ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

من نيويورك إلى بيروت: التغيير لا يموت لكنه يحتاج من يحملُه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أثبتت حملة زهران ممداني أن المال السياسي لم يعد ضمانة للنصر، بل قد يغدو عبئاً أخلاقياً في زمن يتوق فيه ناخبون كثر الى سياسة تُمارَس من الأسفل لا تُفرَض من الأعلى. بهذا المعنى، جاء انتصار ممداني كمواجهة بين نمطين من السياسة: أحدهما عتيق ومُحتَرف وثري، والآخر ناشئ ومُلهم، لكنه آخذ في التوسع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

احتفلت أوساط التقدميين الديمقراطيين في نيويورك بفوز الشاب زهران ممداني، الأميركي المسلم من أصل هندي بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات لمنصب عمدة نيويورك. 

ممداني، المعروف بمواقفه المؤيدة للعدالة الاجتماعية والسياسية، لا يمثل فقط انتصار فرد، بل هو نجاح لمسار سياسي عميق بدأ منذ سنوات داخل التيارات اليسارية والشعبية في الولايات المتحدة. في وجه صعود اليمين ومهادنة الوسط، استطاع خطاب شبابي حيوي واضح، جريء، ومنظّم، أن يُقنع الناخبين بأن البديل ممكن.

لكن ما يجعل هذا الفوز أكثر دلالة هو السياق الذي تحقق فيه، فقد واجه ممداني ماكينة انتخابية ضخمة يقودها الحاكم السابق أندرو كومو، الذي ضخّ ملايين الدولارات في حملته عبر إعلانات تلفزيونية واسعة حاولت تهشيم ممداني والسيطرة على المساحة الإعلانية الأكبر على الشاشات.

بدا كومو وكأنه يعيد تدوير أدوات السلطة نفسها التي أطاحت به، متكئاً على المال والعلاقات والنفوذ الإعلامي، بينما اعتمد ممداني على طاقة جماعية محلية الطابع: محتوى فيديوهات تطوعية، سرديات شخصية على السوشيال ميديا، وظهور ذكي ودافئ وصادق تميّز بقدرته على مخاطبة الناس من حيث هم، لا من فوقهم.

أثبتت حملة زهران ممداني أن المال السياسي لم يعد ضمانة للنصر، بل قد يغدو عبئاً أخلاقياً في زمن يتوق فيه ناخبون كثر الى سياسة تُمارَس من الأسفل لا تُفرَض من الأعلى. بهذا المعنى، جاء انتصار ممداني كمواجهة بين نمطين من السياسة: أحدهما عتيق ومُحتَرف وثري، والآخر ناشئ ومُلهم، لكنه آخذ في التوسع.

حملة ممداني بدأت بموظفين اثنين، واليوم نجحت في استقطاب خمسين ألف متطوع زاروا نحو مليون ونصف المليون منزل في نيويورك لإطلاعهم على البرنامج الانتخابي، وأجروا نحو مليونين ونصف المليون اتصال هاتفي بالناخبين للترويج للحملة وأهدافها… 

“هذه قصة ليست لمجرد بعث الأمل بل لتحويله الى مؤسسة” يقول ممداني في توصيفه جهد حملته وحجمها، شارحاً أسباب نجاحه في جذب ناخبين من خلفيات متنوعة: البيض المتعلمين، الأميركيين الآسيويين، المسلمين، اليهود التقدميين وأصحاب الأصول اللاتينية، بل هو حقق اختراقًا بين الطبقة المتوسطة في أحياء مثل كوينز وبروكلين.

أجاد المرشح الذي استنفرت أوساط الجمهوريين للتخويف منه، تقديم نفسه ومشروعه في فيديوهات ذكية وانتشار رقمي وحملات تواصل اجتماعي موجّهة بلغات متعددة.

نجاح مثل هذا المرشح ليس فلتة، بل هو نتاج عمل تراكمي، وتنظيم على الأرض، وخطاب قوي جذاب استغل مساحات السوشيل ميديا ليلامس يوميات الناس من دون التنازل عن المبادئ. اختار ممداني ملفات محددة تلامس فئات واسعة تتعلق بكلفة السكن والنقل وتخفيض فاتورة السوبرماركت من دون أن يخشى من إعلان مواقف واضحة في قضايا العدالة والحريات، تحديداً في موضوع الحرب الإسرائيلية على غزة وفي الموقف من الفجوات الاقتصادية الهائلة في النظام الرأسمالي.

ما يجعل تجربة ممداني ذات قيمة خارج حدود نيويورك، هو أنها لا تُروى فقط على سبيل الإلهام، بل باعتبارها نموذجاً عملياً لكيفية تحويل لحظة احتجاج إلى مشروع سياسي. نموذجٌ لا يعتمد على “الكاريزما” الفردية وحدها أو التمويل الضخم، بل على بناء رواية سياسية قابلة للتوسّع والتنظيم والمأسسة.

وهذا بالضبط ما نحتاج أن نتأمله ونحن نعيد النظر في تجربة “التغيير” في لبنان. وهذا الدرس ربما نحتاج أن نتعلّم منه.

دروس من نيويورك إلى بيروت

لماذا علينا ربما أن نهتم في لبنان بقصة نجاح ممداني؟ ليس فقط قصته الملهمة، بل بنية حملته التنظيمية والخطابية والسياسية. فقد نجح في تحويل لحظة غضب إلى مؤسسة، وسردية احتجاج إلى مشروع سياسي قابل للتطبيق. وهذا بالضبط ما أخفقنا في تحقيقه حتى الآن هنا.

 الفرق لا يكمن فقط في طبيعة الأنظمة أو حجم النفوذ أو في استعداد الرأي العام لمثل هذا النوع من الشخصيات، بل في مدى وضوح الرؤية، وتنظيم الطاقات، والقدرة على الصمود أمام حملات التخويف والتشهير. فهل يمكن لنا، بعد الانتكاسة، أن نعيد النظر في ما لم نفعله، بدل فقط الحزن على ما لم يتحقق؟

من يتابع النقاشات العامة في لبنان سواء تلك التي تتم عبر الإعلام أو في حلقات نقاش مباشرة ضيقة أو عبر السوشيال ميديا، سيلحظ كم أن شعار “التغيير” الذي شغل الحياة اللبنانية منذ العام 2019 بات وكأنه عبء سياسي يحاول البعض التخلّص منه. 

يتنصل كثيرون في السياسة والإعلام والمجتمع المدني اليوم، من هذه الكلمة التي حكمت الحياة العامة منذ انتفاضة 17 تشرين، متذرعين بخيبة الانتخابات البلدية الأخيرة وتراجع تأثير قوى التغيير التي كانت رافعة سياسية وأخلاقية لقضايا مواجهة الفساد والسلاح والحريات. صار بعض الطامحين إلى مواقع تمثيلية جديدة يفضّلون كلمات أكثر مواربة، أقل التزاماً، وأقرب إلى التوافق وعدم الصدام، والأهم دفن شعار “التغيير” الذي كان عنواناً لحراك سياسي شعبي ضد الطبقة السياسية وفسادها. 

على رغم وجاهة القول بضرورة مراجعة الشعارات وأسباب الانتكاسة وتحديد المسؤوليات، لكن رفع شعار “الواقعية” في مواجهة ضخامة حملات الشيطنة والدعاية التي تعتمدها القوى الحزبية البارزة وإعلامها، هو بمثابة قبول بتفريغ السياسة من معناها. 

أليست السياسة في جوهرها فعل خلق وبناء وليست مجرد احتجاج؟!

السياسة هي تخيّل وعمل لشكل آخر للحياة غير تلك التي نتخبط بها. من هنا لا أعتقد أن المقاربة القائمة على أن مشروع التغيير قد انتهى حقيقية. المشكلة تكمن في الفشل في جعل هذا التغيير مشروعاً سياسياً طويل النفس، عوض أن يبقى مجرد موجة عاطفية موسمية.

حين انتُخب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة وإعلانه خطاب قسم متقدماً في عناوينه، ولاحقاً وصول القاضي نوّاف سلام الى رئاسة الحكومة، بدا أنّ مناخ التغيير يكتنف الحدثين وأنه لحظة انتصار قصوى لهذا المدّ.

من الصعب الجزم بأسباب تراجع هذا الزخم كله في أشهر قليلة ليصبح لبنان وكأنه عالق في لحظة مراوحة سلبية. العالم يطالب العهد والحكومة بالمبادرة وبت مسألة حصرية السلاح والإصلاح، وهي ملفات كبرى باتت أسيرة مقاربات عادية لوضع بالغ الاستثنائية. أعادت القوى الحزبية التقليدية وفي مقدمها حزب الله، تموضعها، وشرعت في فرض توازناتها بما تملكه من أوراق ضغط سياسي وإعلامي. 

بعد طول ضبط انفجر النقاش حول عناوين دور الدولة واحتكار السلاح والعنف والحرب ومسار التعافي الاقتصادي والسعي إلى صورة جديدة عن لبنان آخر في منطقة تعيش على فوهة بركان لم يستقر بعد. ما يشوب المرحلة على المستوى الرسمي هو ضعف المبادرة والتريث في التصدي للأساسيات مثل قضية سلاح حزب الله، بحجج مثل الخوف من صدامات مسلحة والحرج من الواقع الذي فرضته إسرائيل بالقوة بعد الحرب والاحتلال… 

في ملف الإصلاح المالي، استعادت الأحزاب الكبرى المبادرة سواء بالترهيب والشيطنة الإعلامية أو عبر الاستنفار المالي والمذهبي لا فرق. بدا أن هذه الأحزاب تعيد ترتيب أوراقها، وهي نجحت فعلاً في الانتخابات البلدية الأخيرة وتحديداً في بيروت في رفع شعارات مذهبية مثل “المناصفة” لتخوض معركة وتربح فيها. 

أين موقع شعار “التغيير” من كل ما سبق؟

لا يبدو أن التخلّي عن مبادئ التغيير، من محاسبة الفاسدين، إلى المطالبة بالسيادة الفعلية، إلى الدفاع عن الحريات، ترفاً، بل على العكس، تبدو الحاجة إليها أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، فالتغيير لم يفشل… بل لم يُستكمل.

ما سقط في الانتخابات البلدية الأخيرة ليس “فكرة التغيير” بل نجاح حملات التخويف من التغيير، والانتكاسة كانت متوقعة في ظل ميزان قوى مختلّ وفي ظل ضعف واضح في التكتيك والتنظيم وخطط المواجهة، والأهم في ظل حملة شيطنة إعلامية وسياسية كبرى لكن هذا لا يعني نهاية المعركة.

ما هو ملحٌّ اليوم في لبنان ليس التخلّي عن شعار التغيير، بل الانتقال من الشعار إلى المشروع، ومن الرفض والاحتجاج إلى البناء وتحديد الملفات.

لنفترض أن التغيير كمصطلح فقد بريقه، وأن الناس تريده بلغة جديدة، لا بأس. فلنسمّه “البناء”، أو “الإنقاذ”، أو “التحول الديمقراطي”، أو أي اسم آخر. لكن لا ننسى جوهره: محاسبة الفاسدين، حماية القضاء، ضمان الحريات، انتزاع الدولة من قبضة الميليشيا المسلحة، الدفاع عن كرامة الناس وعن حقوقها، وإعادة تعريف السياسة كفعل شجاع لا كشطارة انتخابية. هذا التحول اللغوي ممكن، بل ضروري، شرط ألا يكون غطاءً للتراجع، بل رافعة للتراكم. 

تجربة ممداني تذكّرنا بأن لا معركة خاسرة نهائياً، وأن التغيير ليس موضة انتخابية بل مسار سياسي طويل.
ومن يهرب من هذا المسار، لا يهرب من الفشل، بل من المسؤولية. فلنُعد كتابة القصة من جديد، ولكن هذه المرة، من دون أوهام…فإما أن نحمل مشروعاً صلباً يواجه النظام القائم، أو نكتفي بأن نكون صدًى باهتاً له.

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
02.07.2025
زمن القراءة: 6 minutes

أثبتت حملة زهران ممداني أن المال السياسي لم يعد ضمانة للنصر، بل قد يغدو عبئاً أخلاقياً في زمن يتوق فيه ناخبون كثر الى سياسة تُمارَس من الأسفل لا تُفرَض من الأعلى. بهذا المعنى، جاء انتصار ممداني كمواجهة بين نمطين من السياسة: أحدهما عتيق ومُحتَرف وثري، والآخر ناشئ ومُلهم، لكنه آخذ في التوسع.

احتفلت أوساط التقدميين الديمقراطيين في نيويورك بفوز الشاب زهران ممداني، الأميركي المسلم من أصل هندي بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات لمنصب عمدة نيويورك. 

ممداني، المعروف بمواقفه المؤيدة للعدالة الاجتماعية والسياسية، لا يمثل فقط انتصار فرد، بل هو نجاح لمسار سياسي عميق بدأ منذ سنوات داخل التيارات اليسارية والشعبية في الولايات المتحدة. في وجه صعود اليمين ومهادنة الوسط، استطاع خطاب شبابي حيوي واضح، جريء، ومنظّم، أن يُقنع الناخبين بأن البديل ممكن.

لكن ما يجعل هذا الفوز أكثر دلالة هو السياق الذي تحقق فيه، فقد واجه ممداني ماكينة انتخابية ضخمة يقودها الحاكم السابق أندرو كومو، الذي ضخّ ملايين الدولارات في حملته عبر إعلانات تلفزيونية واسعة حاولت تهشيم ممداني والسيطرة على المساحة الإعلانية الأكبر على الشاشات.

بدا كومو وكأنه يعيد تدوير أدوات السلطة نفسها التي أطاحت به، متكئاً على المال والعلاقات والنفوذ الإعلامي، بينما اعتمد ممداني على طاقة جماعية محلية الطابع: محتوى فيديوهات تطوعية، سرديات شخصية على السوشيال ميديا، وظهور ذكي ودافئ وصادق تميّز بقدرته على مخاطبة الناس من حيث هم، لا من فوقهم.

أثبتت حملة زهران ممداني أن المال السياسي لم يعد ضمانة للنصر، بل قد يغدو عبئاً أخلاقياً في زمن يتوق فيه ناخبون كثر الى سياسة تُمارَس من الأسفل لا تُفرَض من الأعلى. بهذا المعنى، جاء انتصار ممداني كمواجهة بين نمطين من السياسة: أحدهما عتيق ومُحتَرف وثري، والآخر ناشئ ومُلهم، لكنه آخذ في التوسع.

حملة ممداني بدأت بموظفين اثنين، واليوم نجحت في استقطاب خمسين ألف متطوع زاروا نحو مليون ونصف المليون منزل في نيويورك لإطلاعهم على البرنامج الانتخابي، وأجروا نحو مليونين ونصف المليون اتصال هاتفي بالناخبين للترويج للحملة وأهدافها… 

“هذه قصة ليست لمجرد بعث الأمل بل لتحويله الى مؤسسة” يقول ممداني في توصيفه جهد حملته وحجمها، شارحاً أسباب نجاحه في جذب ناخبين من خلفيات متنوعة: البيض المتعلمين، الأميركيين الآسيويين، المسلمين، اليهود التقدميين وأصحاب الأصول اللاتينية، بل هو حقق اختراقًا بين الطبقة المتوسطة في أحياء مثل كوينز وبروكلين.

أجاد المرشح الذي استنفرت أوساط الجمهوريين للتخويف منه، تقديم نفسه ومشروعه في فيديوهات ذكية وانتشار رقمي وحملات تواصل اجتماعي موجّهة بلغات متعددة.

نجاح مثل هذا المرشح ليس فلتة، بل هو نتاج عمل تراكمي، وتنظيم على الأرض، وخطاب قوي جذاب استغل مساحات السوشيل ميديا ليلامس يوميات الناس من دون التنازل عن المبادئ. اختار ممداني ملفات محددة تلامس فئات واسعة تتعلق بكلفة السكن والنقل وتخفيض فاتورة السوبرماركت من دون أن يخشى من إعلان مواقف واضحة في قضايا العدالة والحريات، تحديداً في موضوع الحرب الإسرائيلية على غزة وفي الموقف من الفجوات الاقتصادية الهائلة في النظام الرأسمالي.

ما يجعل تجربة ممداني ذات قيمة خارج حدود نيويورك، هو أنها لا تُروى فقط على سبيل الإلهام، بل باعتبارها نموذجاً عملياً لكيفية تحويل لحظة احتجاج إلى مشروع سياسي. نموذجٌ لا يعتمد على “الكاريزما” الفردية وحدها أو التمويل الضخم، بل على بناء رواية سياسية قابلة للتوسّع والتنظيم والمأسسة.

وهذا بالضبط ما نحتاج أن نتأمله ونحن نعيد النظر في تجربة “التغيير” في لبنان. وهذا الدرس ربما نحتاج أن نتعلّم منه.

دروس من نيويورك إلى بيروت

لماذا علينا ربما أن نهتم في لبنان بقصة نجاح ممداني؟ ليس فقط قصته الملهمة، بل بنية حملته التنظيمية والخطابية والسياسية. فقد نجح في تحويل لحظة غضب إلى مؤسسة، وسردية احتجاج إلى مشروع سياسي قابل للتطبيق. وهذا بالضبط ما أخفقنا في تحقيقه حتى الآن هنا.

 الفرق لا يكمن فقط في طبيعة الأنظمة أو حجم النفوذ أو في استعداد الرأي العام لمثل هذا النوع من الشخصيات، بل في مدى وضوح الرؤية، وتنظيم الطاقات، والقدرة على الصمود أمام حملات التخويف والتشهير. فهل يمكن لنا، بعد الانتكاسة، أن نعيد النظر في ما لم نفعله، بدل فقط الحزن على ما لم يتحقق؟

من يتابع النقاشات العامة في لبنان سواء تلك التي تتم عبر الإعلام أو في حلقات نقاش مباشرة ضيقة أو عبر السوشيال ميديا، سيلحظ كم أن شعار “التغيير” الذي شغل الحياة اللبنانية منذ العام 2019 بات وكأنه عبء سياسي يحاول البعض التخلّص منه. 

يتنصل كثيرون في السياسة والإعلام والمجتمع المدني اليوم، من هذه الكلمة التي حكمت الحياة العامة منذ انتفاضة 17 تشرين، متذرعين بخيبة الانتخابات البلدية الأخيرة وتراجع تأثير قوى التغيير التي كانت رافعة سياسية وأخلاقية لقضايا مواجهة الفساد والسلاح والحريات. صار بعض الطامحين إلى مواقع تمثيلية جديدة يفضّلون كلمات أكثر مواربة، أقل التزاماً، وأقرب إلى التوافق وعدم الصدام، والأهم دفن شعار “التغيير” الذي كان عنواناً لحراك سياسي شعبي ضد الطبقة السياسية وفسادها. 

على رغم وجاهة القول بضرورة مراجعة الشعارات وأسباب الانتكاسة وتحديد المسؤوليات، لكن رفع شعار “الواقعية” في مواجهة ضخامة حملات الشيطنة والدعاية التي تعتمدها القوى الحزبية البارزة وإعلامها، هو بمثابة قبول بتفريغ السياسة من معناها. 

أليست السياسة في جوهرها فعل خلق وبناء وليست مجرد احتجاج؟!

السياسة هي تخيّل وعمل لشكل آخر للحياة غير تلك التي نتخبط بها. من هنا لا أعتقد أن المقاربة القائمة على أن مشروع التغيير قد انتهى حقيقية. المشكلة تكمن في الفشل في جعل هذا التغيير مشروعاً سياسياً طويل النفس، عوض أن يبقى مجرد موجة عاطفية موسمية.

حين انتُخب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة وإعلانه خطاب قسم متقدماً في عناوينه، ولاحقاً وصول القاضي نوّاف سلام الى رئاسة الحكومة، بدا أنّ مناخ التغيير يكتنف الحدثين وأنه لحظة انتصار قصوى لهذا المدّ.

من الصعب الجزم بأسباب تراجع هذا الزخم كله في أشهر قليلة ليصبح لبنان وكأنه عالق في لحظة مراوحة سلبية. العالم يطالب العهد والحكومة بالمبادرة وبت مسألة حصرية السلاح والإصلاح، وهي ملفات كبرى باتت أسيرة مقاربات عادية لوضع بالغ الاستثنائية. أعادت القوى الحزبية التقليدية وفي مقدمها حزب الله، تموضعها، وشرعت في فرض توازناتها بما تملكه من أوراق ضغط سياسي وإعلامي. 

بعد طول ضبط انفجر النقاش حول عناوين دور الدولة واحتكار السلاح والعنف والحرب ومسار التعافي الاقتصادي والسعي إلى صورة جديدة عن لبنان آخر في منطقة تعيش على فوهة بركان لم يستقر بعد. ما يشوب المرحلة على المستوى الرسمي هو ضعف المبادرة والتريث في التصدي للأساسيات مثل قضية سلاح حزب الله، بحجج مثل الخوف من صدامات مسلحة والحرج من الواقع الذي فرضته إسرائيل بالقوة بعد الحرب والاحتلال… 

في ملف الإصلاح المالي، استعادت الأحزاب الكبرى المبادرة سواء بالترهيب والشيطنة الإعلامية أو عبر الاستنفار المالي والمذهبي لا فرق. بدا أن هذه الأحزاب تعيد ترتيب أوراقها، وهي نجحت فعلاً في الانتخابات البلدية الأخيرة وتحديداً في بيروت في رفع شعارات مذهبية مثل “المناصفة” لتخوض معركة وتربح فيها. 

أين موقع شعار “التغيير” من كل ما سبق؟

لا يبدو أن التخلّي عن مبادئ التغيير، من محاسبة الفاسدين، إلى المطالبة بالسيادة الفعلية، إلى الدفاع عن الحريات، ترفاً، بل على العكس، تبدو الحاجة إليها أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، فالتغيير لم يفشل… بل لم يُستكمل.

ما سقط في الانتخابات البلدية الأخيرة ليس “فكرة التغيير” بل نجاح حملات التخويف من التغيير، والانتكاسة كانت متوقعة في ظل ميزان قوى مختلّ وفي ظل ضعف واضح في التكتيك والتنظيم وخطط المواجهة، والأهم في ظل حملة شيطنة إعلامية وسياسية كبرى لكن هذا لا يعني نهاية المعركة.

ما هو ملحٌّ اليوم في لبنان ليس التخلّي عن شعار التغيير، بل الانتقال من الشعار إلى المشروع، ومن الرفض والاحتجاج إلى البناء وتحديد الملفات.

لنفترض أن التغيير كمصطلح فقد بريقه، وأن الناس تريده بلغة جديدة، لا بأس. فلنسمّه “البناء”، أو “الإنقاذ”، أو “التحول الديمقراطي”، أو أي اسم آخر. لكن لا ننسى جوهره: محاسبة الفاسدين، حماية القضاء، ضمان الحريات، انتزاع الدولة من قبضة الميليشيا المسلحة، الدفاع عن كرامة الناس وعن حقوقها، وإعادة تعريف السياسة كفعل شجاع لا كشطارة انتخابية. هذا التحول اللغوي ممكن، بل ضروري، شرط ألا يكون غطاءً للتراجع، بل رافعة للتراكم. 

تجربة ممداني تذكّرنا بأن لا معركة خاسرة نهائياً، وأن التغيير ليس موضة انتخابية بل مسار سياسي طويل.
ومن يهرب من هذا المسار، لا يهرب من الفشل، بل من المسؤولية. فلنُعد كتابة القصة من جديد، ولكن هذه المرة، من دون أوهام…فإما أن نحمل مشروعاً صلباً يواجه النظام القائم، أو نكتفي بأن نكون صدًى باهتاً له.