأسد، يتجسد في مجموعة من الرجال الذين يمسكون بأيدي بعضهم بعضاً، ويحيطون بالنساء تحت شعار حمايتهن من التحرش، أو تسهيل هروبهن في حال اقتحام قوات الأمن المكان. وبرغم النوايا الحسنة الظاهرة لهذه الخطوة، إلا أن العديد من النساء رفضن هذا الطوق، لأنه يمارس عليهن نوعاً من الوصاية، وكأن وجودهن في الساحة مشروط بحماية الذكور لهن، ولم يكن مستغرباً أن تسمع صوت إحدى المتظاهرات تقول: “ما بدخل جوا الطوق”.  

وفي بعض المناطق كان ذلك الطوق مجموعة من المتظاهرين الرجال، يقفون في الصفوف الأمامية للمظاهرات ويصرخون: الحرائر لورا، أي أن تقف النساء في الصفوف الخلفية حماية لهن من القنص، أو إطلاق النار المباشرة من قبل الأمن السوري، وعلى غرار رافضات الطوق، أصر بعض النساء على الوقوف في الصفوف الأمامية، وقلن مراراً: “ما منرجع لورا”.

لم يكن رفض الطوق و”الورا” مجرد عناد عابر؛ بل كان تعبيراً عن رفض النساء السوريات، أن يُختزل وجودهن في الثورة بدور الضحايا، أو من يحتاج إلى الحماية. كان إصرارهن على الوجود خارج الطوق، رغم المخاطر، إعلاناً واضحاً بأنهن شريكات كاملات في النضال، لا يطلبن الإذن ولا يقبلن التقييد.

لم يقتصر الطوق على المظاهرات، بل امتد إلى المجتمع المدني، حيث أصبح العديد من المبادرات النسوية/ النسائية في المناطق المحررة، وفي الخارج، يخضع لإملاءات مموليها أو الأجندات الدولية، التي غالباً ما تفصل بين النساء والواقع السياسي. 

تلك المبادرات التي كان يُفترض بها أن تكون منبراً حراً للنساء السوريات، تحولت في بعض الأحيان إلى إطار مُقيد، لا يسمح للنساء بالتعبير عن آرائهن بشكل كامل. في كثير من اللقاءات، كان يُطلب من النساء التركيز على القضايا الإنسانية فقط، من دون التطرق إلى الاستبداد، أو الانتهاكات المستمرة من قبل النظام، وكان من اللافت أن يتم تصوير النساء في هذه اللقاءات، كأنهن الطرف المحايد الذي يجب أن يلعب دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة، في حين أنهن في الواقع كن ضحايا مباشرات للعنف والقمع.

وفي الوقت الذي كانت فيه بعض المبادرات تُستخدم كأدوات سياسية لإظهار “التنوع والشمولية” أمام المجتمع الدولي، كانت النساء اللواتي يرفضن هذه القيود، يُقصين أو تُهمش أصواتهن. وعلى الرغم من ذلك، استمر العديد من النساء السوريات في تحدي هذه القيود، وأصررن على أن يكن جزءاً من الحراك السياسي والمجتمعي، من دون أن يُفرض عليهن الطوق، سواء كان ذلك في شكل وصاية سياسية، أو أجندات دولية تخدم مصالح محددة. 

هذا الطوق الجديد الذي فرضته بعض الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، لم يكن أقل قسوة من الطوق الذي واجهته النساء في ساحات المظاهرات، فالهدف في الحالتين كان واضحاً: الحد من تأثير النساء، وجعلهن مجرد رموز شكلية تُستخدم عند الحاجة، من دون السماح لهن بالتصدر والمشاركة الفعلية في صنع القرار.

ومع تقدم الوقت، وتحول الثورة إلى صراع سياسي معقد، ظهر شكل آخر من الطوق، لكن هذه المرة كان في ساحات السياسة والمفاوضات. أصبح يُطلب من النساء أن يجتمعن ككتلة واحدة، بلا اختلافات، بلا تناقضات، وكأنهن مجرد رمز موحد يُستخدم في الصور التذكارية والاجتماعات الرسمية. 

أصبح يُفرض عليهن أن يتفقن لمجرد أنهن نساء، من دون اعتبار لاختلاف الرؤى السياسية أو الانتماءات الثورية، ولم تكن وكالات الأمم المتحدة بريئة من تلك الأجندة، فما زلت أذكر اجتماعاً من تحضير إحدى وكالاتهن في بيروت، حيث جمعن المواليات المهللات للقتل، مع أمهات الضحايا وأخواتهن، برغم أن آلة القتل كانت مستمرة، وطُلب منهن أن يحببن بعضهن بعضاً، ويلعبن دور حمامة السلام، وكأن الصقور؛ أي الرجال، يحلّقون في سرب، والنساء؛ الحمائم، في سرب آخر تماماً.

ضريبة الخروج من الطوق

مع إصرار العديد من النساء السوريات على رفض الطوق بكل أشكاله، بدأت حملات تشويه ممنهجة تستهدف هؤلاء النساء الناشطات. لم يكن التشويه مجرد انتقادات عابرة؛ بل اتخذ أشكالاً منظمة تهدف إلى إقصائهن وتحييدهن عن المشهد العام، سواء في المظاهرات أو في المجتمع المدني والسياسي.

استخدمت هذه الحملات التحريض الديني، حيث تم استهداف بعض الناشطات من قبل جهات دينية متشددة، اتهمتهن بالخروج عن “الدين”، والترويج لأفكار غربية تهدف إلى تفكيك المجتمع، ووصل الأمر إلى استخدام المنابر الدينية للتحريض المباشر ضدهن، ونشر صور مفبركة ومعلومات مضللة، تهدف إلى تقويض مصداقيتهن، وجعلهن يظهرن بمظهر غير أخلاقي، أو متآمر مع جهات خارجية.

هدفت كل تلك الحملات إلى إسكات الأصوات الناقدة، ودفع النساء إلى التراجع عن مواقفهن والانسحاب من المشهد العام، وتقويض مصداقيتهن أمام المجتمع المحلي والدولي، مما يضعف من تأثيرهن وقدرتهن على حشد الدعم، كما سعت إلى إعادة فرض السيطرة الذكورية، من خلال إجبار النساء على العودة إلى أدوارهن التقليدية كمتابعات وداعمات فقط، وليس كصانعات للقرار وشريكات في النضال.

ما بعد الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

 الساعة الآن السادسة وثماني عشرة دقيقة صباحاً بتوقيت دمشق، سوريا من دون بشار الأسد، قيادة الجيش تخبر الجنود بسقـوط النظام في سـوريا”، سمعنا كما سمع العالم هذا الخبر على قناة العربية، وحتى اللحظة أشعر بأنني في حلم لا أرغب في الاستيقاظ منه. لكن ككل قاتلات البهجة، لم أستطع الاستمتاع كفاية بخبر سقوط النظام، فمن وصلوا إلى السلطة، هم ذاتهم من كان يتم التحريض على قتلي وقتل فريقي تحت سيطرتهم قبل عام واحد فقط، وهم ذاتهم من وصلوا إلى السلطة، ومعهم قائمة بأسماء أشخاص متطرفين، أرونا النجوم في وضح النهار طوال السنوات الماضية في إدلب، مثل الرجل الذي أعطى الأمر بقتل امرأة ستينية، قيل إنها زانية عند دوار معرة مصرين في ريف إدلب، رغم كل توسلاتها بأن ترى “وليداتها”، و هو تصغير لكلمة أولادها، دلالة على إحساسها بأنهم ما زالوا أطفالاً، رغم أنهم قد يكونوا يافعين. هذا قلب الأم! لكن عجباً لم يحرك ذلك شيئاً في قلبه ومن معه قيد أنملة، وأطقلوا الرصاص مباشرة صوب رأسها ببرود مطلق.

لكن عجباً أصبح اسم الجولاني أحمد الشرع، وأصبح يردد كلامنا، نحن الناشطين و الناشطات المدنيين في سوريا، وتحديداً في إدلب، لكوننا كنا على احتكاك مباشر مع “هيئة تحرير الشام”، بصفتها سلطة أمر واقع لعقد من الزمن تقريباً. 

وهنا لا أنكر بأنهم قد يكونوا فعلاً تغيروا، و طوروا منظومتهم الدينية و الفكرية الخاصة، بعيداً عن القاعدة و السلفية الجهادية، لكن لم ينظر للتغير بأنه أحادي الجانب، لم لم يقبلوا يوماً بأن التيار النسوي في سوريا شهد تغيرات جذرية خلال السنوات السابقة، و بأنه طور نموذجاً يناسب المجتمع السوري، قد لا يتشابه مع منهج سيمون دي بوفوار مثلاً؟ لم بقيت التهمة المعلبة الجاهزة بأن النسويات عميلات للغرب، و أتين بنموذج غربي لا يناسب ثقافة المجتمع السوري المحافظ؟ كأنهم وحدهم يملكون الحق في تحديد ما يناسب هذا المجتمع وما لا يناسبه، وكأن كل ما قمنا به خلال السنوات الماضية من تحديات ونضالات وتضحيات، لا يعني شيئاً في نظرهم. لقد كنا هناك، في الميدان، نواجه الموت والرصاص، نرفض الطوق الذي أرادوا فرضه علينا باسم الدين والأخلاق والمجتمع.

لا أعلم إن كان ما سأقوله فجاً، لكن لن يعني لقاتلة بهجة الكثير أن تتهم بالفجاجة. كانت الرغبة عند جميع التيارات واضحة في ممارسة الوصاية على النساء السوريات، من خلال “صناعة نموذج” يخضع لمعايير سياسية وأيديولوجية مسبقة، من دون السماح لهن بالمشاركة الفعلية في صياغة هذا النموذج، أو التعبير عن تجاربهن وتطلعاتهن المختلفة. 

ولعل بتصريح السيدة عائشة الدبس رئيسة مكتب المرأة في حكومة تصريف الأعمال الحالية، غيض من فيض، ففي حديثها عن دور المرأة، أكدت أن نموذج المرأة الذي سيتم اعتماده في المرحلة المقبلة، سيعتمد على “الشريعة الإسلامية” كمصدر أساسي، رافضة النماذج “المستوردة” أو “الغربية”. 

هذا الخطاب يعكس توجهاً واضحاً نحو فرض إطار محدد لدور المرأة في المجتمع، يرتكز على الأدوار التقليدية مثل الأمومة والرعاية الأسرية، مع تهميش الأدوار القيادية والسياسية، التي لعبتها النساء السوريات خلال سنوات الحرب، كما يشير ضمناً إلى التيار النسوي الذي لطالما اتُهم بتنصيع نماذج مستوردة أو غربية. 

لم يكن حديث الدبس مجرد وجهة نظر شخصية، بل يعكس سياسة شاملة، تهدف إلى تقويض الحراك النسوي الذي شهد تطوراً كبيراً في سوريا خلال العقد الماضي. فمن خلال تقديم “نموذج مثالي” للمرأة السورية، تسعى السلطة إلى إعادة النساء إلى دائرة الوصاية الذكورية، التي تحاول تحديد أدوارهن ومكانتهن في المجتمع، وإدخالهن إلى الطوق مجدداً أو “لورا”. 

ألا يمكننا فعلاً أن نسمي هذه الحالة سرقة موصوفة؟ عبر تقديم سردية بديلة تجعل من قضايا المرأة امتداداً لرؤية السلطة الأيديولوجية، عبر تأكيد الأدوار التقليدية مثل الأمومة والزوجية، وعبر خلق رواية مضادة، تصور النساء المدافعات عن حقوقهن، كعنصر متمرد على المجتمع ومهدد لوحدته، ويتم تقديم النساء اللواتي يتبنين الخطاب التقليدي كـ”نساء أصيلات”، بينما يتم تصوير النسويات كـ”مستوردات لأفكار غريبة.

وفي سلسلة سرقة السرديات وطمس الحقائق عبر تعفيش سجن صيدنايا الشهير، وطلاء جدران المعتقلات التي تشكل ذاكرة حقيقية، أو روزنامة لمعاناة المعتقلين السوريين، تستخدم بعض النساء غير المقربات من السلطة أصلاً، واللواتي يعرّفن أنفسهن بأنهن نسويات من دون علمهن، في تلك الرواية المضادة فلا تحتاج السيدة أن تهاجم بنفسها، أو تلجأ مجدداً إلى تشويه المختلفات. 

هناك نساء منهن يقمن بهذه المهمة، على مبدأ وشهدت شاهدة منهن. مثلاً، خلال كل السنوات السابقة  في محافظة إدلب، فُرضت قيود عديدة على النساء من ناحية شكل اللباس و الألوان، وهنا لا نتكلم عن الحجاب أبداً، فالحجاب ليس خياراً، بل جزء من هوية النساء المجتمعية، حتى إن النساء الدرزيات في إدلب يرتدين الحجاب ذاته الذي ترتديه النساء السنيات، لكونه جزءاً من الثقافة الأدلبية و العرف المجتمعي. لا شك في أن هناك بعض الاستثناءات كالنساء المسيحيات، أو بعض النساء السنيات من عائلات معينة، لكن أيضاً لم يكن التعاطي معهن وفق المسطرة ذاتها، التي تعامل بها بقية النساء، وكان يشار إليهن بأنهن المختلفات، وغالباً ما يلقبن ب”السافرات” قبل الثورة بأعوام كثيرة. 

لذا لم تكن “هيئة تحرير الشام” في حاجة إلى فرض الحجاب أو غطاء الرأس، فقد أتت على مجتمع هاجرت نصف “سافراته”، وتحجبت الباقيات خوفاً على أمنهن الشخصي، خصوصاً أن الفترة ما قبل وصول “الهيئة” إلى إدلب، شهدت تيارات دينية وراديكالية متعددة، لكن في الوقت ذاته، لم تجرؤ سيدة غير محجبة من محافظة إدلب أن تخلع حجابها، فستتعرض حكماً لتقريع ديني ومجتمعي، خصوصاً في ظل التضييق الشديد عبر فصل الذكور والإناث في المدارس والجامعات، وليس انتهاءً بقانون الأخلاق الذي أصدرت مسودته الأولى حكومة الإنقاذ؛ الوجه المدني ل”هيئة تحرير الشام” العام الماضي، والذي يفرض وضوحاً، الحجاب الشرعي، وعدم الاختلاط، ومنع السفر من دون محرم. 

لكن مقتضيات المرحلة الحالية، والرغبة في الحصول على الشرعية للسلطة الجديدة، أصدرت حكومة تصريف الأعمال العديد من التصريحات، التي منعت التعرض لأي شخص يزور إدلب أياً كان دينه أو لباسه، ورغم أنه تقدّم ملحوظ في سلوك الحكومة المؤقتة، بغض النظر عن النوايا، لكن هل ستمنع الحكومة أولاد عمومي من قتلي بحال سافرت إلى إدلب من دون حجاب؟ أم أنها ستكون جريمة شرف؟ أم أن الحرية للنساء الزائرات فقط، كما كانت سابقاً لموظفات الأمم المتحدة اللواتي كن يأتين في بعثات رسمية، ويعقدن اجتماعاتهن في مدينة إدلب، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاز الحسبة، والمكتب الدعوي على بعد أمتار فقط منهن؟ أم أن الوصاية تطبق على الأقربين فقط، وأننا نحن الإدلبيات جميعاً، آل بيت حكومة تصريف الأعمال الإدلبية، ويحق لها أن تربينا وتفرض علينا الوصاية الأبوية، كما فعلن مع بعض الصحافيات من إدلب الكبرى التي تضم إدلب وريف حلب، اللواتي ذهبن ليغطين تحرير المدن، وتم معاملتهن بتقييد شديد، على خلاف الصحافيات من المناطق التي دخلوها مثلاً؟

الطوق الذي لم يُكسر بعد

كلما ظننا أننا حطمنا طوقاً فرضه النظام الذكوري، وجدنا أنفسنا في مواجهة أطواق جديدة، أكثر مرونة ولكن لا تقل قسوة. الطوق لم يكن يوماً مجرد دائرة مادية تحيط بالنساء في المظاهرات، أو القيود التي فرضتها التيارات الراديكالية، بل هو منظومة متجذرة في عقل المجتمع، تُعيد إنتاج ذاتها بأشكال وأسماء مختلفة كلما استجدت الظروف.

اليوم، في سوريا ما بعد سقوط النظام، نجد أن الطوق يتلون ويبدل ملامحه. ربما لم تعد القيود بالصرامة نفسها، لكن الوصاية ما زالت قائمة، وقد تكون أشد خطراً لأنها تأتي في صورة أكثر قبولاً، مدعية أنها تمثل “الهوية” و”الخصوصية الثقافية”.

الطريق إلى الحرية لم يكن يوماً سهلاً، خاصة للنساء اللواتي يرفضن الوصاية بكافة أشكالها، سواء كانت سياسية، دينية، أو مجتمعية. وما دامت الأصوات النسوية الحرة موجودة، وما دامت الأقلام تكتب عن تلك الأطواق الخفية، سيظل هناك أمل في كسرها نهائياً. لكن حتى ذلك اليوم، سنبقى نواجه أطواقاً جديدة، كلما ظننا أننا تحررنا من سابقاتها.

لن تكون هذه المعركة سهلة، ولن تكون بلا خسائر، لكن ما تعلمناه خلال كل تلك السنوات من الثورة، هو أن كسر الطوق يبدأ برفضه، برفض الرضوخ له أو التحرك ضمن حدوده المرسومة. فما زال النضال مستمراً، وما زال الصوت الحر يُسمع، رغم كل محاولات قمعه وتشويهه.

فهل سننجح يوماً في كسر كل الأطواق، أم أننا محكومون بمواجهتها إلى الأبد؟ هذا سؤال لا أعرف إجابته، لكنه سيظل يحفزني لأكتب، وأصرخ، وأرفض أن أكون “خارج الطوق” فقط، بل أن أكون ممن يحطمونه إلى الأبد.