fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

من “ورد” الى “عمر”… اسمٌ واحدٌ لا يكفيك لتحمي نفسك من معتقلات الأسد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحريّة بالنسبة إلي ليست فقط الكتابة من دون رقابة، بل هي قدرتي على الشعور بالأمان الذي لم اختبره يوماً، في بلدٍ يمكن أن يتحوّل أي شيء داخله إلى خطرٍ يُلاحقك، حتى لو كان اسمك!.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من الصعب نسيان ذاك اليوم الذي اكتشفتُ فيه أن لصديقتي الصحافية اسماً ثانياً، كنا نسير وسط دمشق، في حاراتها القديمة تحديداً، نَعبر حواجزها الأمنية، ومن أمام صور بشار التي تحدق بنا من كل زاوية، اقتربتْ صديقتي مني وهمست: “أنا أملك اسماً مستعاراً، وأكتب فيه ضد نظام الأسد”.

لماذا نحتاج اسماً آخر في سوريا؟

بدأتُ حينها بالكتابة الصحافيّة خلال دراستي الجامعية، خطوتُ فيها على مهل، تتبعتُ مواضيع اجتماعية، وثقتها ونقلتها، كتبتُ عن تجربتي كطالبٍ في جامعات سوريا، كتبت عنا نحن، “السوريين في الداخل”، وعمّا يعنيه العيش في بلادٍ تُحمل فوق أكتافنا.

حاولَ المحرر تنبيهي من الاقتراب من الوضع السياسي في نصوصي، مُحذراً من الجمل أو التحليلات التي قد تحوي خطراً أمنيّاً مباشراً. وعلى رغم منحي مساحةً حرّة لقول ما أريد، إلا أنه كان حريصاً على سلامتي الشخصية كشرطٍ أول، فغالباً ما كان يغيّر بعض عباراتي، يحذف أُخرى، وبأفضل الحالات يخفي دلالتها.  

مقالاً تلو الآخر، بدتْ كل المعاني كما لو أنها تلتفّ حول فكرة غير مكتملة، شيء يمنعني من قولها خشية أن تقودني إلى معتقلات نظام الأسد.

 في بداية الأمر، ابتعدتُ عن أي موضوع من شأنه أن يشكّل خطراً على أماني، وتجنبتُ الكتابة في السياسة، لكن الواقع أعادني إليها من دون قصد، كلّ تفصيل يوميّ كان ينزلق نحوها، لأجد نفسي أكتب عن القمع والخوف والحريّة. فخلال الحرب التي عايشناها، اقتحمت السياسة كلّ منزل سوريّ، جلستْ على موائد طعامنا، قسّمتنا وقاسمتنا الأحاديث والطعام والألفة، وأصبحت التصاقاً يصعب التخلّص منه.  

منحتني تجربتي الشخصيّة ـ والصحافية تحديداًـ مقاربة لواقع نخشى الاعتراف به، لم أستطع الامتناع عن الكتابة عمّا يحدث، لم أستطع تجميل المشهد، أو نقله بصورة ناقصة. لذلك قررتُ البحث عن اسمٍ ثانٍ كالذي تملكه صديقتي، اسم يمكنني الكتابة من خلاله، وقول ما ليس بإمكان إسم الحقيقي قوله.

أن تَمنح نفسك اسماً… حريّة من الدرجة الثانية

في سوريا، من غير المعتاد أن تختار شيئاً يخصك من دون خوف، أن تمتلك حريتك مثلاً! فكل ملكيّة سوريّة يشوبها شعور خفيّ بأنها حرية من الدرجة الثانية، ملكيّة ناقصة وإن كانت بينك وبين نفسك، أمّا الحرية الكاملة التي من الدرجة الأولى، هي امتياز يقتصر على النظام الحاكم وأذرعه.

كأي شاب ولد في سوريا، مُنِحت اسماً، وبطاقة شخصية، ودفتر خدمة عسكرية، وسجلاً أمنياً في أفرع المخابرات يشاع أنه يعرف عني أكثر مما أعرفه عن ذاتي، ربما حتى اسمي الآخر.

أن أمنح نفسي اسماً جديداً كان بالنسبة إلي نوعاً من التحدّي، وفرصة للتحرر من تلك الهوية والدفتر العسكري والملف الأمني، اسم يملكه شخص، يمكنه أن يعيش داخل سوريا ويعبر حواجزها بهويّة مجهولة وغير مرئية.

في البداية كنتُ سأختار اسم فتاة وأكتب كل المقالات بلسانها، في محاولة لإبعاد الشبهات عني قدر المستطاع، ثم فكرت في اسم يحمل دلالة للنظام أو لأحد أقربائه. ووصل بي الجنون حتى كدت أختار كنية “الأسد”، كرد فعل لما تحمله هذه الألقاب من فزع داخلنا، وكأنني أستحضرها وأجنّدها كما أريد، انتقاماً لصوتي الذي أخذوه مني.

اخترتُ أخيراً اسم “ورد بيك”، جاء الاسم مصادفة، أردت لمعناه أن يحمل شيئاً أحبه وهو الطبيعة، أما لقب “بيك” فهو كناية للترفع عمّا يحدث، والتأكيد أننا أيضاً يمكننا أن نطلق ألقاباً  ذات جاه على أنفسنا، كما يفعل رجال السلطة في سوريا.

عمر الهادي… اسمي الأوّل

منذ سقوط نظام الأسد، ولأول مرة أعادني المشهد السوري إلى “عمر”، الذي اختبر حريته داخل نفسه، أما النجاة الفردية التي كان يخشاها، فباتت جماعية. 

رافقني “ورد” سراً، اختبأ خلفي أحياناً، وأختبأت خلفه أحياناً أكثر، وحملني إلى أماكن أبعد مما توقعت، أنا صاحب هذا الإسم المستعار، الذي كنتُ أنتظر فرصة سفر كي أكشف عنه، لكنني اليوم، ومن داخل منزلي في سوريا، أعلن أنني صاحب هذا الاسم. 

هذا الإعلان ليس سوى اعتراف شخصي أمام ذاتي بحريتي الصغيرة، التي حملتها وسط كل ما مررنا به، وهو لا يتعدّى تجارب صحافية كثيرة ومهمة حدثت داخل سوريا وخارجها.

في ما مضى، كانت الأسماء المستعارة جزءاً من تجربتي، عاشت هذه الأسماء نجاحاتي وشعرتُ كما لو أنها تسبقني بعض الأحيان، أبرزها كان حصولي على المركز الأول في مسابقة المناضل السياسي “ميشيل كيلو” لمقالة الرأي، التي أقامتها منظمة “مارس” Mars، عن مادة بعنوان: “الخوف من الكاميرا… ثلاثة وجوه سوريّة لشخص واحد”، وتحسباً تم استخدام اسم آخر عند إعلان النتائج.  

علّمني الحرمان الطويل في ظلّ نظام ديكتاتوري كيف أعيش بصمت وحذر، ومع كل خطوة خطوتها، كانت المسافة بين “عمر” و”ورد” تزداد، إلى أن أصبحت مساحة كافية لأركض فيها كما أُريد، بعيداً عن أعين جلادٍ يقف فوق رأسي ورأس عائلتي وأقربائي.

أتساءل اليوم، بعدما خرجت من العتمة: هل تحررتُ حقاً؟ هل تجاوزتُ الخوف الذي رافقني طوال تلك السنوات؟ 

الحريّة بالنسبة إلي ليست فقط الكتابة من دون رقابة، بل هي قدرتي على الشعور بالأمان الذي لم اختبره يوماً، في بلدٍ يمكن أن يتحوّل أي شيء داخله إلى خطرٍ يُلاحقك، حتى لو كان اسمك!.

17.01.2025
زمن القراءة: 4 minutes

الحريّة بالنسبة إلي ليست فقط الكتابة من دون رقابة، بل هي قدرتي على الشعور بالأمان الذي لم اختبره يوماً، في بلدٍ يمكن أن يتحوّل أي شيء داخله إلى خطرٍ يُلاحقك، حتى لو كان اسمك!.

من الصعب نسيان ذاك اليوم الذي اكتشفتُ فيه أن لصديقتي الصحافية اسماً ثانياً، كنا نسير وسط دمشق، في حاراتها القديمة تحديداً، نَعبر حواجزها الأمنية، ومن أمام صور بشار التي تحدق بنا من كل زاوية، اقتربتْ صديقتي مني وهمست: “أنا أملك اسماً مستعاراً، وأكتب فيه ضد نظام الأسد”.

لماذا نحتاج اسماً آخر في سوريا؟

بدأتُ حينها بالكتابة الصحافيّة خلال دراستي الجامعية، خطوتُ فيها على مهل، تتبعتُ مواضيع اجتماعية، وثقتها ونقلتها، كتبتُ عن تجربتي كطالبٍ في جامعات سوريا، كتبت عنا نحن، “السوريين في الداخل”، وعمّا يعنيه العيش في بلادٍ تُحمل فوق أكتافنا.

حاولَ المحرر تنبيهي من الاقتراب من الوضع السياسي في نصوصي، مُحذراً من الجمل أو التحليلات التي قد تحوي خطراً أمنيّاً مباشراً. وعلى رغم منحي مساحةً حرّة لقول ما أريد، إلا أنه كان حريصاً على سلامتي الشخصية كشرطٍ أول، فغالباً ما كان يغيّر بعض عباراتي، يحذف أُخرى، وبأفضل الحالات يخفي دلالتها.  

مقالاً تلو الآخر، بدتْ كل المعاني كما لو أنها تلتفّ حول فكرة غير مكتملة، شيء يمنعني من قولها خشية أن تقودني إلى معتقلات نظام الأسد.

 في بداية الأمر، ابتعدتُ عن أي موضوع من شأنه أن يشكّل خطراً على أماني، وتجنبتُ الكتابة في السياسة، لكن الواقع أعادني إليها من دون قصد، كلّ تفصيل يوميّ كان ينزلق نحوها، لأجد نفسي أكتب عن القمع والخوف والحريّة. فخلال الحرب التي عايشناها، اقتحمت السياسة كلّ منزل سوريّ، جلستْ على موائد طعامنا، قسّمتنا وقاسمتنا الأحاديث والطعام والألفة، وأصبحت التصاقاً يصعب التخلّص منه.  

منحتني تجربتي الشخصيّة ـ والصحافية تحديداًـ مقاربة لواقع نخشى الاعتراف به، لم أستطع الامتناع عن الكتابة عمّا يحدث، لم أستطع تجميل المشهد، أو نقله بصورة ناقصة. لذلك قررتُ البحث عن اسمٍ ثانٍ كالذي تملكه صديقتي، اسم يمكنني الكتابة من خلاله، وقول ما ليس بإمكان إسم الحقيقي قوله.

أن تَمنح نفسك اسماً… حريّة من الدرجة الثانية

في سوريا، من غير المعتاد أن تختار شيئاً يخصك من دون خوف، أن تمتلك حريتك مثلاً! فكل ملكيّة سوريّة يشوبها شعور خفيّ بأنها حرية من الدرجة الثانية، ملكيّة ناقصة وإن كانت بينك وبين نفسك، أمّا الحرية الكاملة التي من الدرجة الأولى، هي امتياز يقتصر على النظام الحاكم وأذرعه.

كأي شاب ولد في سوريا، مُنِحت اسماً، وبطاقة شخصية، ودفتر خدمة عسكرية، وسجلاً أمنياً في أفرع المخابرات يشاع أنه يعرف عني أكثر مما أعرفه عن ذاتي، ربما حتى اسمي الآخر.

أن أمنح نفسي اسماً جديداً كان بالنسبة إلي نوعاً من التحدّي، وفرصة للتحرر من تلك الهوية والدفتر العسكري والملف الأمني، اسم يملكه شخص، يمكنه أن يعيش داخل سوريا ويعبر حواجزها بهويّة مجهولة وغير مرئية.

في البداية كنتُ سأختار اسم فتاة وأكتب كل المقالات بلسانها، في محاولة لإبعاد الشبهات عني قدر المستطاع، ثم فكرت في اسم يحمل دلالة للنظام أو لأحد أقربائه. ووصل بي الجنون حتى كدت أختار كنية “الأسد”، كرد فعل لما تحمله هذه الألقاب من فزع داخلنا، وكأنني أستحضرها وأجنّدها كما أريد، انتقاماً لصوتي الذي أخذوه مني.

اخترتُ أخيراً اسم “ورد بيك”، جاء الاسم مصادفة، أردت لمعناه أن يحمل شيئاً أحبه وهو الطبيعة، أما لقب “بيك” فهو كناية للترفع عمّا يحدث، والتأكيد أننا أيضاً يمكننا أن نطلق ألقاباً  ذات جاه على أنفسنا، كما يفعل رجال السلطة في سوريا.

عمر الهادي… اسمي الأوّل

منذ سقوط نظام الأسد، ولأول مرة أعادني المشهد السوري إلى “عمر”، الذي اختبر حريته داخل نفسه، أما النجاة الفردية التي كان يخشاها، فباتت جماعية. 

رافقني “ورد” سراً، اختبأ خلفي أحياناً، وأختبأت خلفه أحياناً أكثر، وحملني إلى أماكن أبعد مما توقعت، أنا صاحب هذا الإسم المستعار، الذي كنتُ أنتظر فرصة سفر كي أكشف عنه، لكنني اليوم، ومن داخل منزلي في سوريا، أعلن أنني صاحب هذا الاسم. 

هذا الإعلان ليس سوى اعتراف شخصي أمام ذاتي بحريتي الصغيرة، التي حملتها وسط كل ما مررنا به، وهو لا يتعدّى تجارب صحافية كثيرة ومهمة حدثت داخل سوريا وخارجها.

في ما مضى، كانت الأسماء المستعارة جزءاً من تجربتي، عاشت هذه الأسماء نجاحاتي وشعرتُ كما لو أنها تسبقني بعض الأحيان، أبرزها كان حصولي على المركز الأول في مسابقة المناضل السياسي “ميشيل كيلو” لمقالة الرأي، التي أقامتها منظمة “مارس” Mars، عن مادة بعنوان: “الخوف من الكاميرا… ثلاثة وجوه سوريّة لشخص واحد”، وتحسباً تم استخدام اسم آخر عند إعلان النتائج.  

علّمني الحرمان الطويل في ظلّ نظام ديكتاتوري كيف أعيش بصمت وحذر، ومع كل خطوة خطوتها، كانت المسافة بين “عمر” و”ورد” تزداد، إلى أن أصبحت مساحة كافية لأركض فيها كما أُريد، بعيداً عن أعين جلادٍ يقف فوق رأسي ورأس عائلتي وأقربائي.

أتساءل اليوم، بعدما خرجت من العتمة: هل تحررتُ حقاً؟ هل تجاوزتُ الخوف الذي رافقني طوال تلك السنوات؟ 

الحريّة بالنسبة إلي ليست فقط الكتابة من دون رقابة، بل هي قدرتي على الشعور بالأمان الذي لم اختبره يوماً، في بلدٍ يمكن أن يتحوّل أي شيء داخله إلى خطرٍ يُلاحقك، حتى لو كان اسمك!.