fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

من سوريا الى بولندا… 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في معرض الحديث مع أحد البولنديين عن التغيرات في الشرق الأوسط، التي طاولت لبنان وسوريا ومستقبل المنطقة، ناقشنا أوجه التشابه بين سوريا اليوم وبولندا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، والتغير الجذري الذي حصل في الدولتين، مع فارق زمني يتجاوز الـ20 عاماً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في معرض الحديث مع أحد البولنديين عن التغيرات في الشرق الأوسط، التي طاولت لبنان وسوريا ومستقبل المنطقة، ناقشنا أوجه التشابه بين سوريا اليوم وبولندا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، والتغير الجذري الذي حصل في الدولتين، مع فارق زمني يتجاوز الـ20 عاماً. فبولندا، التي رزحت تحت الحكم الشيوعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن جزءاً من الجمهوريات السوفياتية، كما يعتقد الكثيرون، بل كانت حكومتها موالية لموسكو تحت حكم حزب العمال البولندي. 

وعلى مرّ السنين، شهدت بولندا احتجاجات عدة ضد الحكم الشيوعي، بدءاً من عام 1956، ثم احتجاجات عام 1970 بسبب رفع أسعار المواد الغذائية، والتي أدت إلى إطاحة فلاديسلاف غومولكا، وصولاً إلى الثمانينات، حيث ظهرت “حركة التضامن” (Solidarność)  بقيادة ليخ فاونسا، النقابي في حوض السفن بمدينة غدانسك على بحر البلطيق.  

كانت “حركة التضامن” من أولى الحركات النقابية في المعسكر الشرقي التي اعتُبرت مستقلة عن السلطة الشيوعية. وسرعان ما توسعت الحركة في أرجاء بولندا، مطالبةً بإصلاحات ديمقراطية، ما دفع السلطات إلى فرض الأحكام العرفية في محاولة لقمع التحرك من خلال حملة اعتقالات واسعة واضطهاد للمعارضين، طاولت العمال والنقابيين، بالإضافة إلى الكثير من المفكرين وأساتذة الجامعات.  

استمرت الاضطرابات في بولندا وازدادت حدة الأزمة الاقتصادية، ومعها تصاعد احتقان الشارع، حتى اضطرت الحكومة الشيوعية إلى بدء محادثات أُطلق عليها “محادثات المائدة المستديرة” في أواخر الثمانينات مع المعارضة، وعلى رأسها “حركة التضامن”. تم الاتفاق على إجراء انتخابات وُصفت بأنها “شبه حرة”، اكتسح فيها مرشحو “التضامن” المقاعد البرلمانية، واضعين حدّاً للحكم الشيوعي في البلاد. 

وهكذا، أصبحت بولندا من أوائل الدول التي انفصلت عن المحور السوفياتي، ما ألهم محاولات مماثلة في دول أخرى، مثل تشيكوسلوفاكيا والمجر، وصولاً إلى ألمانيا الشرقية وانهيار جدار برلين. في عام 1990، انتُخب ليخ فاونسا رئيساً للجمهورية، وبقي في منصبه حتى عام 1995. وكان له دور محوري في قيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية، إذ نفّذ إصلاحات اقتصادية نقلت بولندا من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الحرة. شملت هذه الإصلاحات تحرير الأسعار، وخصخصة المؤسسات الحكومية، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. كما عزّز الديمقراطية والصحافة الحرة، وضمان حقوق الإنسان، وسعى إلى اندماج بولندا في المجتمع الدولي، ما مهد لانضمامها إلى حلف الناتو عام 1999، والاتحاد الأوروبي عام 2004.

 لم تكن سنوات حكم فاونسا خالية من التحديات، إذ تعرض للكثير من الانتقادات، خصوصاً بسبب سياساته الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى 14 في المئة، والتضخم إلى 500 في المئة. كما استفادت طبقة جديدة من الأثرياء من تحرير السوق، ما زاد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. ومع ذلك، نجحت بولندا في تحقيق نمو اقتصادي ابتداءً من عام 1995، بفضل هذه الإصلاحات. ورغم ذلك، انخفضت شعبية فاونسا بين العمال والفقراء، الذين اعتبروا أن سياسته الاقتصادية كانت ضدهم. كما رأى كثيرون أنه يفتقر إلى الكفاءة السياسية لقيادة بلد كبير مثل بولندا، ما أدى إلى خسارته الانتخابات في عام 1995.  

كان لافتاً أيضاً العلاقة القوية بين ليخ فاونسا وحركة “التضامن” من جهة، والكنيسة الكاثوليكية من جهة أخرى. فقد دعمت الكنيسة الحركة خلال فترة الاضطرابات، نظراً الى تأثيرها الكبير على البولنديين. وزاد هذا التأثير مع انتخاب البابا يوحنا بولس الثاني، البولندي الأصل، على رأس الكنيسة الكاثوليكية، ما أعطى الكنيسة في بولندا دفعاً أكبر لمواجهة النظام الشيوعي، واحتضان المعارضين والدفاع عنهم. بل إن ثمة كنائس استضافت اجتماعات المعارضة، وضغطت لإطلاق سراح المعتقلين في بعض الأحيان، وصولاً إلى دورها الكبير في التحضير لمحادثات المائدة المستديرة، والدور الذي لعبه البابا يوحنا بولس الثاني في تأمين الغطاء الدولي لحركة “التضامن”، واعتبارها ليست مجرد نقابة عمالية، بل حركة اجتماعية وإنسانية تهدف إلى تحقيق العدالة والحرية وحقوق الإنسان.  

أما في سوريا، فالوضع لم يكن مختلفاً كثيراً. فقد حكمها حزب البعث لأكثر من خمسين عاماً تحت شعار “وحدة، حرية، اشتراكية”، وكانت على صلة وثيقة بالاتحاد السوفياتي. حكمها آل الأسد بالحديد والنار، وزُجّ بالآلاف في السجون، واغتيل المعارضون، وصولاً إلى الثورة التي اندلعت عام 2011، مخلّفة آلاف القتلى وملايين المهجرين حول العالم. الفرق أن البولنديين التفوا حول “حركة التضامن” وزعيمها، أما في سوريا، فتشعبت المعارضة بين من اختار الاحتجاج السلمي، ومن حمل السلاح لمواجهة النظام، ومنهم أحمد الشرع، المعروف آنذاك باسم “أبو محمد الجولاني”، القاعديّ السابق، ومؤسس “جبهة النصرة”، التي تحولت لاحقاً إلى “هيئة تحرير الشام”. 

تتشابه سوريا اليوم مع بولندا في التسعينات من حيث الإجراءات الاقتصادية التي أقرها أحمد الشرع، مثل تحرير الأسواق والانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. ومع غياب الأرقام الدقيقة، تشير التقديرات إلى أن نسبة البطالة في سوريا تبلغ نحو 23 في المئة، بينما يصل التضخم إلى 120 في المئة، ناهيك بالدمار الكبير الذي لحق بالمصانع والبنى التحتية. تحدث الشرع عن سنوات صعبة ستواجه السوريين، بسبب السياسات الاقتصادية الجديدة، لكنه وعد بأن الانفراج قادم.  

ما أقلق السوريين هو أن الشرع لم يتحدث عن الديمقراطية أو حرية المعتقد، ولم يذكرهما إطلاقاً في خطاباته، بل كرر مصطلح “الشورى”، ما أثار مخاوف المراقبين، الذين اعتبروا ذلك مؤشراً إلى طبيعة المرحلة المقبلة. في حديث مع الكثير من السوريين، يتمنون أن يكون الشرع شبيهاً بليخ فاونسا، من حيث تسليمه السلطة بعد مرحلة انتقالية تعزز الديمقراطية، وتنتهي بحكم صناديق الاقتراع، بدلاً من أن ينصب نفسه زعيماً إلى الأبد. لا تشابه بين الرجلين في حياتهما، بل إن الظروف التاريخية المتشابهة دفعتني إلى المقارنة بينهما. الشرع معروف بلحيته التي يطلقها أو يشذبها وفق الظروف، بينما حافظ فاونسا على شاربيه منذ شبابه. ومع ذلك، كلاهما ذاق السجن، وإن كان لأسباب مختلفة. لكن في النهاية، اختار فاونسا التخلي عن السلطة لتحقيق الديمقراطية والاستقرار لبلاده. علينا الانتظار لنرى أي طريق سيختاره أحمد الشرع لسوريا.

20.02.2025
زمن القراءة: 4 minutes

في معرض الحديث مع أحد البولنديين عن التغيرات في الشرق الأوسط، التي طاولت لبنان وسوريا ومستقبل المنطقة، ناقشنا أوجه التشابه بين سوريا اليوم وبولندا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، والتغير الجذري الذي حصل في الدولتين، مع فارق زمني يتجاوز الـ20 عاماً.

في معرض الحديث مع أحد البولنديين عن التغيرات في الشرق الأوسط، التي طاولت لبنان وسوريا ومستقبل المنطقة، ناقشنا أوجه التشابه بين سوريا اليوم وبولندا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، والتغير الجذري الذي حصل في الدولتين، مع فارق زمني يتجاوز الـ20 عاماً. فبولندا، التي رزحت تحت الحكم الشيوعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن جزءاً من الجمهوريات السوفياتية، كما يعتقد الكثيرون، بل كانت حكومتها موالية لموسكو تحت حكم حزب العمال البولندي. 

وعلى مرّ السنين، شهدت بولندا احتجاجات عدة ضد الحكم الشيوعي، بدءاً من عام 1956، ثم احتجاجات عام 1970 بسبب رفع أسعار المواد الغذائية، والتي أدت إلى إطاحة فلاديسلاف غومولكا، وصولاً إلى الثمانينات، حيث ظهرت “حركة التضامن” (Solidarność)  بقيادة ليخ فاونسا، النقابي في حوض السفن بمدينة غدانسك على بحر البلطيق.  

كانت “حركة التضامن” من أولى الحركات النقابية في المعسكر الشرقي التي اعتُبرت مستقلة عن السلطة الشيوعية. وسرعان ما توسعت الحركة في أرجاء بولندا، مطالبةً بإصلاحات ديمقراطية، ما دفع السلطات إلى فرض الأحكام العرفية في محاولة لقمع التحرك من خلال حملة اعتقالات واسعة واضطهاد للمعارضين، طاولت العمال والنقابيين، بالإضافة إلى الكثير من المفكرين وأساتذة الجامعات.  

استمرت الاضطرابات في بولندا وازدادت حدة الأزمة الاقتصادية، ومعها تصاعد احتقان الشارع، حتى اضطرت الحكومة الشيوعية إلى بدء محادثات أُطلق عليها “محادثات المائدة المستديرة” في أواخر الثمانينات مع المعارضة، وعلى رأسها “حركة التضامن”. تم الاتفاق على إجراء انتخابات وُصفت بأنها “شبه حرة”، اكتسح فيها مرشحو “التضامن” المقاعد البرلمانية، واضعين حدّاً للحكم الشيوعي في البلاد. 

وهكذا، أصبحت بولندا من أوائل الدول التي انفصلت عن المحور السوفياتي، ما ألهم محاولات مماثلة في دول أخرى، مثل تشيكوسلوفاكيا والمجر، وصولاً إلى ألمانيا الشرقية وانهيار جدار برلين. في عام 1990، انتُخب ليخ فاونسا رئيساً للجمهورية، وبقي في منصبه حتى عام 1995. وكان له دور محوري في قيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية، إذ نفّذ إصلاحات اقتصادية نقلت بولندا من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الحرة. شملت هذه الإصلاحات تحرير الأسعار، وخصخصة المؤسسات الحكومية، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. كما عزّز الديمقراطية والصحافة الحرة، وضمان حقوق الإنسان، وسعى إلى اندماج بولندا في المجتمع الدولي، ما مهد لانضمامها إلى حلف الناتو عام 1999، والاتحاد الأوروبي عام 2004.

 لم تكن سنوات حكم فاونسا خالية من التحديات، إذ تعرض للكثير من الانتقادات، خصوصاً بسبب سياساته الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى 14 في المئة، والتضخم إلى 500 في المئة. كما استفادت طبقة جديدة من الأثرياء من تحرير السوق، ما زاد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. ومع ذلك، نجحت بولندا في تحقيق نمو اقتصادي ابتداءً من عام 1995، بفضل هذه الإصلاحات. ورغم ذلك، انخفضت شعبية فاونسا بين العمال والفقراء، الذين اعتبروا أن سياسته الاقتصادية كانت ضدهم. كما رأى كثيرون أنه يفتقر إلى الكفاءة السياسية لقيادة بلد كبير مثل بولندا، ما أدى إلى خسارته الانتخابات في عام 1995.  

كان لافتاً أيضاً العلاقة القوية بين ليخ فاونسا وحركة “التضامن” من جهة، والكنيسة الكاثوليكية من جهة أخرى. فقد دعمت الكنيسة الحركة خلال فترة الاضطرابات، نظراً الى تأثيرها الكبير على البولنديين. وزاد هذا التأثير مع انتخاب البابا يوحنا بولس الثاني، البولندي الأصل، على رأس الكنيسة الكاثوليكية، ما أعطى الكنيسة في بولندا دفعاً أكبر لمواجهة النظام الشيوعي، واحتضان المعارضين والدفاع عنهم. بل إن ثمة كنائس استضافت اجتماعات المعارضة، وضغطت لإطلاق سراح المعتقلين في بعض الأحيان، وصولاً إلى دورها الكبير في التحضير لمحادثات المائدة المستديرة، والدور الذي لعبه البابا يوحنا بولس الثاني في تأمين الغطاء الدولي لحركة “التضامن”، واعتبارها ليست مجرد نقابة عمالية، بل حركة اجتماعية وإنسانية تهدف إلى تحقيق العدالة والحرية وحقوق الإنسان.  

أما في سوريا، فالوضع لم يكن مختلفاً كثيراً. فقد حكمها حزب البعث لأكثر من خمسين عاماً تحت شعار “وحدة، حرية، اشتراكية”، وكانت على صلة وثيقة بالاتحاد السوفياتي. حكمها آل الأسد بالحديد والنار، وزُجّ بالآلاف في السجون، واغتيل المعارضون، وصولاً إلى الثورة التي اندلعت عام 2011، مخلّفة آلاف القتلى وملايين المهجرين حول العالم. الفرق أن البولنديين التفوا حول “حركة التضامن” وزعيمها، أما في سوريا، فتشعبت المعارضة بين من اختار الاحتجاج السلمي، ومن حمل السلاح لمواجهة النظام، ومنهم أحمد الشرع، المعروف آنذاك باسم “أبو محمد الجولاني”، القاعديّ السابق، ومؤسس “جبهة النصرة”، التي تحولت لاحقاً إلى “هيئة تحرير الشام”. 

تتشابه سوريا اليوم مع بولندا في التسعينات من حيث الإجراءات الاقتصادية التي أقرها أحمد الشرع، مثل تحرير الأسواق والانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. ومع غياب الأرقام الدقيقة، تشير التقديرات إلى أن نسبة البطالة في سوريا تبلغ نحو 23 في المئة، بينما يصل التضخم إلى 120 في المئة، ناهيك بالدمار الكبير الذي لحق بالمصانع والبنى التحتية. تحدث الشرع عن سنوات صعبة ستواجه السوريين، بسبب السياسات الاقتصادية الجديدة، لكنه وعد بأن الانفراج قادم.  

ما أقلق السوريين هو أن الشرع لم يتحدث عن الديمقراطية أو حرية المعتقد، ولم يذكرهما إطلاقاً في خطاباته، بل كرر مصطلح “الشورى”، ما أثار مخاوف المراقبين، الذين اعتبروا ذلك مؤشراً إلى طبيعة المرحلة المقبلة. في حديث مع الكثير من السوريين، يتمنون أن يكون الشرع شبيهاً بليخ فاونسا، من حيث تسليمه السلطة بعد مرحلة انتقالية تعزز الديمقراطية، وتنتهي بحكم صناديق الاقتراع، بدلاً من أن ينصب نفسه زعيماً إلى الأبد. لا تشابه بين الرجلين في حياتهما، بل إن الظروف التاريخية المتشابهة دفعتني إلى المقارنة بينهما. الشرع معروف بلحيته التي يطلقها أو يشذبها وفق الظروف، بينما حافظ فاونسا على شاربيه منذ شبابه. ومع ذلك، كلاهما ذاق السجن، وإن كان لأسباب مختلفة. لكن في النهاية، اختار فاونسا التخلي عن السلطة لتحقيق الديمقراطية والاستقرار لبلاده. علينا الانتظار لنرى أي طريق سيختاره أحمد الشرع لسوريا.