fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

من فيتنام الى غزة… ملامح من أشكال الاحتجاج

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا أدري لماذا تستحضر ذاكرتي مشاهد أرشيفية عن فيتنام تحديداً كلما شاهدت الأخبار، علماً أن خلفية الوقائع المؤدية الى الحرب تختلف اختلافاً جذرياً. ربما تربط خلايا المخ بين الكلمات، ربما لأن الومضات التي أراها عن مجازر البارحة تتطابق مع ما يحدث اليوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتشابه ردود الفعل المناهضة للحرب في غزة ومثيلتها خلال الحرب الأميركية على فيتنام (1955-1973)، سواء على صعيد الأفراد أو الحركات المدنية والسياسية. كما يسلك الفنانون أيضاً دروب من سبقوهم في سبعينات القرن الماضي. ويبعث ما سبق بقليل من الأمل حين نرى وقع تأثيرهم من خلال كلماتهم وموسيقاهم آنذاك. يحضر هذا التشابه تساؤلًا عما إذا كان التاريخ يعيد نفسه ، أم نحن من نتفنّن في إعادته بشكل أكثر بشاعة وإيلاماً؟

منذ سنوات عدة ومغني الروك البريطاني روجر ووترز يعلن تضامنه مع القضية الفلسطينية، الذي على إثره (وقبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) مُنع من إقامة حفلات في مدينتي فرانكفورت وميونخ في ألمانيا بعد اتهامه بمعاداة السامية.

المفاجأة كانت على يد مغني الراب الأميركيّ ماكليمور، الذي أطلق أغنية “قاعة هند” على وسائل التواصل الاجتماعي، متحدياً المنع الممارس على المحتوى الفلسطينيّ، ليؤدي بعدها الأغنية أثناء حفل في برلين، متحدياً هذه المرة قرار السلطة الألمانية، ومعلناً هو الآخر تضامنه مع الشعب الفلسطيني.

أُنتجت أغان مماثلة خلال الحرب الفيتنامية، وربما اختلفت أجيال الموسيقيين، لكن اتفقت كلماتهم الداعية الى وقف الحرب وتركت تأثيراً ساحراً على الحشود، لا يعني هذا بالضرورة أن الفن رسالة، لكن من الممكن اعتباره وسيلة لإيصال رسائل كثيرة.

لا شيء جيد يأتي مع الحرب!

أدى التصاعد المستمر لحالة الاضطهاد والمقاومة في فيتنام إلى تدخّل القوات الأميركية بحجة وقف الصراع، وبعدها لاحتواء الشيوعية، لا أستطيع الجزم بأن بوب ديلان كان على دراية بكل حادثة مروّعة سبّبتها قوات بلاده، لكنه رأى بعينيه الظلم والتحيز اللذين يمارَسان على يد أبناء الأرض التي تزعم الحرية والديمقراطية والإنسانية. 

في عام 1962، استلهم ديلان ألحان أغنيته  Blowin’ in the wind  من No More Auction Block for Me، أغنية أفرو-أميركية قديمة غنّاها الفارّون من الاستعباد وقت إعلان قانون إلغاء العبودية. وسرعان ما أصبحت مع بداية الاحتجاجات الأميركية ضد الحرب في فيتنام عام 1965، “نشيداً” لحركات الحقوق المدنية.

بعدها، أصدر ديلان ألبومه The Times They Are A-Changing، صنع فيه نشيداً آخر للجماهير الشابة عبر أغنية حملت العنوان نفسه. أصبح أكثر وضوحاً في الرسالة التي ينشرها عبر ألحانه، يخاطب بكلماته فئات بعينها مثل أعضاء الكونغرس، الآباء والأمهات الذين يقفون عقبة بانتقادهم أبناءهم ممن يسعون الى عالم أفضل، يخبرهم أن النظام سيتلاشى عاجلًا أم آجلًا، إما بفعل الشباب ومحاولتهم تغيير ما يحدث، أو بفعل الوقت.

أتخيّل أحياناً أنه ربما استخدم كلماتها عشرات الطلاب -أصبحوا مئات الآلاف في ما بعد- أثناء سيرهم حول ميدان التايمز (نيويورك)، أو في سان فرانسيسكو، والمدن الأخرى. وربما صدحت أصواتهم في شوارع الولايات بالمقطع الذي يخاطب الكونغرس، أثناء إحراقهم بطاقات تجنيدهم اعتراضاً على سياساته، معلنين امتناعهم عن المشاركة في المذابح الأميركية. 

أحرق ذاته احتجاجاً على الحرب!

أحرق الجندي الأميركي آرون بوشنر نفسه أمام باب السفارة الإسرائيليّة في واشنطن، مردداً أثناء تصويره الفيديو الذي وثّق الحادثة: “أنا على وشك المشاركة في عمل احتجاجي متطرف، ولكن مقارنة بما شهده الناس في فلسطين على أيدي الإسرائيليين، فهو ليس متطرفاً على الإطلاق”.

الحادثة التي أثارت جدلاً واسعاً ليست الأولى من نوعها في الولايات المتحدة الأميركيّة، ففي عام 1965 واحتجاجاً على الحرب في فيتنام، أحرق الناشط الأميركي نورمان موريسون نفسه أمام البنتاغون، مستوحياً ذلك من الراهب التبتي تيتش كوانغ دوك الذي أحرق نفسه علناً عام 1963 احتجاجاً على القمع والاضطهاد الممارسين ضد طائفته، وتحديداً بعدما أُطلقت النار على تسعة متظاهرين عزَّل، حتى أصبحت أجسادهم حاويات بشرية لعشرات الطلقات الفارغة.

وقالت زوجة موريسون لاحقاً إن ما قام به زوجها هو “صرخة ضد القتل الذي كان يدمر حياوات الكثير من الشباب الفيتناميين والأميركيين”.

تمزيق التمثيل الرسميّ!

تطوّر التخلص من بطاقات التجنيد كطريقة للاعتراض على المشاركة في الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، ليتحوّل في يومنا الحالي إلى تخلّي رجال الدولة عن مناصبهم. بعد مرور أقل من أسبوعين على بداية أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ، استقال بول جوش (مدير سابق في مكتب الشؤون السياسية العسكرية بوزارة الخارجية الأميركية)  اعتراضاً على المشاركة في جرائم حكومته.

أشار جوش في بيان إستقالته، الى أنه لم يعد يتحمّل السكوت عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، بخاصة أن الحكومة تصرّ على تجاهل كل القوانين المنصوص عليها بالمعاهدات الإنسانية والمواثيق الدولية أثناء تزويدها إسرائيل بأسلحة تعرف يقيناً أنها ستؤدي الى قتل ملايين المدنيين.

لم يكن جوش الأول ممن يعترضون على سياسات الحكومة الأميركية. فأثناء الحرب الفيتنامية أُطلق لقب “محامي الشيطان” على المحامي جورج بال نائب وكيل وزارة الخارجية السابق، بسبب مناهضته الحرب ونتيجتها من قتلى وخسائر للجانبين. 

استهان الرؤساء وباقي أعضاء الحكومة بأراء بال وسخّفوها إلى أن اضطر للاستقالة بعدما فقد أي أمل في إيقاف ما يحدث، مشيراً إلى أن سياسات حكومته أدت إلى هزيمة حربية وأخلاقية وفقدان الشرف. واشتهر بال بأرائه التي أشارت إلى تحيز الحكومة الأميركية الى إسرائيل ضد العرب، ووُصف بأنه ناشط يسعى الى إضعاف الروابط بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.

سلام الوطن يُبنى على التضحية بأبنائه

في الرابع من أيار/ مايو 1970، قرر الحرس الوطني الأميركي إطلاق النار على مواطنيه من طلاب جامعة ولاية كينت كانوا يحتجون ضد الحرب في فيتنام، ما أسفر عن مقتل أربعة منهم: أليسون كراوس، جيفري ميلر، ساندرا شويير، وويليام شرودر، وإصابة تسعة آخرين. ليصدر بعدها إدوين ستار (مغنٍّ أميركي – أفريقي) أغنيته War التي تتمحور حول فكرة واضحة، هي أن “لا شيء جيد يأتي مع الحرب”. 

بعد عام واحد، أصدر مارفن غاي، أميركي – أفريقي أيضاً، ألبومه المؤثر What’s going on، الذي يروي فيه ما حدث على لسان محارب فيتنامي عاد بعد إنتهاء الحرب ليشهد ما أصاب المجتمع من أضرار امتدت الى سنوات بعد ذلك. وربما استطاع كلاهما وصف المعاناة والاقتراب منها بسبب رؤيتهما آلام شعبهما الذي اضطُهد وعُذِّب أفراده لقرون.

نجد السياسة القمعية نفسه في إسرائيل إيضاً، إذ تشير تصريحات أعضاء الكنيست والوزارات منذ بداية الحرب إلى وجوب استمرارها “حتى انتهاء آخر قطرة دم بآخر جسد فلسطيني موجود”، رغبةً في حماية الشعب الإسرائيلي من الخطر “الفلسطيني الإرهابي” كما وصفوه في خطاباتهم. 

وبسبب سياسة بنيامين نتانياهو، أصبح بعض المواطنون الإسرائيليون أنفسهم مناهضين للحرب ، منهم عائلات فقدت أبناءها، بمن فيهم شباب يناهضون الجرائم التي تحدث  ويسجنون لرفضهم المشاركة فيها.

أما في  الدول العربية التي تدّعي الدفاع عن القضية الفلسطينية، فوصل بها الأمر حدّ منع التظاهر نصرةً للحق الفلسطيني، أقربها دول الجوار لفلسطين كمصر والأردن. وبحسب تقارير منظمة العفو الدولية، احتجزت السلطات الأردنية ما يزيد عن 1500 شخص من المتظاهرين السلميين المؤيدين للقضية، وتخللت حملات الاعتقالات تلك انتهاكات إنسانية. 

“تألقت” الحكومة المصرية في حملاتها على المدنيين، وكانوا في غالبيتهم من الشباب، فما أن تبدأ تصفّح موقع منظمة العفو الدولية حتى تجد الجمل الأولى في الصفحة تناشد العالم بإيقاف حملات الاعتقال الجماعية في مصر. فالحكومة المصرية تقول إنها تدعم القضية من جانب، ومن جانب آخر تعتقل كل من تظهر عليه علامات التضامن، بالإضافة إلى السلبية المخزية التي تتعامل بها الحكومة مع الاعتداءات المستمرة على أراضيها. 

بعدما قصف المعبر المصري أكثر من أربع مرات، قُتل جنود مصريون على الحدود أثناء أدائهم واجبهم تجاه وطنهم، وأشارت إليهم الحكومة بصفتهم عناصر وامتنعت عن تقديرهم بأبسط الطرق الممكنة في حصولهم على جنازات مشرفة. وما زالت الحكومة المصرية تصر على أنها تعمل كل ما في استطاعتها لحماية الشعبين الفلسطيني والمصري من الحرب، فتتجاهل المذبحة المستمرة في فلسطين، وتعتقل وتخفي وتعذب كل من يذكرها في مصر.

أثر الفراشة لا يُرى… أثر الفراشة لا يزول

لا أدري لماذا تستحضر ذاكرتي مشاهد أرشيفية عن فيتنام تحديداً كلما شاهدت الأخبار، علماً أن خلفية الوقائع المؤدية الى الحرب تختلف اختلافاً جذرياً. ربما تربط خلايا المخ بين الكلمات، ربما لأن الومضات التي أراها عن مجازر البارحة تتطابق مع ما يحدث اليوم. أعجز عن تحديد ما إذا كان تكرار الوصول الى النتيجة نفسها ككارثة إنسانية يدل على الغباء البشري أم الرحمة الإلهية في أن طرق التعذيب والقتل لم تصبح أكثر ابتكاراً. 

في عالم بعيدٍ عن الروك والراب والسول والموسيقى الغربية، كتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته “يا فلسطينية” وغناها الشيخ إمام على ألحان عوده، ما ذكرني بأن خيوط القصتين تشابكت منذ سنين طوال. المأساة نفسها بدأت على بقعتين مختلفتين من الأرض في وقت مقارب، واحدة في نهاية الأربعينات من القرن الماضي والأخرى بعدها بسنوات قليلة، يقول مقطع من الأغنية:

“يا فلسطينيه، فيتنام عليكم البشاره

بالنصره طالعه من تحت ميت ألف غاره

والشمعة والعه والأميركان بالخساره

راجعين حيارى عقبال ما يحصل معاكو”

ما زالت الحركات المدنية تنشد الأغنيات الغربية والعربية نفسها، لأن إحدى القصتين انتهت قبل خمسين عاماً والأخرى مستمرة حتى اليوم، بعد 75 سنة. أتساءل متى تتحقق نبوءة نجم عن البشارة بانتهاء المعاناة الفلسطينية، غالباً هو نفسه لم يملك إجابة بتاريخ محدد تتحقق فيه. لكن بشكل أو بآخر، ترك إجابة انطوت بين ثنايا سطوره عن سؤالي المتعلق بالتاريخ ودوائره المفرغة، التي أدركت أنها دوائر اختلقها البشر، والحقيقة هي أن هناك خطوطاً مستقيمة، قد تتقاطع ، قد لا تلتقي البتة، الأكيد هو أن لكل منها نهاية.

04.07.2024
زمن القراءة: 7 minutes

لا أدري لماذا تستحضر ذاكرتي مشاهد أرشيفية عن فيتنام تحديداً كلما شاهدت الأخبار، علماً أن خلفية الوقائع المؤدية الى الحرب تختلف اختلافاً جذرياً. ربما تربط خلايا المخ بين الكلمات، ربما لأن الومضات التي أراها عن مجازر البارحة تتطابق مع ما يحدث اليوم.

تتشابه ردود الفعل المناهضة للحرب في غزة ومثيلتها خلال الحرب الأميركية على فيتنام (1955-1973)، سواء على صعيد الأفراد أو الحركات المدنية والسياسية. كما يسلك الفنانون أيضاً دروب من سبقوهم في سبعينات القرن الماضي. ويبعث ما سبق بقليل من الأمل حين نرى وقع تأثيرهم من خلال كلماتهم وموسيقاهم آنذاك. يحضر هذا التشابه تساؤلًا عما إذا كان التاريخ يعيد نفسه ، أم نحن من نتفنّن في إعادته بشكل أكثر بشاعة وإيلاماً؟

منذ سنوات عدة ومغني الروك البريطاني روجر ووترز يعلن تضامنه مع القضية الفلسطينية، الذي على إثره (وقبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) مُنع من إقامة حفلات في مدينتي فرانكفورت وميونخ في ألمانيا بعد اتهامه بمعاداة السامية.

المفاجأة كانت على يد مغني الراب الأميركيّ ماكليمور، الذي أطلق أغنية “قاعة هند” على وسائل التواصل الاجتماعي، متحدياً المنع الممارس على المحتوى الفلسطينيّ، ليؤدي بعدها الأغنية أثناء حفل في برلين، متحدياً هذه المرة قرار السلطة الألمانية، ومعلناً هو الآخر تضامنه مع الشعب الفلسطيني.

أُنتجت أغان مماثلة خلال الحرب الفيتنامية، وربما اختلفت أجيال الموسيقيين، لكن اتفقت كلماتهم الداعية الى وقف الحرب وتركت تأثيراً ساحراً على الحشود، لا يعني هذا بالضرورة أن الفن رسالة، لكن من الممكن اعتباره وسيلة لإيصال رسائل كثيرة.

لا شيء جيد يأتي مع الحرب!

أدى التصاعد المستمر لحالة الاضطهاد والمقاومة في فيتنام إلى تدخّل القوات الأميركية بحجة وقف الصراع، وبعدها لاحتواء الشيوعية، لا أستطيع الجزم بأن بوب ديلان كان على دراية بكل حادثة مروّعة سبّبتها قوات بلاده، لكنه رأى بعينيه الظلم والتحيز اللذين يمارَسان على يد أبناء الأرض التي تزعم الحرية والديمقراطية والإنسانية. 

في عام 1962، استلهم ديلان ألحان أغنيته  Blowin’ in the wind  من No More Auction Block for Me، أغنية أفرو-أميركية قديمة غنّاها الفارّون من الاستعباد وقت إعلان قانون إلغاء العبودية. وسرعان ما أصبحت مع بداية الاحتجاجات الأميركية ضد الحرب في فيتنام عام 1965، “نشيداً” لحركات الحقوق المدنية.

بعدها، أصدر ديلان ألبومه The Times They Are A-Changing، صنع فيه نشيداً آخر للجماهير الشابة عبر أغنية حملت العنوان نفسه. أصبح أكثر وضوحاً في الرسالة التي ينشرها عبر ألحانه، يخاطب بكلماته فئات بعينها مثل أعضاء الكونغرس، الآباء والأمهات الذين يقفون عقبة بانتقادهم أبناءهم ممن يسعون الى عالم أفضل، يخبرهم أن النظام سيتلاشى عاجلًا أم آجلًا، إما بفعل الشباب ومحاولتهم تغيير ما يحدث، أو بفعل الوقت.

أتخيّل أحياناً أنه ربما استخدم كلماتها عشرات الطلاب -أصبحوا مئات الآلاف في ما بعد- أثناء سيرهم حول ميدان التايمز (نيويورك)، أو في سان فرانسيسكو، والمدن الأخرى. وربما صدحت أصواتهم في شوارع الولايات بالمقطع الذي يخاطب الكونغرس، أثناء إحراقهم بطاقات تجنيدهم اعتراضاً على سياساته، معلنين امتناعهم عن المشاركة في المذابح الأميركية. 

أحرق ذاته احتجاجاً على الحرب!

أحرق الجندي الأميركي آرون بوشنر نفسه أمام باب السفارة الإسرائيليّة في واشنطن، مردداً أثناء تصويره الفيديو الذي وثّق الحادثة: “أنا على وشك المشاركة في عمل احتجاجي متطرف، ولكن مقارنة بما شهده الناس في فلسطين على أيدي الإسرائيليين، فهو ليس متطرفاً على الإطلاق”.

الحادثة التي أثارت جدلاً واسعاً ليست الأولى من نوعها في الولايات المتحدة الأميركيّة، ففي عام 1965 واحتجاجاً على الحرب في فيتنام، أحرق الناشط الأميركي نورمان موريسون نفسه أمام البنتاغون، مستوحياً ذلك من الراهب التبتي تيتش كوانغ دوك الذي أحرق نفسه علناً عام 1963 احتجاجاً على القمع والاضطهاد الممارسين ضد طائفته، وتحديداً بعدما أُطلقت النار على تسعة متظاهرين عزَّل، حتى أصبحت أجسادهم حاويات بشرية لعشرات الطلقات الفارغة.

وقالت زوجة موريسون لاحقاً إن ما قام به زوجها هو “صرخة ضد القتل الذي كان يدمر حياوات الكثير من الشباب الفيتناميين والأميركيين”.

تمزيق التمثيل الرسميّ!

تطوّر التخلص من بطاقات التجنيد كطريقة للاعتراض على المشاركة في الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، ليتحوّل في يومنا الحالي إلى تخلّي رجال الدولة عن مناصبهم. بعد مرور أقل من أسبوعين على بداية أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ، استقال بول جوش (مدير سابق في مكتب الشؤون السياسية العسكرية بوزارة الخارجية الأميركية)  اعتراضاً على المشاركة في جرائم حكومته.

أشار جوش في بيان إستقالته، الى أنه لم يعد يتحمّل السكوت عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، بخاصة أن الحكومة تصرّ على تجاهل كل القوانين المنصوص عليها بالمعاهدات الإنسانية والمواثيق الدولية أثناء تزويدها إسرائيل بأسلحة تعرف يقيناً أنها ستؤدي الى قتل ملايين المدنيين.

لم يكن جوش الأول ممن يعترضون على سياسات الحكومة الأميركية. فأثناء الحرب الفيتنامية أُطلق لقب “محامي الشيطان” على المحامي جورج بال نائب وكيل وزارة الخارجية السابق، بسبب مناهضته الحرب ونتيجتها من قتلى وخسائر للجانبين. 

استهان الرؤساء وباقي أعضاء الحكومة بأراء بال وسخّفوها إلى أن اضطر للاستقالة بعدما فقد أي أمل في إيقاف ما يحدث، مشيراً إلى أن سياسات حكومته أدت إلى هزيمة حربية وأخلاقية وفقدان الشرف. واشتهر بال بأرائه التي أشارت إلى تحيز الحكومة الأميركية الى إسرائيل ضد العرب، ووُصف بأنه ناشط يسعى الى إضعاف الروابط بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.

سلام الوطن يُبنى على التضحية بأبنائه

في الرابع من أيار/ مايو 1970، قرر الحرس الوطني الأميركي إطلاق النار على مواطنيه من طلاب جامعة ولاية كينت كانوا يحتجون ضد الحرب في فيتنام، ما أسفر عن مقتل أربعة منهم: أليسون كراوس، جيفري ميلر، ساندرا شويير، وويليام شرودر، وإصابة تسعة آخرين. ليصدر بعدها إدوين ستار (مغنٍّ أميركي – أفريقي) أغنيته War التي تتمحور حول فكرة واضحة، هي أن “لا شيء جيد يأتي مع الحرب”. 

بعد عام واحد، أصدر مارفن غاي، أميركي – أفريقي أيضاً، ألبومه المؤثر What’s going on، الذي يروي فيه ما حدث على لسان محارب فيتنامي عاد بعد إنتهاء الحرب ليشهد ما أصاب المجتمع من أضرار امتدت الى سنوات بعد ذلك. وربما استطاع كلاهما وصف المعاناة والاقتراب منها بسبب رؤيتهما آلام شعبهما الذي اضطُهد وعُذِّب أفراده لقرون.

نجد السياسة القمعية نفسه في إسرائيل إيضاً، إذ تشير تصريحات أعضاء الكنيست والوزارات منذ بداية الحرب إلى وجوب استمرارها “حتى انتهاء آخر قطرة دم بآخر جسد فلسطيني موجود”، رغبةً في حماية الشعب الإسرائيلي من الخطر “الفلسطيني الإرهابي” كما وصفوه في خطاباتهم. 

وبسبب سياسة بنيامين نتانياهو، أصبح بعض المواطنون الإسرائيليون أنفسهم مناهضين للحرب ، منهم عائلات فقدت أبناءها، بمن فيهم شباب يناهضون الجرائم التي تحدث  ويسجنون لرفضهم المشاركة فيها.

أما في  الدول العربية التي تدّعي الدفاع عن القضية الفلسطينية، فوصل بها الأمر حدّ منع التظاهر نصرةً للحق الفلسطيني، أقربها دول الجوار لفلسطين كمصر والأردن. وبحسب تقارير منظمة العفو الدولية، احتجزت السلطات الأردنية ما يزيد عن 1500 شخص من المتظاهرين السلميين المؤيدين للقضية، وتخللت حملات الاعتقالات تلك انتهاكات إنسانية. 

“تألقت” الحكومة المصرية في حملاتها على المدنيين، وكانوا في غالبيتهم من الشباب، فما أن تبدأ تصفّح موقع منظمة العفو الدولية حتى تجد الجمل الأولى في الصفحة تناشد العالم بإيقاف حملات الاعتقال الجماعية في مصر. فالحكومة المصرية تقول إنها تدعم القضية من جانب، ومن جانب آخر تعتقل كل من تظهر عليه علامات التضامن، بالإضافة إلى السلبية المخزية التي تتعامل بها الحكومة مع الاعتداءات المستمرة على أراضيها. 

بعدما قصف المعبر المصري أكثر من أربع مرات، قُتل جنود مصريون على الحدود أثناء أدائهم واجبهم تجاه وطنهم، وأشارت إليهم الحكومة بصفتهم عناصر وامتنعت عن تقديرهم بأبسط الطرق الممكنة في حصولهم على جنازات مشرفة. وما زالت الحكومة المصرية تصر على أنها تعمل كل ما في استطاعتها لحماية الشعبين الفلسطيني والمصري من الحرب، فتتجاهل المذبحة المستمرة في فلسطين، وتعتقل وتخفي وتعذب كل من يذكرها في مصر.

أثر الفراشة لا يُرى… أثر الفراشة لا يزول

لا أدري لماذا تستحضر ذاكرتي مشاهد أرشيفية عن فيتنام تحديداً كلما شاهدت الأخبار، علماً أن خلفية الوقائع المؤدية الى الحرب تختلف اختلافاً جذرياً. ربما تربط خلايا المخ بين الكلمات، ربما لأن الومضات التي أراها عن مجازر البارحة تتطابق مع ما يحدث اليوم. أعجز عن تحديد ما إذا كان تكرار الوصول الى النتيجة نفسها ككارثة إنسانية يدل على الغباء البشري أم الرحمة الإلهية في أن طرق التعذيب والقتل لم تصبح أكثر ابتكاراً. 

في عالم بعيدٍ عن الروك والراب والسول والموسيقى الغربية، كتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته “يا فلسطينية” وغناها الشيخ إمام على ألحان عوده، ما ذكرني بأن خيوط القصتين تشابكت منذ سنين طوال. المأساة نفسها بدأت على بقعتين مختلفتين من الأرض في وقت مقارب، واحدة في نهاية الأربعينات من القرن الماضي والأخرى بعدها بسنوات قليلة، يقول مقطع من الأغنية:

“يا فلسطينيه، فيتنام عليكم البشاره

بالنصره طالعه من تحت ميت ألف غاره

والشمعة والعه والأميركان بالخساره

راجعين حيارى عقبال ما يحصل معاكو”

ما زالت الحركات المدنية تنشد الأغنيات الغربية والعربية نفسها، لأن إحدى القصتين انتهت قبل خمسين عاماً والأخرى مستمرة حتى اليوم، بعد 75 سنة. أتساءل متى تتحقق نبوءة نجم عن البشارة بانتهاء المعاناة الفلسطينية، غالباً هو نفسه لم يملك إجابة بتاريخ محدد تتحقق فيه. لكن بشكل أو بآخر، ترك إجابة انطوت بين ثنايا سطوره عن سؤالي المتعلق بالتاريخ ودوائره المفرغة، التي أدركت أنها دوائر اختلقها البشر، والحقيقة هي أن هناك خطوطاً مستقيمة، قد تتقاطع ، قد لا تلتقي البتة، الأكيد هو أن لكل منها نهاية.