fbpx

من غادة العلي إلى محمد عبود: كلّهم رحلوا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنستني غادة هزيمتي وأعادت إليّ توازني الذي فقدته صيف 1980، وعلّمتني أن الحياة ليست نضالاً وبيانات سياسية وصراعاً طبقياً وحسب، ولكنها ببساطة عيش وقهوة ومشاوير وحب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تكن غادة العلي إذاً أوّل امرأة أحبّها، ولكن لعلّها كانت أوّل امرأة أحبّتني. أنستني غادة هزيمتي وأعادت إليّ توازني الذي فقدته صيف 1980، وعلّمتني أن الحياة ليست نضالاً وبيانات سياسية وصراعاً طبقياً وحسب، ولكنها ببساطة عيش وقهوة ومشاوير وحب. كانت بجسدها النحيل وبشرتها الشاحبة وعينيها العميقتين كأفقين ساحرين ما قبل شروق الشمس، ملاذاً لي من التعب والركض خلف المواعيد والنقاشات العاصفة المرهقة مع الرفاق. مع غادة كنت أنا نفسي، من دون تزيين أو تجميل أو تصنّع، وكانت تقبلني كما أنا، ليس لأنني مثقّف ولا لأنني مناضل ولا لأنني وسيم، بل لأنني أنا، بكل ضعفي وهشاشتي وتعبي وضآلتي. ومعها عشت عاماً جميلاً، هادئاً، ومنتجاً. كتبت دراستي الطويلة عن الإخوان المسلمين التي نشرتها في مجلة الشيوعي، وكتبت سلسلة من الدراسات النقدية، ونشرتها باسم عماد أبو المجد. 

كانت الصباحات تشرق أجملَ، والليالي تطول أحياناً حتى الفجر، حين نعود إلى البيت وقد بدأت الشمس تتسلّل خلسة إلى شوارع دمشق الغافية، كنت أشعر بطمأنينة ساجية تغلّف سياج القلب، واشعر بها تطمئن هي أيضاً، فيترَع القلب نشوة. كانت غادة عانت قبل ذلك من تجربة عشق فاشلة، وتركت مدينتها (مدينتنا) حمص إلى دمشق، ولم تكن قد تعرّفت بعد إلى مفاتيح هذه المدينة الكبيرة. عرّفتني غادة إلى أسرتها، ووقعت مباشرة في غرام هذه الأسرة. أمها طوّتني بسحرها وبساطتها وحبها الذي يغمر الجميع وذكائها اللماح الذي لا تبديه إلا عند الضرورة. وأسرني أخوها جمال، بفوضويته ولحيته السوداء الكثة وعينيه الصقريّتين وكسله المحبّب وطموحه الخيالي الذي ليس له من الواقع نصيب. وأما فتاة فكانت طيبتها بلا حدود، سوى حدودِ حفاظها على موفق، زوجِها الشاعر البوهيمي الذي كانت عيناه تجولان بسرعة خاطفة بحثاً عن الجمال، قبل أن تقعده نوبة قلبية طريح الفراش. حنان تجسيدٌ للمحبة والتفاني في سبيل أهلها وأصدقائها، بسمرة هادئة وعينين حنونتين، ووفاء الفنانة المرهفة الأنيقة الذكية والطموحة، التي ضحت – واعية أو غير واعية – بموهبتها من أجل أسرتها الجديدة. ظللت أذكر وقفتها على المسرح وحضورها فوق الخشبة بجبروت ورهافة وجمال. أما الصغيرتان رجاء وسلاف فكبرتا في غفلة من الزمن ومني، ففاجأني رجاء برزانة غريبة تأخذها بعيداً من العائلة، بينما ظلت سلاف الصغيرة تلك التلميذة المشاغبة التي كانت تعاكسني في كلّ ما أقول، لتثبت لي استقلالها ومكانتها في العائلة.

ولكن غادة، ككلّ النبلاء الذين لا يحتمل قلبهم ألم الحياة، كانت مصابة في قلبها. وتعاون قلبها المريض مع زواج فاشل برجل كان يريد أن يحمّل العالم ويحمّلها هي سبب فشله وعزلته وكآبته، ثمَ مع مرض خبيث آخر، لينهوا جميعا حياتها باكراً. في شارع الشيخ سعد المزدحم بالآدميين والباعة وعربات الخضار وباعة الشاورما، التقيت بحنان وسلاف. كانتا تتسوّقان أو تزجيان الوقت، ربما. سلّمتا بحرارة آل العلي المعروفة وكرمهم وابتسامتهم المشرقة الدائمة على وجوههم، والتي أخذوها على الأغلب عن أمهم الجميلة. سألتهما عن الحال وسألتاني، قبل أن أحوّل السؤال إلى غادة. ولسبب ما أحسست بقلق خاطف في أحشائي. كانت مرّت فترة طويلة جداً لم ألتقها. وكانت الصاعقة:

“غادة مريضة يا وائل”.

نظرت إليهما بتساؤل: “قلبها؟” سألت، فصمتتا دهراً، قبل أن تجيب حنان: “لا… إنه السرطان”. 

القلق الذي جاش في داخلي تحوّل غضباً وقهراً. وسلاف الصغيرة تطرق في الأرض ولا تريد أن تسمح لعينيها أن تلاقيا عينيّ. 

“تعال زرْنا!” قالت حنان.

“سآتي، طبعاً!”.

ولم أذهب.  بل ذهبت! وصلت إلى الحيّ التي كانت تسكنه في ضاحية قدسيا، وإلى والشارع والبناية، ووقفت أسفل البناء لحظات، أنظر إلى ضوء شاحب يتسلّل من شرفة بيت الصبايا، شعرت بالجُبن، وأحسست بركبتي تخذلانني. لم أستطع أن أراها هزيلة، شاحبة، متألّمة. كنت أشدّ جبناً وأكثرَ هشاشة من أن أواسيها وأرى روحها الوثّابة المكافحة وهي تذوي تحت ناظري، فاستدرت بضعف وأشرت إلى أول سيّارة أجرة وعدت صوب قلب المدينة، إلى ألفة بيتي وزوجتي وابنتي. بعد أشهر غادرت البلاد، وانقطعت أخبار غادة، إلى أن وصلتني رسالة من الصغيرة سلاف على “فايسبوك”، تطمئن علي، بعد غياب طويل.

“خيفان اسألك يا سلاف”، كتبتُ لها.

“لا تسأل. غادة راحت يا وائل. راحت وما قدرت ودّعها”. 

ولكن كان ثمّة ما ينغص عليَّ هناءتي مع غادة. فإلى جانب الشهور السمحة التي أمضيتها معها، كان ثمة تنظيم ينبغي أن أعمل من أجله. وفي تلك المرحلة بدت لي رابطة العمل الشيوعي وكأنها غير التنظيم الذي ساهمت لسنوات في تأسيسه وتنميته، فألفته وأحببته. والعمل الذي كان بالنسبة إلي نضالاً ونشاطاً أخلاقياً، هدفه تغيير الكون والوصول إلى عالم من الوئام والمحبة والسلام غدا الآن “سياسة”، بكل التفاصيل المتعلّقة بالسياسة، وككلّ تنظيم سياسي، بدأت الخلافات تتكّون بين الأفراد والاتجاهات، وراح كلّ فرد أو اتجاه محاولة دفع المركب نحو غايته السياسية. ولطالما كنت فاشلاً في إدارة اللعبة السياسية، ولطالما كرهت العمل في الكواليس، ليس عن شهامة دائماً، ولكن عن ضعف وانعدام حيلة. 

كان هدفي منذ إطلاق سراح رفاقنا في شباط/ فبراير 1980 أن ينعم التنظيم بسنة على الأقل من دون نزيف داخلي وخسائر في الكادر، تسلبه أفضل ناسه. هدنة ليستطيع أن يعيد تكوين نفسه فيرجع إلى قواعده الأولى كتنظيم ديموقراطي يقوم على مبادئ المساءلة والشفافية والانتخاب الدوري. في النظام الداخلي الذي أقرّه المؤتمرون في آب/ أغسطس 1976، كان عقد المؤتمر العام ينبغي أن يكون سنوياً، فجاءت حملات القمع المتوالية منذ آذار/ مارس 1977، لتجعل هذا الأمر ترفاً غير مقدور عليه. وبات البقاء على قيد الحياة هو الهدف، فلجأنا إلى التعيين لسدّ النزيف في الهيئات، وبدل انتخاب أعضاء اللجان المنطقية (والفرعية) من قبل مؤتمراتها، صرنا نعيّن أعضاء اللجان في المناطق تعييناً، وأحياناً كانت اللجنة كلُّها رفيقاً واحداً، تنقصه الخبرة السياسية والتنظيمية ولكنه يتمتع بشجاعة مواجهة الخطر، ويستطيع القفز من موعد إلى آخر، متجنباً خطر الاعتقال أو مؤجلاً إياه ما أمكن.  

طُرحت في الاجتماع مسألة عقد نوع من الهدنة مع النظام، ومسألة فتح خط للحوار معه، ومسألة تجميد إسقاط السلطة. ورفضت جميعها بأغلبية واسعة. وكان علينا، ونحن قلّة من الأعضاء بيننا أصلان عبد الكريم وكامل عبّاس وأحمد رزق ونهاد نحّاس، أن نبدأ عملاً مضنياً لنحوّل هذه الأقلية إلى أغلبية

هل كان ذلك خطأ أم صواباً؟ من أنا لأجيب على سؤال بهذا الحجم؟ وما الحدّ الفاصل بين العالمين؟ وما حجم البرزخ الذي يفصل بينهما؟ أكان علينا أن نقتنع منذ البداية أن مواجهة قمع النظام الفاشي فروسية لا معنى لها وأن علينا لا تقاوم مخرزاً؟ 

إن كان من صدمة لذيذة في الحياة فلا بدّ أنها تشبه إطلاق الرفاق في 4 شباط 1980. عصفت بي لذّة تشبه السكْر، وثملت بفكرة أن الحياة قد تعود إذاً لتسير في دورتها العادية، كنت أتلمس وجوه الرفاق بيدي، أخشى عليهم أن يفلتوا منهما ويعودوا إلى المعتقل من جديد. كانت الرابطة حتى ذلك التاريخ خسرت مئات الكوادر، وفي صباح 4 شباط تمّ إطلاق 106 رفاق، مع نحو 50 آخرين من تنظيمات يسارية أخرى، بينها الفصيل الشيوعي واتحاد الشغيلة وحزب العمال الشيوعي السوري وحركة النهوض، إضافة إلى اثنين من مناضلي الحزب الشيوعي- المكتب السياسي. وهجس في بالي أن تلك اللحظة قد تكون اللحظة التي كان التنظيم يحتاجها ليرمّم نفسه ويلملم جروحه. 

ومع ذلك لم نكن في التنظيم نرغب في قبول رشوة من النظام، فأصدرنا بياناً، شاركتُ في كتابته، فيه ترحيب بالإفراج ولكن تذكير بأن الإفراج لا يعني التنازل عن المبادئ التي قامت الرابطة عليها. ورحبنا بالرفاق المفرج عنهم، وقلنا لهم إن الرابطة “من خلال صمودكم وامتلاكها المنهج الماركسي- اللينيني انتزعت مشروعية وجودنا الثوري، كما انتزعنا مكسب خروجكم من المعتقلات”، ولكنّ بعضَ الضعفِ في الثقة الذي كان ينتابنا أحياناً جعلنا نسارع إلى درء أي شبهة يمكن أن تأتي من إطلاق سراح رفاقنا، فرفضنا أن تكون الرابطة “إسفيناً يدق في قلب الحركة الوطنية السورية”. 

وفي آذار 1980، عقدنا اجتماعاً موسّعاً لكل أعضاء الهيئة المركزية الحاليين والسابقين. كان الاجتماع عاطفياً أكثر منه اجتماعاً سياسياً لقيادة تنظيم يناضل لإسقاط السلطة. وطُرحت في الاجتماع مسألة عقد نوع من الهدنة مع النظام، ومسألة فتح خط للحوار معه، ومسألة تجميد إسقاط السلطة. ورفضت جميعها بأغلبية واسعة. وكان علينا، ونحن قلّة من الأعضاء بيننا أصلان عبد الكريم وكامل عبّاس وأحمد رزق ونهاد نحّاس، أن نبدأ عملاً مضنياً لنحوّل هذه الأقلية إلى أغلبية. على أن النظام لم يمهلنا. فبعد أسابيع من انعقاد اللجنة المركزية، اعتقل نهاد نحّاس. كان يحاول أن يصالح زوجته في بيت صديق مشترك، وما كادت الكؤوس تترع حتى دوهم البيت واعتقل نهاد وصديقه، وتبعه رهط كبير من الرفاق الذين ذهبوا فرادى. جفّان الحمصي والعميد (زياد مشهور) وحسام علوش وحسين محمد، ثمّ اثنان سيكسران قلبي من جديد: برهان الزعبي وجمال سعيد. سحبوا برهان من مقصف الجامعة، كان يتناول مع صديقة سندويشة جبنة وكأساً من الشاي بانتظار محاضرة صباحية. اقترب منه شخص مدني وطلب بطاقة هويته، سأله برهان ببراءة “مين حضرتك؟”، وطلب بطاقة هويته. انقض عليه عملاقان وجرّاه خارج المقصف، والطلاب، والصديقة، يتابعون المشهد برعب.

جمال أيضاً طلب هوية العناصر الذين اعتقلوه وأمر الاعتقال من النيابة. كان غادر قريته كفرية النائمة في جبال اللاذقية، عائداً إلى دمشق، بعد قرار لجنة العمل عودة الرفاق غير القياديين المتخفين إلى العلن. على مدخل المدينة، أوقفت دورية أمن الميكروباص الذي كان يقلّ أكثر من عشرين راكباً. وطلب العناصر من الشاب الذي يرتدي معطفاً بنياً أن ينزل مع أغراضه. نزل جمال، وكما علّمه الرفاق، أراد أن يخلق ضجّة حول اعتقاله، فطلب من عناصر الأمن هوياتهم وأمر الاعتقال، ولكنهم أخرسوه وسحبوه بالقوة إلى دمشق. 

ثم جاء الرعب ذات يوم شتوي بارد. قبل أسابيع من رأس سنة 1981 التقيت بفاتح جاموس في أحد شوارع مساكن برزة. 

“لدي خبر سيئ”، قال بصوت منخفض، من دون أن يسمح لعيناي أن تلتقطا عينيه. انتظر لحظة قبل أن يتابع: “أحد رفاقنا في اللاذقية استشهد تحت التعذيب”.

هذا المقال ضمن سلسلة مقالات للكاتب السوري وائل السوّاح يروي فيها سرديته عن حكاية اليسار السوري في سبعينات القرن الفائت، وهذا المقال يروي فيه تغيّرات رابطة العمل الشيوعي بعيد إطلاق سراح معظم أعضائها في شباط/ فبراير 1980.

18.05.2020
زمن القراءة: 7 minutes

أنستني غادة هزيمتي وأعادت إليّ توازني الذي فقدته صيف 1980، وعلّمتني أن الحياة ليست نضالاً وبيانات سياسية وصراعاً طبقياً وحسب، ولكنها ببساطة عيش وقهوة ومشاوير وحب.

لم تكن غادة العلي إذاً أوّل امرأة أحبّها، ولكن لعلّها كانت أوّل امرأة أحبّتني. أنستني غادة هزيمتي وأعادت إليّ توازني الذي فقدته صيف 1980، وعلّمتني أن الحياة ليست نضالاً وبيانات سياسية وصراعاً طبقياً وحسب، ولكنها ببساطة عيش وقهوة ومشاوير وحب. كانت بجسدها النحيل وبشرتها الشاحبة وعينيها العميقتين كأفقين ساحرين ما قبل شروق الشمس، ملاذاً لي من التعب والركض خلف المواعيد والنقاشات العاصفة المرهقة مع الرفاق. مع غادة كنت أنا نفسي، من دون تزيين أو تجميل أو تصنّع، وكانت تقبلني كما أنا، ليس لأنني مثقّف ولا لأنني مناضل ولا لأنني وسيم، بل لأنني أنا، بكل ضعفي وهشاشتي وتعبي وضآلتي. ومعها عشت عاماً جميلاً، هادئاً، ومنتجاً. كتبت دراستي الطويلة عن الإخوان المسلمين التي نشرتها في مجلة الشيوعي، وكتبت سلسلة من الدراسات النقدية، ونشرتها باسم عماد أبو المجد. 

كانت الصباحات تشرق أجملَ، والليالي تطول أحياناً حتى الفجر، حين نعود إلى البيت وقد بدأت الشمس تتسلّل خلسة إلى شوارع دمشق الغافية، كنت أشعر بطمأنينة ساجية تغلّف سياج القلب، واشعر بها تطمئن هي أيضاً، فيترَع القلب نشوة. كانت غادة عانت قبل ذلك من تجربة عشق فاشلة، وتركت مدينتها (مدينتنا) حمص إلى دمشق، ولم تكن قد تعرّفت بعد إلى مفاتيح هذه المدينة الكبيرة. عرّفتني غادة إلى أسرتها، ووقعت مباشرة في غرام هذه الأسرة. أمها طوّتني بسحرها وبساطتها وحبها الذي يغمر الجميع وذكائها اللماح الذي لا تبديه إلا عند الضرورة. وأسرني أخوها جمال، بفوضويته ولحيته السوداء الكثة وعينيه الصقريّتين وكسله المحبّب وطموحه الخيالي الذي ليس له من الواقع نصيب. وأما فتاة فكانت طيبتها بلا حدود، سوى حدودِ حفاظها على موفق، زوجِها الشاعر البوهيمي الذي كانت عيناه تجولان بسرعة خاطفة بحثاً عن الجمال، قبل أن تقعده نوبة قلبية طريح الفراش. حنان تجسيدٌ للمحبة والتفاني في سبيل أهلها وأصدقائها، بسمرة هادئة وعينين حنونتين، ووفاء الفنانة المرهفة الأنيقة الذكية والطموحة، التي ضحت – واعية أو غير واعية – بموهبتها من أجل أسرتها الجديدة. ظللت أذكر وقفتها على المسرح وحضورها فوق الخشبة بجبروت ورهافة وجمال. أما الصغيرتان رجاء وسلاف فكبرتا في غفلة من الزمن ومني، ففاجأني رجاء برزانة غريبة تأخذها بعيداً من العائلة، بينما ظلت سلاف الصغيرة تلك التلميذة المشاغبة التي كانت تعاكسني في كلّ ما أقول، لتثبت لي استقلالها ومكانتها في العائلة.

ولكن غادة، ككلّ النبلاء الذين لا يحتمل قلبهم ألم الحياة، كانت مصابة في قلبها. وتعاون قلبها المريض مع زواج فاشل برجل كان يريد أن يحمّل العالم ويحمّلها هي سبب فشله وعزلته وكآبته، ثمَ مع مرض خبيث آخر، لينهوا جميعا حياتها باكراً. في شارع الشيخ سعد المزدحم بالآدميين والباعة وعربات الخضار وباعة الشاورما، التقيت بحنان وسلاف. كانتا تتسوّقان أو تزجيان الوقت، ربما. سلّمتا بحرارة آل العلي المعروفة وكرمهم وابتسامتهم المشرقة الدائمة على وجوههم، والتي أخذوها على الأغلب عن أمهم الجميلة. سألتهما عن الحال وسألتاني، قبل أن أحوّل السؤال إلى غادة. ولسبب ما أحسست بقلق خاطف في أحشائي. كانت مرّت فترة طويلة جداً لم ألتقها. وكانت الصاعقة:

“غادة مريضة يا وائل”.

نظرت إليهما بتساؤل: “قلبها؟” سألت، فصمتتا دهراً، قبل أن تجيب حنان: “لا… إنه السرطان”. 

القلق الذي جاش في داخلي تحوّل غضباً وقهراً. وسلاف الصغيرة تطرق في الأرض ولا تريد أن تسمح لعينيها أن تلاقيا عينيّ. 

“تعال زرْنا!” قالت حنان.

“سآتي، طبعاً!”.

ولم أذهب.  بل ذهبت! وصلت إلى الحيّ التي كانت تسكنه في ضاحية قدسيا، وإلى والشارع والبناية، ووقفت أسفل البناء لحظات، أنظر إلى ضوء شاحب يتسلّل من شرفة بيت الصبايا، شعرت بالجُبن، وأحسست بركبتي تخذلانني. لم أستطع أن أراها هزيلة، شاحبة، متألّمة. كنت أشدّ جبناً وأكثرَ هشاشة من أن أواسيها وأرى روحها الوثّابة المكافحة وهي تذوي تحت ناظري، فاستدرت بضعف وأشرت إلى أول سيّارة أجرة وعدت صوب قلب المدينة، إلى ألفة بيتي وزوجتي وابنتي. بعد أشهر غادرت البلاد، وانقطعت أخبار غادة، إلى أن وصلتني رسالة من الصغيرة سلاف على “فايسبوك”، تطمئن علي، بعد غياب طويل.

“خيفان اسألك يا سلاف”، كتبتُ لها.

“لا تسأل. غادة راحت يا وائل. راحت وما قدرت ودّعها”. 

ولكن كان ثمّة ما ينغص عليَّ هناءتي مع غادة. فإلى جانب الشهور السمحة التي أمضيتها معها، كان ثمة تنظيم ينبغي أن أعمل من أجله. وفي تلك المرحلة بدت لي رابطة العمل الشيوعي وكأنها غير التنظيم الذي ساهمت لسنوات في تأسيسه وتنميته، فألفته وأحببته. والعمل الذي كان بالنسبة إلي نضالاً ونشاطاً أخلاقياً، هدفه تغيير الكون والوصول إلى عالم من الوئام والمحبة والسلام غدا الآن “سياسة”، بكل التفاصيل المتعلّقة بالسياسة، وككلّ تنظيم سياسي، بدأت الخلافات تتكّون بين الأفراد والاتجاهات، وراح كلّ فرد أو اتجاه محاولة دفع المركب نحو غايته السياسية. ولطالما كنت فاشلاً في إدارة اللعبة السياسية، ولطالما كرهت العمل في الكواليس، ليس عن شهامة دائماً، ولكن عن ضعف وانعدام حيلة. 

كان هدفي منذ إطلاق سراح رفاقنا في شباط/ فبراير 1980 أن ينعم التنظيم بسنة على الأقل من دون نزيف داخلي وخسائر في الكادر، تسلبه أفضل ناسه. هدنة ليستطيع أن يعيد تكوين نفسه فيرجع إلى قواعده الأولى كتنظيم ديموقراطي يقوم على مبادئ المساءلة والشفافية والانتخاب الدوري. في النظام الداخلي الذي أقرّه المؤتمرون في آب/ أغسطس 1976، كان عقد المؤتمر العام ينبغي أن يكون سنوياً، فجاءت حملات القمع المتوالية منذ آذار/ مارس 1977، لتجعل هذا الأمر ترفاً غير مقدور عليه. وبات البقاء على قيد الحياة هو الهدف، فلجأنا إلى التعيين لسدّ النزيف في الهيئات، وبدل انتخاب أعضاء اللجان المنطقية (والفرعية) من قبل مؤتمراتها، صرنا نعيّن أعضاء اللجان في المناطق تعييناً، وأحياناً كانت اللجنة كلُّها رفيقاً واحداً، تنقصه الخبرة السياسية والتنظيمية ولكنه يتمتع بشجاعة مواجهة الخطر، ويستطيع القفز من موعد إلى آخر، متجنباً خطر الاعتقال أو مؤجلاً إياه ما أمكن.  

طُرحت في الاجتماع مسألة عقد نوع من الهدنة مع النظام، ومسألة فتح خط للحوار معه، ومسألة تجميد إسقاط السلطة. ورفضت جميعها بأغلبية واسعة. وكان علينا، ونحن قلّة من الأعضاء بيننا أصلان عبد الكريم وكامل عبّاس وأحمد رزق ونهاد نحّاس، أن نبدأ عملاً مضنياً لنحوّل هذه الأقلية إلى أغلبية

هل كان ذلك خطأ أم صواباً؟ من أنا لأجيب على سؤال بهذا الحجم؟ وما الحدّ الفاصل بين العالمين؟ وما حجم البرزخ الذي يفصل بينهما؟ أكان علينا أن نقتنع منذ البداية أن مواجهة قمع النظام الفاشي فروسية لا معنى لها وأن علينا لا تقاوم مخرزاً؟ 

إن كان من صدمة لذيذة في الحياة فلا بدّ أنها تشبه إطلاق الرفاق في 4 شباط 1980. عصفت بي لذّة تشبه السكْر، وثملت بفكرة أن الحياة قد تعود إذاً لتسير في دورتها العادية، كنت أتلمس وجوه الرفاق بيدي، أخشى عليهم أن يفلتوا منهما ويعودوا إلى المعتقل من جديد. كانت الرابطة حتى ذلك التاريخ خسرت مئات الكوادر، وفي صباح 4 شباط تمّ إطلاق 106 رفاق، مع نحو 50 آخرين من تنظيمات يسارية أخرى، بينها الفصيل الشيوعي واتحاد الشغيلة وحزب العمال الشيوعي السوري وحركة النهوض، إضافة إلى اثنين من مناضلي الحزب الشيوعي- المكتب السياسي. وهجس في بالي أن تلك اللحظة قد تكون اللحظة التي كان التنظيم يحتاجها ليرمّم نفسه ويلملم جروحه. 

ومع ذلك لم نكن في التنظيم نرغب في قبول رشوة من النظام، فأصدرنا بياناً، شاركتُ في كتابته، فيه ترحيب بالإفراج ولكن تذكير بأن الإفراج لا يعني التنازل عن المبادئ التي قامت الرابطة عليها. ورحبنا بالرفاق المفرج عنهم، وقلنا لهم إن الرابطة “من خلال صمودكم وامتلاكها المنهج الماركسي- اللينيني انتزعت مشروعية وجودنا الثوري، كما انتزعنا مكسب خروجكم من المعتقلات”، ولكنّ بعضَ الضعفِ في الثقة الذي كان ينتابنا أحياناً جعلنا نسارع إلى درء أي شبهة يمكن أن تأتي من إطلاق سراح رفاقنا، فرفضنا أن تكون الرابطة “إسفيناً يدق في قلب الحركة الوطنية السورية”. 

وفي آذار 1980، عقدنا اجتماعاً موسّعاً لكل أعضاء الهيئة المركزية الحاليين والسابقين. كان الاجتماع عاطفياً أكثر منه اجتماعاً سياسياً لقيادة تنظيم يناضل لإسقاط السلطة. وطُرحت في الاجتماع مسألة عقد نوع من الهدنة مع النظام، ومسألة فتح خط للحوار معه، ومسألة تجميد إسقاط السلطة. ورفضت جميعها بأغلبية واسعة. وكان علينا، ونحن قلّة من الأعضاء بيننا أصلان عبد الكريم وكامل عبّاس وأحمد رزق ونهاد نحّاس، أن نبدأ عملاً مضنياً لنحوّل هذه الأقلية إلى أغلبية. على أن النظام لم يمهلنا. فبعد أسابيع من انعقاد اللجنة المركزية، اعتقل نهاد نحّاس. كان يحاول أن يصالح زوجته في بيت صديق مشترك، وما كادت الكؤوس تترع حتى دوهم البيت واعتقل نهاد وصديقه، وتبعه رهط كبير من الرفاق الذين ذهبوا فرادى. جفّان الحمصي والعميد (زياد مشهور) وحسام علوش وحسين محمد، ثمّ اثنان سيكسران قلبي من جديد: برهان الزعبي وجمال سعيد. سحبوا برهان من مقصف الجامعة، كان يتناول مع صديقة سندويشة جبنة وكأساً من الشاي بانتظار محاضرة صباحية. اقترب منه شخص مدني وطلب بطاقة هويته، سأله برهان ببراءة “مين حضرتك؟”، وطلب بطاقة هويته. انقض عليه عملاقان وجرّاه خارج المقصف، والطلاب، والصديقة، يتابعون المشهد برعب.

جمال أيضاً طلب هوية العناصر الذين اعتقلوه وأمر الاعتقال من النيابة. كان غادر قريته كفرية النائمة في جبال اللاذقية، عائداً إلى دمشق، بعد قرار لجنة العمل عودة الرفاق غير القياديين المتخفين إلى العلن. على مدخل المدينة، أوقفت دورية أمن الميكروباص الذي كان يقلّ أكثر من عشرين راكباً. وطلب العناصر من الشاب الذي يرتدي معطفاً بنياً أن ينزل مع أغراضه. نزل جمال، وكما علّمه الرفاق، أراد أن يخلق ضجّة حول اعتقاله، فطلب من عناصر الأمن هوياتهم وأمر الاعتقال، ولكنهم أخرسوه وسحبوه بالقوة إلى دمشق. 

ثم جاء الرعب ذات يوم شتوي بارد. قبل أسابيع من رأس سنة 1981 التقيت بفاتح جاموس في أحد شوارع مساكن برزة. 

“لدي خبر سيئ”، قال بصوت منخفض، من دون أن يسمح لعيناي أن تلتقطا عينيه. انتظر لحظة قبل أن يتابع: “أحد رفاقنا في اللاذقية استشهد تحت التعذيب”.

هذا المقال ضمن سلسلة مقالات للكاتب السوري وائل السوّاح يروي فيها سرديته عن حكاية اليسار السوري في سبعينات القرن الفائت، وهذا المقال يروي فيه تغيّرات رابطة العمل الشيوعي بعيد إطلاق سراح معظم أعضائها في شباط/ فبراير 1980.

18.05.2020
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية