مشهدان وردا بالتزامن؛ أحدهما من اقتحام فصائل المعارضة السوريّة المسلَّحة قصور الأخوين الفارّ والمُتخفي بشار وماهر الأسد، والآخر من الأقبية المعروفة والمُكتشَفة حديثاً في مسلخ صيدنايا. وبينما عرض الأول مئات الأمتار من أنظمة الإضاءة والتهوئة الحديثة والمكاتب المحصَّنة وأحزمة دحرجة الصناديق الثقيلة والغرف العصيّة على الفتح، عرض الثاني سراديب الموت، حيث تسود الرطوبة والصدأ وتصبح الإنارة رفاهية ولا يعبق سوى الدم والموت.
يختلف المشهدان بكل شيء، هما جوهر التضاد ومرآة سوريا الأسد التي ظننا أننا نعرفها جيداً، لكنها لم تفشل بالإفصاح عن الكثير خلال الأيام الماضية. لكن العامل الذي جمعهما هو النفق، الممر الطويل تحت الأرض، والذي، بطريقةٍ ما، لم يوفر شرط الحياة لمن قُدّر لهم السير عبره.
والحال، أنَّ الأنفاق في منطقة المشرق العربي لم تعد تقل أهمية عمّا يعلوها، وباتت حكايا الحياة الرديفة تحت الأرض هي المتن وما فوقها الهامش. ففي منتصف الحرب الإسرائيلية على المنطقة، رفع حزب الله في لبنان شعار “جبالنا حصوننا” وقدَّم للعالم منشأة “عماد 4” التي أظهرت ما بدا أميالاً من الأنفاق التي تقطعها الساحات والمقار العسكرية. بينما ذهب المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري في اليوم الأول من عملية الجيش الإسرائيلي البرية في جنوب لبنان، بالحكاية الى ما هو أبعد من ذلك، وقال إن القوات البرية عثرت على خرائط يعتزم حزب الله استخدامها لـ “احتلال إسرائيل”. واليوم بعد أشهر، لم تُحصّن تلك الأنفاق قيادات حزب الله الذين تساقطوا واحداً تلو الآخر وتحت “سابع أرض” – بشكلٍ حرفي – وبالطبع لم تنطلق منها أي عملية، من أي شكل، ضد إسرائيل.
وفي 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، خلال فترة تحديد المواقف في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، أخذ صحافي مكسيكي معروف بتغطيته قضايا تهريب المخدرات، على عاتقه إشراك العصابات في الصراع، رمزياً على الأقل، ومن بوابة الأنفاق. ففي ذلك اليوم، نشر سول برينديدو سلسلة من المقالات زعم فيها أن أعضاء كارتيل “سينالوا” ــ الذي قاده لعقود خواكين “إل تشابو” جوزمان الغني عن التعريف ــ عقدوا تحالفاً مع حركة حماس وتلقوا التدريبات على أيدي أعضائها لبناء شبكة أنفاق تهريب المخدرات التي تهدد أمن أميركا القومي.
إقرأوا أيضاً:
لم تؤخذ الادعاءات التي نسبها إلى “أصدقاء في فلسطين” على محمل الجد على أية حال، كما أنَّ أنفاق التهريب المكسيكية موجودة منذ ما قبل تأسيس الحركة نفسها، وأنَّ الإدارات الأميركية تناوبت على نفي ادعاءاتٍ من هذا الشكل كثُرت في أيام سطوة التنظيمات الجهادية كالقاعدة وداعش. فيما تبيَّن على الهامش الآخر، أنَّ شبكة “ميترو غزة” التي لطالما جعل الاحتلال منها بعبعاً، كانت أقل بكثير من الـ 500 كيلومتر التي تبجّح بها اسماعيل هنية عام 2016.
إذاً، نحن أمام ظاهرة نُسجت حولها الحكايا والأوهام، أُريد منها الردع والنجاة والتحذير، إلا أن الموت وحده هو من أتى منها. لذا، فإن فهمنا الجماعي لهذه الأنفاق، كما هو الحال مع معظم الظواهر العابرة للحدود الوطنية الحقيقية التي تنطوي على اقتصادات غير رسمية، مشوَّه، بسبب الروايات السائدة حول الدول الأمنية والإتجار غير المشروع والإرهاب، وتوسطها التغطية الصحافية التي تستند بدورها إما إلى الشائعة التي “تبيع” المشاهدات – كما شهدنا مع تسمّر كبريات وسائل الإعلام أمام سجن صيدنايا بحثاً عن المزيد من الأنفاق والمسالخ غير الموجودة أساساً تحت الأرض، بينما كان الجولاني ورجاله يختطفون الدولة وإسرائيل تدمر ما بقي منها – أو إلى معلومات رسمية، تأتي في كثير من الأحيان مباشرة من المؤسسات العسكرية التي تقدم نفسها الرواية المرجوّة من تلك الظواهر ذاتها.
تحتل الأنفاق مكانة خاصة في الخيال عندما نبحث عن المستحيل. فبعيداً من أي صلة بالديكتاتوريات أو إدارة العمليات العسكرية أو نقل السلاح أو تهريب المخدرات والبشر، كانت تُرى كممر ضروري للتنوير واكتشاف الذات والحرية. في رواية ألكسندر دوماس التي تعود إلى القرن التاسع عشر بعنوان “كونت دي مونت كريستو”، يحاول إدموند دانتيس والأب فاريا حفر طريقهما للخروج من السجن الظالم الذي فرضته عليهم حكومة استبدادية تجرّم الفقراء والمعارضين السياسيين. حفر نفق هو عمل من أعمال المقاومة وفرصة للتعليم، إذ ينقل فاريا المتعلم الحكمة إلى دانتيس بينما يشقّان الأرض الصلبة.
آندي دوفرين أيضاً، استلزم عليه أن يحفر لنفسه طريقاً للخروج من السجن في فيلم “الخلاص من شاوشانك” (1994)، والذي يعتبر إعادة سرد لرواية دوماس الكلاسيكية. فبعد إدانته ظلماً بقتل زوجته، يفر آندي من نظام عقابي حوّله مدير السجن إلى أداة للنصب والاحتيال لتحقيق مكاسبه الشخصية، بينما يدّعي تمسّكه بالمسيحية. ومثله كمثل دانتيس، يحفر آندي النفق بصبر دام سنوات، فيتصالح مع أخطائه وتجاوزاته الماضية بينما يحسن الظروف المعيشية الهشة لزملائه السجناء. وفي النهاية، تؤدي حريته إلى انهيار البنية الإجرامية للسجن. وبعد أن ينكشف أمام وسائل الإعلام، ينتحر مدير السجن، وتتحقق العدالة بفضل هروب آندي ونفَقه.
كما يشكل النفق الملاذ الأخير للبقاء على قيد الحياة ضد عنف الدولة في رواية “البؤساء” (1862) لفيكتور هوغو، عندما يحمل السجين السابق جان فالجان صهره الجريح عبر نظام الصرف الصحي الباريسي بعدما قضى الجنود على انتفاضة طلابية انضم إليها ذاك الشاب المثالي. وحتى ما وراء النجوم، سمح نفق طبيعي لقادة المتمردين الأبطال بالهروب من موت محقَّق في أحد أجزاء سلسلة حرب النجوم “الجيداي الأخير” (2017)، وعندما كان الكون على وشك التدمير بفعل طرقعة أصابع ثانوس في “المنتقمون: نهاية اللعبة” (2018)، وجد الأبطال سبيل إنقاذ الكون في “نفقٍ” كموميّ.
يخبرني أحد الأصدقاء بتهكّم بعد ورود المشاهد المروّعة من السجون الأسدية، إنه بات واضحاً الآن سبب تعثر مشروع “مترو دمشق” الذي بدأ النظام المخلوع الترويج له منذ عام 2006 على الأقل. إذاً، هناك حاجة ملحّة الى استعادة مفهوم النفق من تصوير وسائل الإعلام والترفيه، ومصادرته كذلك من الخطاب الرسمي، لفصله عن السرديات الأمنية الشاملة. نحن بحاجة إلى السير عبر الأنفاق مرة أخرى كمسارات للعصيان والتنوير والحرية. كيف سيكون الأمر إذا تركنا وراءنا النماذج المتهالكة للمرويّات الشعبية والشعبوية وتصريحات الساسة ووسائل الإعلام السائدة، وقرأنا بدلاً من ذلك من الأنفاق نفسها، وليس عنها؟.