fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

من يعسكر يقرّر: العسكرة كنمط حياة عبر تاريخ طويل 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المخيف أنه في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بدور “القائد” وتنظر إلى العسكرة بصفتها نمط حياة مشروعاً، تكون في عمق وجدانها مجتمعات متأهبة، لأن هناك تهديداً ما قائماً من طرف ما. وبالتالي يصبح الهاجس هو البحث عن مصدر هذا التهديد… البحث عن عدو… وإن لم يوجد، فلا بد من اختراعه. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لولا انتسابه إلى الجيش، لما سمع أحد باسم حافظ الأسد خارج محيطه العائلي المباشر. وكذلك الأمر مع أحمد الشرع، فلولا الميليشيا التي قادها، إثر رحلته الشهيرة إلى العراق، وأوصلته لاحقاً إلى قصر الشعب في دمشق، لكان المعني الآن ربما مستغرقاً في تفاصيل حياة مُنهِكة في ظل الحكم الكابوسي لسلالة سابقة أعلاه. والفارق بين الميليشيا في حالة الشرع والجيش في حالة الأسد، هو عبارة عن تطور يطاول بنية التشكيلات العسكرية في منطقتنا، وإن كان انحدارياً، إلا أنه لا يغطي على جوهر ما تحاول هذه السطور الإضاءة عليه: العسكرة، في ظل أي تشكيل عسكري، مهما كانت تسميته، بصفتها نمط حياة، وطريقاً نحو المستقبل، هو في كل الأحوال شديد التعذر والصعوبة في وجه طارقي أبوابه جميعهم، مهما كانت مهنهم أو أنماط حياتهم. 

صيد الوحوش كوسيلة للقيادة

عبر تاريخ طويل لا يقتصر على منطقتنا فحسب، كان اللجوء إلى السلاح حلاً شديد السرعة والاختصار، ليس فقط لتسوية نزاعات فردية أو جماعية، بل أيضاً لاكتساب مكانة تجعل من حامل هذا السلاح شخصاً مهاب الجانب، وكذلك أكثر ثراء من أقرانه، بمقاييس الثراء المتعارف عليها حسب كل حقبة زمنية، أو وسط اجتماعي ما. 

فمنذ حقبة الصيد وجمع الثمار، كان الصيد بصفته أحد مصدرين رئيسيين لتأمين الغذاء؛ أي شرط حياتنا كبشر، يتطلب مقدرات خاصة عند أولئك الصيادين. القوة الجسدية، سرعة الحركة، القدرة على المناورة، إلى آخره من شروط هي في أساسها تعتمد على قوة الجسد والذكاء والإقدام أيضاً، لا يمكن إنكار هاتين الخصلتين الذهنية والنفسية، عند من يريد مواجهة حيوان يزن عشرات أضعاف وزنه، وأكثر منه سرعة وقوة بدنية، ولكن ليس أكثر ذكاء أو إصراراً على تحقيق الهدف. 

لم تتراجع قيمة تلك المقدرات مع تطور حياتنا، وظهور متخصصين في تأمين الغذاء لنا، بعد دخولنا في عصر الثورة الزراعية وتربية الماشية. إذ بات الصراع على الأرض وثرواتها الزراعية والحيوانية، ومصادر الماء، هو عنوان مرحلة جديدة لتأمين دوام تلك المصادر. وبالتالي شرعية ملموسة لنظام حكم يسوس الجماعات المحتمية بظل ذلك النظام، لضمان استمرارية تدفق خيرات تلك المصادر واستقرارها، لتأمين حياة باتت متعذرة جداً خارج تلك البنى السياسية الجديدة التي وُجدت بالدرجة الأولى، للتحكم بمصادر الحياة وشروطها.

كان النزاع في جوهره ما بين ممالك تلك الحقبة، خلال مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، صراعاً على مصادر الثروة، ما يجعل من المملكة أقوى من قريناتها وجاراتها من الممالك، بل قادرة إن امتلكت السبل الكافية، على إزالة تلك الممالك الجارة وإلحاقها بمشروع إمبراطوري كبير، شهد العالم تجليات شتى له على مدار قرون متتالية، قبل دخولنا في عصر الحداثة، وبعد حربين كونيتين طاحنتين، لم يمضِ على الأخيرة منهما إلا بضعة عقود فقط. وكانت الأسنان التي تقضم تلك الثروات والأراضي والمصادر الطبيعية، هي الجيوش نفسها. 

أي أن العسكرية كمهنة ونمط حياة، لم تتراجع قيمتها مع خروجنا من عصر الكفاية الغذائية، بخضوع تام لما تجود به الطبيعة من مصادفات سعيدة، من مصدر نباتياً كان أم حيوانياً، ودخولنا في عصر التحكم بتلك المصادر نباتياً وحيوانياً. فمهنتا المزارع والراعي كان يُفترض بهما أن تكونا في الصدارة، بالاستناد إلى أنهما القيّمتان على مصدري غذائنا الرئيسيين، ومع ذلك، بقي “الفارس” أو “القائد” أو “الأمير” هم الأعلى كعباً في سلم التراتبية الاجتماعية من الجميع، وهم الحائزون على تلك الألقاب، والأقرب إلى أن يصبحوا ملوك الغد، بحكم قربهم من عرش المُلك، وهم المكلفون بحماية هذا العرش، ومد ملكه إلى أبعد ما يمكن أن يصلوا إليه. 

تبرير الطغيان

لم يكن الخضوع لهذه الصيغة غير العادلة نهائياً، بالأمر اليسير، فيما لو بقيت القوة الباطشة حاكمة بشكل مجرد، بصفتها كذلك. كان لا بد من تسويغ ما، وأمام الداخل، أمام رعايا العرش تحديداً، لتبرير وجود تلك السلطة وملحقاتها والمستفيدين المباشرين منها وتسويغها. وهنا ظهر العدو الخارجي، الذي سيكون بالضرورة طامعاً بخيرات المملكة، كون العرش هناك بدوره بحاجة إلى تبرير لوجوده أمام رعاياه أيضاً؛ وظهرت بعدها العقائد الجديدة مُسبِغَة على الغزو تبريراً دينياً أو قومياً أو أي تبرير ممكن، للقيام بعمل عسكري مستمر ضد هذا العدو، وذي هدف إلحاقي، أو أبادي، حسب نوع العدو ومقدراته وعناده. 

منذ أول شريعة عرفها العالم، أي شريعة حمورابي، مروراً بالأديان التوحيدية بشكل خاص، وبالأيديولوجيات المتعددة التي تبنتها الدول الحديثة، وأوصلتنا إلى الحربين الكونيتين الأخيرتين، وحتى يومنا هذا، حيث لا نزال عالقين على حافة اشتباك كوني جديد؛ إن حصل، بسبب اندفاع مجنون عند من لا يزال يمتلك من الحداثة أدواتها الأشد فتكاً، وبقي عالقاً في مفهوم قديم للسلطة (المتعلق بالفارس والأمير والقائد) فستكون نهايتنا جميعاً؛ طيلة هذا المسار كله لم تكف تلك الشرائع والمعتقدات والأديان، عن إضفاء مشروعية على مسعانا، وسحب كامل المشروعية أو المبررات من يد أعدائنا… والعكس بالعكس. 

كل هذا “العنف”، مهما كان مبرره، هو في كل أحواله موجه لحماية “هيبة” العرش، في مقابل رعاياه قبل أي شيء آخر، وبالتالي الإبقاء على الهرمية الحاكمة كما كانت قبل أي تطور في حياتنا كبشر، معتمدة بشكل رئيسي على القوة، أكانت عضلية فردية، أم ممكننة، كما صارت لاحقاً بعد دخولنا في عصر الثورة الصناعية. 

تغير شكل الحياة في جزء مهم من عالمنا بعد تلك الثورة، وما مهد لها من تداعيات تراكم الثروات الهائلة، إثر الكشوف الجغرافية الكبرى، وبدء الحقبة الكولونيالية، ما أدى إلى ظهور طبقات جديدة قادرة على خوض صراعات داخلية لتثبيت أشكال وبنى جديدة للدولة.

قراءة مختلفة، نحو عالم جديد

لم تلبث أن بدأت العلوم السياسية بتطوير مفاهيم أكثر إنسانية لتنظيم هذا العنف، وظهرت النظريات التي تتحدث عن الدولة بصفتها محتكرة للعنف، ولكن المقيد بصفته عنفاً مشروعاً، أي معقلن. النظرية التي وضعها ماكس فيبر، وبدأت إرهاصاتها تظهر قبل قرون عدة، وتم تطويرها على أيدي الكثير من سابقيه توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، والأخير اعتبر أن العقد الاجتماعي شرط لازم لشرعية الدولة، أي توافق جميع مواطني، وليس رعايا تلك الدولة على أحقيتها بالوجود، لتصبح تالياً محتكرة لهذا العنف الذي يجب أن يكون مستمداً من الإرادة العامة. 

أي أننا بتنا وبسبب تطور الأفكار، أمام تحدّ جديد لسلطة الدولة المطلقة، وبالتحديد في ما يتعلق باستخدامها للعنف، بتقييد استخدامها له من خلال شرعنته، أي إخضاعه لقوانين ناظمة وواضحة، بإمكان الجميع أن يطّلع عليها ويفهم مبرراتها ومسوغاتها. الأمر الذي لم يلبث أن ظهر جلياً في إعلان حقوق الدول بالدفاع عن سيادتها وعن سلامة أراضيها، ومنع اعتداء دول أخرى على تلك السيادة والسلامة، عشية انتهاء الحرب الكونية الثانية، ومن خلال شرعة الأمم المتحدة المتعلقة بهذا الجانب. 

الدخول في مرحلة من العقلنة، أي مرحلة فيها احترام لحقوق البشر بالعيش في سلام، والتفكير بمستقبلهم بمعزل عن تهديد وجودي مستمر، كان قائماً فعلياً حتى بضعة عقود خلت، حول “القائد”، و”الأمير”، و”الفارس”، إلى جنرال موظف يخدم صالحاً عاماً ضمن حدود واضحة، وينفذ أوامر مستوى سياسي منتخب مباشرة من الشعب، ويُحال إلى التقاعد فور انتهاء خدمته كموظف عام. مع ذلك، بقيت مناطق كثيرة من العالم خارج هذه النعمة، وبقي “الأمراء”، و”القادة”، و”الفرسان”، هم المتحكمين بمصائرها، بمن فيهم آخر “قائد” حظيت به سوريا، وهو قاطن قصر الشعب الحالي: أحمد الشرع. 

سوريا تحاول اللحاق بالركب

بناء على ما ذُكر أعلاه، كيف بإمكان “القائد” الجديد في قصر الشعب في دمشق، عدم مواجهة استحقاق يُفترض أن السوريين جميعهم يطالبون به: المضي ببلادهم إلى العصر الحديث، عصر الحريات والحقوق والدولة الحديثة؟ ومهما كان الاختلاف على تسمية تلك الدولة، مدنية أو علمانية أو إسلامية محدثة، إلا أن ما ظهر علنياً إلى الآن، ضمن الخطاب السائد في جميع أنحاء سوريا، هو أن السوريين بغالبيتهم الكاسحة يرون أن الاستحقاق المذكور أعلاه أمر يجب السعي للوصول إليه. وفي كل الأحوال، فإن المطالبة بهذا الاستحقاق تعني أن المطلوب في نهاية المطاف، دولة يخضع الجميع فيها للقانون، ويخضع المستوى السياسي فيها للمساءلة مباشرة من جمهور الناخبين، عبر صندوق الاقتراع، وسواه من وسائل ضبط أداء السلطة التنفيذية، التي يجب أن تكون بكاملها من أصحاب الكفاءات المتنوعة… أي أن المطلوب هنا هو بالضبط المزارع ومربي الماشية، وليس “الأمير” أو “القائد” أو “الفارس”! الذي لن يلبث، في حال رضخ لمطالب الناس بالمضي بالبلاد إلى بر الأمان المرتجى، أن يخسر ليس لقبه فحسب، بل مبرر وجوده بصفته حاملاً لهذا اللقب.

في عهد “القائد المفدى”، استطاع حافظ الأسد أن يجد “مبرراً” لبقاء “القائد” فوق أنفاس العباد: فلسطين… نعرف، سوريين وفلسطينيين ولبنانيين، كامل تفاصيل الكابوس، لا داعي للاستفاضة. في عهد “القائد” الجديد، ما هو المبرر الذي سيجده أحمد الشرع حتى لا يخسر لقبه ومبرر وجوده، ويدير فوقها ظهره لتاريخ “نضالي” كامل توجه بمكان سكناه الجديد؟! 

العبور بسوريا نحو العصر الحديث لا يتطلب عسكرياً ولا حتى “قائداً”، يكفي لهذه المهمة خبير متمكن، حتى تطمئن النفوس إلى سلامة الطريق. “القائد” بحاجة إلى عدو يقود الأمة لمواجهته. وحسب تصريحات الشرع، بعد ارتدائه ربطة العنق، فسوريا لا تريد عداوة مع محيطها، أو مع أحد. إنها تريد سلاماً وازدهاراً. وهذا يعني، أول ما يعنيه، تحويل كل “القادة” و”الأمراء” و”الفرسان” إلى التقاعد الفوري. طبعا الأمن الداخلي، ليس بحاجة إلى “فرسان” و”قادة”، إلا إذا كانت هناك “مؤامرة” من عدو خارجي يغذي عدواً داخلياً، أي أننا سنعود إلى الحشد وإلى العداوة مع محيط قريب أو بعيد.

ولأن الأمر صعب فعلاً، ليس على الشرع، ولا على محيطه المباشر من “القادة” فقط، بل أيضاً على بيئة كاملة أنتجت هؤلاء القادة، كما أنتجت “القائد المفدى” قبلهم جميعاً، فإن إمكانية العبور بسوريا إلى العصر الحديث، تصبح مهددة دائماً من مفهوم ما زال يتمتع بصدى وشعبية هائلين، إنه مفهوم “القائد” نفسه.

والمشكلة هنا لا تتعلق فقط بمن يحمل هذا اللقب حالياً؛ أي أحمد الشرع، فالشعب نفسه، الغالبية السنية منه إن أردنا أن نكون أكثر تحديداً، يعيش تلك المشكلة التي سيُفرض عليه مواجهتها، إن كان يريد فعلاً العبور بالبلاد إلى المستقبل. 

أعتقد أن ارتداء ربطة عنق، أو امتلاك عدة لفظية محدثة، وقدرة على التعامل مع السوشال ميديا بآخر إصداراتها وأوسع مؤثريها انتشاراً، غير كاف للإجابة عن تاريخ عمره مئات الأعوام، ينحدر منه “القائد” الجديد، باعتزاز لا يُخفيه، ولا أي من محيطيه، ولا حتى المحيط الاجتماعي الأوسع الحاضن والمؤيد لهم. الأمر بحاجة إلى عدة أكثر تعقيداً وعمقاً من تلك المتوافرة حتى الآن… وأهم ما فيها، هو القدرة على امتلاك رؤية نقدية لتاريخ كامل يبرر لهذه العسكرة، بل يمنحها مشروعية فوق أية مشروعية أخرى. إنها القدرة على الانفصال عن رؤية كلاسيكية تبجيلية راسخة، أزعم أنها لا تزال سائدة حتى يومنا هذا، تمنع مراجعة كاملة للإسلام، بصفته تجربة إنسانية أولاً، وبصفته؛ في ما يخص بحثنا هذا، ديناً حربياً في واحد من أبرز وجوهه. 

رؤية مختلفة للإسلام مرة أخرى!

العبارة “الإسلام دين حربي” تشكل استفزازاً كبيراً لجميع المؤمنين. يُفترض، ولو نظرياً على الأقل، أن الإسلام دين رحمة قبل أي شيء آخر. ولكن الحقيقة، أن “المشروع” الذي تقدم به محمد إلى أتباعه وأقرانه في مكة، كان معنياً بشيء آخر أكثر من التراحم بين البشر. وهذا كان معلناً فعلاً بدءاً من المراحل الأولى لدعوته، عندما كان يبشر أتباعه قائلاً “والله ليُتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، وليُفتحَن عليكم كنوز كسرى وقيصر”؛ رواه خباب بن الأرت، وأخرجه البخاري، أو “الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام… الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس…”؛ رواه البراء بن عازب وأخرجه ابن حنبل. 

طبعاً، الحديثان أعلاه يُنسبان إلى محمد خلال شدائد مرت بها دعوته، سواء في فترة الاضطهاد التي مر بها أتباعه في مكة، حيث رُوي الحديث الأول، أما الثاني فكان خلال حفر الخندق حول المدينة خلال غزوة الأحزاب. ويمكن أن يبرر الوعد بكنوز كسرى وقيصر ومفاتيح فارس والشام، كنوع من رفع المعنويات وقت الشدائد. إلا أن النظر، ليس فقط إلى الإشارة إلى “الغزو” لإمبراطوريات مجاورة، والسطو على كنوزها، وهو في نهاية المطاف مبرر بالاستناد إلى طبيعة “العلاقات السياسية” بين الممالك والإمبراطوريات في عصر محمد، بل أيضاً إلى تلك الرسالة التي تحملها الكلمات التشجيعية لأتباعه، والتي لم تكن لتغيب عن أسماع معارضيه، ممن وُصفوا بـ “مشركي” مكة؛ النظر إلى تلك الرسالة بالذات يشي بـ “مشروع” وليس مجرد وعود. 

طبعاً الفرضية هنا ليست بأثر رجعي، بمعنى أن وعود محمد تحققت في نهاية المطاف، ونشأت إمبراطورية إسلامية كبرى على أنقاض الإمبراطوريتين الكبيرتين في ذلك الوقت، الفارسية والرومانية البيزنطية؛ الفرضية هنا تشير إلى صيغة كان يُعد لها بطريقة واضحة، مع بدايات الدين الجديد، بل دخلت في صلب شعائره. 

الأمر هنا لا يقتصر فقط على رفع الشهادة في سبيل الله؛ الموت خلال المعركة، إلى أعلى مرتبة بعد النبوة مباشرة، بل أيضاً يصل إلى الصلوات الخمس نفسها. إذ يخطر السؤال دائما حول المغزى من تكليف المؤمنين بالصلاة خمس مرات في اليوم، وهو أمر مرهق لأي مؤمن، وبحركات صارمة محددة، مع الحض على صلاة الجماعة، بانتظاميتها وصرامة حركاتها، إن لم تكن بدورها إعداداً نفسياً وبدنياً إلى حد ما، للجماعة المنضبطة المقاتلة؟ 

لا يمكن القول إن محمداً قد جاء بشيء جديد على زمانه وبيئته، بالعكس، هو ما فعل إلا أن حاول إيصال دعوته الجديدة إلى ذروة معروفة تماماً لأبناء بيئته، وهو أمر أسهبنا في إيضاحه في مقدمة هذا المقال- وإن كان الوصول إلى تلك الذروة مستبعداً جداً في بداية الدعوة، بالاستناد إلى ميزان القوى. وبالتالي، فإن الوجه الحربي لـ “الدين الجديد” ما كان من الممكن إخفاؤه، وهو في كل الأحوال يشكل الوسيلة الأمثل للوصول بـ “الوعد” المحمدي إلى منتهاه. 

ما حصل لاحقاً، وطيلة قرون طويلة منذ انطلاق دعوة محمد في مكة في القرن السابع الميلادي، إلى يومنا هذا، أن أية مراجعة جدية للإسلام، في أي من وجوهه المتعددة لم تحصل، ولم يكن مسموحاً بها أصلاً، وسلطات كاملة، إمبراطوريات، ممالك، مدن ممالك، إقطاعات، إمارات، سلطنات، ولاحقاً دول، يُفترض أنها “حديثة”، أقامت شرعيتها كاملة على فهم محدد أرثوذكسي رسمي صارم، يدّعي الواحدية مع أنه متعدد للحقيقة، ولكن هذا مبحث آخر، لهذا الإسلام. 

معالم في الطريق لفهم تاريخنا كبشر

إذاً، فإن مسعى الخروج من تلك العسكرة، كنمط حياة مشروع، أو مفروغ منه وغير عرضة للنقاش لمن يريد القيادة، يتطلب بداية أن نعيد نظر في الأساس “الشرعي” الذي تقف عليه رؤيتنا السياسية الجمعية برمتها. وأن نقبل بأن ما مضى لا يمتلك أية راهنية فحسب، بل مرفوض بصفته مرجعاً لأية رؤية مستقبلية كانت، أو حتى ماضية، من خلال تناول ما حصل في تاريخنا بصفته مقدساً محضاً، ولا علاقة له بالحياة الدنيا، وخياراتها، وشروطها، وإكراهاتها في أي حال من الأحوال. أي بالتاريخ البشري بصفته صناعة بشرية قبل أي شيء آخر. 

هذا التناول التقديسي لتاريخنا، وللأرضية التي تقف عليها رؤيتنا السياسية المعاصرة، يبلغ ذروة المعاندة مع واحد من مراجع قادتنا الجدد: سيد قطب نفسه، ومن خلال كتابه “معالم في الطريق”. حيث وصل إلى مرحلة برر فيها الغزو الإسلامي، “الفتوحات الإسلامية”، بصفته دعوة إلى التحرير! حيث رأى أن تلك الفتوحات لم تكن غزواً لأراضي الآخرين بهدف السيطرة، بل كانت وسيلة لتحرير الشعوب التي كانت تعيش تحت أنظمة حكم لا تتيح لهم فرصة اختيار الإسلام بحرية.

ووفقاً لفكر سيد قطب، فإن الإمبراطوريات القائمة آنذاك (مثل الفرس والروم) كانت تفرض قيوداً على حرية الأفراد في تبنّي الإسلام، ولذلك اعتبر أن من واجب الدولة الإسلامية إزالة تلك العقبات لتمكين الأفراد من سماع رسالة الإسلام واتخاذ القرار بأنفسهم. وهذا بالاستناد إلى جوهر رؤيته بأن الإسلام جاء لإخراج الناس من عبودية البشر إلى عبودية الله، وبالتالي اعتبر الفتوحات نوعاً من التحرير من الظلم والطغيان السياسي والديني. 

هذه الفرضية، لا تزال هي الفرضية المركزية لكامل تيارات الإسلام الجهادي السلفي، الذي تنحدر منه القيادة السورية الحالية. فكيف بإمكان من لا يزال يدور في فلك أفكار كهذه، أن يقود بلداً كاملاً باتجاه عصر جديد، من دون أية مراجعة، ومن دون حتى السماح بالقيام بتلك المراجعة من آخرين، تحت طائلة التكفير؟! 

وإن كان ولا بد من الحديث عن “معالم في الطريق” نحو الخروج بسوريا إلى العصر الحديث، فإن أول معلم يجب أن يُرى، حتى نطمئن أننا سلكنا ذلك الطريق فعلاً، هو الخروج من تلك المرجعية الضيقة، وإفساح المجال لرؤى ومراجعات جديدة بالظهور، والتعامل مع العسكرة ومفهوم “القائد” بالدرجة الأولى، بصفته جزءاً من تراث مضى، نفهم سياقه الكامل وقادرين على تجاوزه، في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى.

من صيد الوحوش إلى صيد الجن والعفاريت!

بغير هذا، سنكون قد أغلقنا الأفق، وتحول مسار الخروج باتجاه عصر جديد إلى مجرد كذبة… في كل الأحوال، كنا جميعاً في ظل الطاغية الأسد نعرف سلفاً أن تحرير فلسطين كان كذبة، وادّعينا التصديق، وكان الثمن أن حيواتنا كلها دُمرت، فهل سنعيد الكرة مرة أخرى، وندفن رؤوسنا في الرمال، ونتنازل عن حقنا بتقرير مصائرنا بأنفسنا، رادين ذلك الحق إلى “قائد” جديد، لن يلبث بدوره أن يعثر لنا على “عدو” جديد، ليبرر فقط “قيادته”، ولن يكون هذا العدو سوى أولئك الذين طالبوا بحقهم بالمراجعة والنقد بحرية؟! 

المخيف أنه في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بدور “القائد” وتنظر إلى العسكرة بصفتها نمط حياة مشروعاً، تكون في عمق وجدانها مجتمعات متأهبة، لأن هناك تهديداً ما قائماً من طرف ما. وبالتالي يصبح الهاجس هو البحث عن مصدر هذا التهديد… البحث عن عدو… وإن لم يوجد، فلا بد من اختراعه. 

والمشكلة، عند الطرف المقابل، أن هؤلاء المطالبين بحق المراجعة، وفي ظل عالم ينحو يميناً بشكل مرعب، لا أحد يدعمهم، ولا توجد “مؤامرة” خلفهم، بل هم في حقيقتهم أقلية آخذة في الاضمحلال في ظل سُعار “مؤثري” السوشال ميديا وسطحيتهم، التي ألغت منصاتها الكبرى، حتى آلية المراجعة والتدقيق للتأكد من حقيقة الأخبار المتداولة عليها، مداهنة للعجوز الفاشي، العائد إلى سدة الرئاسة في أميركا. وبالتالي، فإن إعلان الحرب عليهم، أو حتى الجهاد، لن يكون مبرراً، وهم أفراد معزولون، إلا إن كانت هناك قوى خفية من الجن والعفاريت تدعمهم. وبالتالي يكسب “القائد” بهذا معركته الجديدة، ولو حتى ضد طواحين الهواء… وفي ظل وضعنا الراهن، لا أظن أن الوصول إلى هكذا صيغة مستبعد بأي حال من الأحوال… 

30.01.2025
زمن القراءة: 12 minutes

المخيف أنه في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بدور “القائد” وتنظر إلى العسكرة بصفتها نمط حياة مشروعاً، تكون في عمق وجدانها مجتمعات متأهبة، لأن هناك تهديداً ما قائماً من طرف ما. وبالتالي يصبح الهاجس هو البحث عن مصدر هذا التهديد… البحث عن عدو… وإن لم يوجد، فلا بد من اختراعه. 

لولا انتسابه إلى الجيش، لما سمع أحد باسم حافظ الأسد خارج محيطه العائلي المباشر. وكذلك الأمر مع أحمد الشرع، فلولا الميليشيا التي قادها، إثر رحلته الشهيرة إلى العراق، وأوصلته لاحقاً إلى قصر الشعب في دمشق، لكان المعني الآن ربما مستغرقاً في تفاصيل حياة مُنهِكة في ظل الحكم الكابوسي لسلالة سابقة أعلاه. والفارق بين الميليشيا في حالة الشرع والجيش في حالة الأسد، هو عبارة عن تطور يطاول بنية التشكيلات العسكرية في منطقتنا، وإن كان انحدارياً، إلا أنه لا يغطي على جوهر ما تحاول هذه السطور الإضاءة عليه: العسكرة، في ظل أي تشكيل عسكري، مهما كانت تسميته، بصفتها نمط حياة، وطريقاً نحو المستقبل، هو في كل الأحوال شديد التعذر والصعوبة في وجه طارقي أبوابه جميعهم، مهما كانت مهنهم أو أنماط حياتهم. 

صيد الوحوش كوسيلة للقيادة

عبر تاريخ طويل لا يقتصر على منطقتنا فحسب، كان اللجوء إلى السلاح حلاً شديد السرعة والاختصار، ليس فقط لتسوية نزاعات فردية أو جماعية، بل أيضاً لاكتساب مكانة تجعل من حامل هذا السلاح شخصاً مهاب الجانب، وكذلك أكثر ثراء من أقرانه، بمقاييس الثراء المتعارف عليها حسب كل حقبة زمنية، أو وسط اجتماعي ما. 

فمنذ حقبة الصيد وجمع الثمار، كان الصيد بصفته أحد مصدرين رئيسيين لتأمين الغذاء؛ أي شرط حياتنا كبشر، يتطلب مقدرات خاصة عند أولئك الصيادين. القوة الجسدية، سرعة الحركة، القدرة على المناورة، إلى آخره من شروط هي في أساسها تعتمد على قوة الجسد والذكاء والإقدام أيضاً، لا يمكن إنكار هاتين الخصلتين الذهنية والنفسية، عند من يريد مواجهة حيوان يزن عشرات أضعاف وزنه، وأكثر منه سرعة وقوة بدنية، ولكن ليس أكثر ذكاء أو إصراراً على تحقيق الهدف. 

لم تتراجع قيمة تلك المقدرات مع تطور حياتنا، وظهور متخصصين في تأمين الغذاء لنا، بعد دخولنا في عصر الثورة الزراعية وتربية الماشية. إذ بات الصراع على الأرض وثرواتها الزراعية والحيوانية، ومصادر الماء، هو عنوان مرحلة جديدة لتأمين دوام تلك المصادر. وبالتالي شرعية ملموسة لنظام حكم يسوس الجماعات المحتمية بظل ذلك النظام، لضمان استمرارية تدفق خيرات تلك المصادر واستقرارها، لتأمين حياة باتت متعذرة جداً خارج تلك البنى السياسية الجديدة التي وُجدت بالدرجة الأولى، للتحكم بمصادر الحياة وشروطها.

كان النزاع في جوهره ما بين ممالك تلك الحقبة، خلال مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، صراعاً على مصادر الثروة، ما يجعل من المملكة أقوى من قريناتها وجاراتها من الممالك، بل قادرة إن امتلكت السبل الكافية، على إزالة تلك الممالك الجارة وإلحاقها بمشروع إمبراطوري كبير، شهد العالم تجليات شتى له على مدار قرون متتالية، قبل دخولنا في عصر الحداثة، وبعد حربين كونيتين طاحنتين، لم يمضِ على الأخيرة منهما إلا بضعة عقود فقط. وكانت الأسنان التي تقضم تلك الثروات والأراضي والمصادر الطبيعية، هي الجيوش نفسها. 

أي أن العسكرية كمهنة ونمط حياة، لم تتراجع قيمتها مع خروجنا من عصر الكفاية الغذائية، بخضوع تام لما تجود به الطبيعة من مصادفات سعيدة، من مصدر نباتياً كان أم حيوانياً، ودخولنا في عصر التحكم بتلك المصادر نباتياً وحيوانياً. فمهنتا المزارع والراعي كان يُفترض بهما أن تكونا في الصدارة، بالاستناد إلى أنهما القيّمتان على مصدري غذائنا الرئيسيين، ومع ذلك، بقي “الفارس” أو “القائد” أو “الأمير” هم الأعلى كعباً في سلم التراتبية الاجتماعية من الجميع، وهم الحائزون على تلك الألقاب، والأقرب إلى أن يصبحوا ملوك الغد، بحكم قربهم من عرش المُلك، وهم المكلفون بحماية هذا العرش، ومد ملكه إلى أبعد ما يمكن أن يصلوا إليه. 

تبرير الطغيان

لم يكن الخضوع لهذه الصيغة غير العادلة نهائياً، بالأمر اليسير، فيما لو بقيت القوة الباطشة حاكمة بشكل مجرد، بصفتها كذلك. كان لا بد من تسويغ ما، وأمام الداخل، أمام رعايا العرش تحديداً، لتبرير وجود تلك السلطة وملحقاتها والمستفيدين المباشرين منها وتسويغها. وهنا ظهر العدو الخارجي، الذي سيكون بالضرورة طامعاً بخيرات المملكة، كون العرش هناك بدوره بحاجة إلى تبرير لوجوده أمام رعاياه أيضاً؛ وظهرت بعدها العقائد الجديدة مُسبِغَة على الغزو تبريراً دينياً أو قومياً أو أي تبرير ممكن، للقيام بعمل عسكري مستمر ضد هذا العدو، وذي هدف إلحاقي، أو أبادي، حسب نوع العدو ومقدراته وعناده. 

منذ أول شريعة عرفها العالم، أي شريعة حمورابي، مروراً بالأديان التوحيدية بشكل خاص، وبالأيديولوجيات المتعددة التي تبنتها الدول الحديثة، وأوصلتنا إلى الحربين الكونيتين الأخيرتين، وحتى يومنا هذا، حيث لا نزال عالقين على حافة اشتباك كوني جديد؛ إن حصل، بسبب اندفاع مجنون عند من لا يزال يمتلك من الحداثة أدواتها الأشد فتكاً، وبقي عالقاً في مفهوم قديم للسلطة (المتعلق بالفارس والأمير والقائد) فستكون نهايتنا جميعاً؛ طيلة هذا المسار كله لم تكف تلك الشرائع والمعتقدات والأديان، عن إضفاء مشروعية على مسعانا، وسحب كامل المشروعية أو المبررات من يد أعدائنا… والعكس بالعكس. 

كل هذا “العنف”، مهما كان مبرره، هو في كل أحواله موجه لحماية “هيبة” العرش، في مقابل رعاياه قبل أي شيء آخر، وبالتالي الإبقاء على الهرمية الحاكمة كما كانت قبل أي تطور في حياتنا كبشر، معتمدة بشكل رئيسي على القوة، أكانت عضلية فردية، أم ممكننة، كما صارت لاحقاً بعد دخولنا في عصر الثورة الصناعية. 

تغير شكل الحياة في جزء مهم من عالمنا بعد تلك الثورة، وما مهد لها من تداعيات تراكم الثروات الهائلة، إثر الكشوف الجغرافية الكبرى، وبدء الحقبة الكولونيالية، ما أدى إلى ظهور طبقات جديدة قادرة على خوض صراعات داخلية لتثبيت أشكال وبنى جديدة للدولة.

قراءة مختلفة، نحو عالم جديد

لم تلبث أن بدأت العلوم السياسية بتطوير مفاهيم أكثر إنسانية لتنظيم هذا العنف، وظهرت النظريات التي تتحدث عن الدولة بصفتها محتكرة للعنف، ولكن المقيد بصفته عنفاً مشروعاً، أي معقلن. النظرية التي وضعها ماكس فيبر، وبدأت إرهاصاتها تظهر قبل قرون عدة، وتم تطويرها على أيدي الكثير من سابقيه توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، والأخير اعتبر أن العقد الاجتماعي شرط لازم لشرعية الدولة، أي توافق جميع مواطني، وليس رعايا تلك الدولة على أحقيتها بالوجود، لتصبح تالياً محتكرة لهذا العنف الذي يجب أن يكون مستمداً من الإرادة العامة. 

أي أننا بتنا وبسبب تطور الأفكار، أمام تحدّ جديد لسلطة الدولة المطلقة، وبالتحديد في ما يتعلق باستخدامها للعنف، بتقييد استخدامها له من خلال شرعنته، أي إخضاعه لقوانين ناظمة وواضحة، بإمكان الجميع أن يطّلع عليها ويفهم مبرراتها ومسوغاتها. الأمر الذي لم يلبث أن ظهر جلياً في إعلان حقوق الدول بالدفاع عن سيادتها وعن سلامة أراضيها، ومنع اعتداء دول أخرى على تلك السيادة والسلامة، عشية انتهاء الحرب الكونية الثانية، ومن خلال شرعة الأمم المتحدة المتعلقة بهذا الجانب. 

الدخول في مرحلة من العقلنة، أي مرحلة فيها احترام لحقوق البشر بالعيش في سلام، والتفكير بمستقبلهم بمعزل عن تهديد وجودي مستمر، كان قائماً فعلياً حتى بضعة عقود خلت، حول “القائد”، و”الأمير”، و”الفارس”، إلى جنرال موظف يخدم صالحاً عاماً ضمن حدود واضحة، وينفذ أوامر مستوى سياسي منتخب مباشرة من الشعب، ويُحال إلى التقاعد فور انتهاء خدمته كموظف عام. مع ذلك، بقيت مناطق كثيرة من العالم خارج هذه النعمة، وبقي “الأمراء”، و”القادة”، و”الفرسان”، هم المتحكمين بمصائرها، بمن فيهم آخر “قائد” حظيت به سوريا، وهو قاطن قصر الشعب الحالي: أحمد الشرع. 

سوريا تحاول اللحاق بالركب

بناء على ما ذُكر أعلاه، كيف بإمكان “القائد” الجديد في قصر الشعب في دمشق، عدم مواجهة استحقاق يُفترض أن السوريين جميعهم يطالبون به: المضي ببلادهم إلى العصر الحديث، عصر الحريات والحقوق والدولة الحديثة؟ ومهما كان الاختلاف على تسمية تلك الدولة، مدنية أو علمانية أو إسلامية محدثة، إلا أن ما ظهر علنياً إلى الآن، ضمن الخطاب السائد في جميع أنحاء سوريا، هو أن السوريين بغالبيتهم الكاسحة يرون أن الاستحقاق المذكور أعلاه أمر يجب السعي للوصول إليه. وفي كل الأحوال، فإن المطالبة بهذا الاستحقاق تعني أن المطلوب في نهاية المطاف، دولة يخضع الجميع فيها للقانون، ويخضع المستوى السياسي فيها للمساءلة مباشرة من جمهور الناخبين، عبر صندوق الاقتراع، وسواه من وسائل ضبط أداء السلطة التنفيذية، التي يجب أن تكون بكاملها من أصحاب الكفاءات المتنوعة… أي أن المطلوب هنا هو بالضبط المزارع ومربي الماشية، وليس “الأمير” أو “القائد” أو “الفارس”! الذي لن يلبث، في حال رضخ لمطالب الناس بالمضي بالبلاد إلى بر الأمان المرتجى، أن يخسر ليس لقبه فحسب، بل مبرر وجوده بصفته حاملاً لهذا اللقب.

في عهد “القائد المفدى”، استطاع حافظ الأسد أن يجد “مبرراً” لبقاء “القائد” فوق أنفاس العباد: فلسطين… نعرف، سوريين وفلسطينيين ولبنانيين، كامل تفاصيل الكابوس، لا داعي للاستفاضة. في عهد “القائد” الجديد، ما هو المبرر الذي سيجده أحمد الشرع حتى لا يخسر لقبه ومبرر وجوده، ويدير فوقها ظهره لتاريخ “نضالي” كامل توجه بمكان سكناه الجديد؟! 

العبور بسوريا نحو العصر الحديث لا يتطلب عسكرياً ولا حتى “قائداً”، يكفي لهذه المهمة خبير متمكن، حتى تطمئن النفوس إلى سلامة الطريق. “القائد” بحاجة إلى عدو يقود الأمة لمواجهته. وحسب تصريحات الشرع، بعد ارتدائه ربطة العنق، فسوريا لا تريد عداوة مع محيطها، أو مع أحد. إنها تريد سلاماً وازدهاراً. وهذا يعني، أول ما يعنيه، تحويل كل “القادة” و”الأمراء” و”الفرسان” إلى التقاعد الفوري. طبعا الأمن الداخلي، ليس بحاجة إلى “فرسان” و”قادة”، إلا إذا كانت هناك “مؤامرة” من عدو خارجي يغذي عدواً داخلياً، أي أننا سنعود إلى الحشد وإلى العداوة مع محيط قريب أو بعيد.

ولأن الأمر صعب فعلاً، ليس على الشرع، ولا على محيطه المباشر من “القادة” فقط، بل أيضاً على بيئة كاملة أنتجت هؤلاء القادة، كما أنتجت “القائد المفدى” قبلهم جميعاً، فإن إمكانية العبور بسوريا إلى العصر الحديث، تصبح مهددة دائماً من مفهوم ما زال يتمتع بصدى وشعبية هائلين، إنه مفهوم “القائد” نفسه.

والمشكلة هنا لا تتعلق فقط بمن يحمل هذا اللقب حالياً؛ أي أحمد الشرع، فالشعب نفسه، الغالبية السنية منه إن أردنا أن نكون أكثر تحديداً، يعيش تلك المشكلة التي سيُفرض عليه مواجهتها، إن كان يريد فعلاً العبور بالبلاد إلى المستقبل. 

أعتقد أن ارتداء ربطة عنق، أو امتلاك عدة لفظية محدثة، وقدرة على التعامل مع السوشال ميديا بآخر إصداراتها وأوسع مؤثريها انتشاراً، غير كاف للإجابة عن تاريخ عمره مئات الأعوام، ينحدر منه “القائد” الجديد، باعتزاز لا يُخفيه، ولا أي من محيطيه، ولا حتى المحيط الاجتماعي الأوسع الحاضن والمؤيد لهم. الأمر بحاجة إلى عدة أكثر تعقيداً وعمقاً من تلك المتوافرة حتى الآن… وأهم ما فيها، هو القدرة على امتلاك رؤية نقدية لتاريخ كامل يبرر لهذه العسكرة، بل يمنحها مشروعية فوق أية مشروعية أخرى. إنها القدرة على الانفصال عن رؤية كلاسيكية تبجيلية راسخة، أزعم أنها لا تزال سائدة حتى يومنا هذا، تمنع مراجعة كاملة للإسلام، بصفته تجربة إنسانية أولاً، وبصفته؛ في ما يخص بحثنا هذا، ديناً حربياً في واحد من أبرز وجوهه. 

رؤية مختلفة للإسلام مرة أخرى!

العبارة “الإسلام دين حربي” تشكل استفزازاً كبيراً لجميع المؤمنين. يُفترض، ولو نظرياً على الأقل، أن الإسلام دين رحمة قبل أي شيء آخر. ولكن الحقيقة، أن “المشروع” الذي تقدم به محمد إلى أتباعه وأقرانه في مكة، كان معنياً بشيء آخر أكثر من التراحم بين البشر. وهذا كان معلناً فعلاً بدءاً من المراحل الأولى لدعوته، عندما كان يبشر أتباعه قائلاً “والله ليُتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، وليُفتحَن عليكم كنوز كسرى وقيصر”؛ رواه خباب بن الأرت، وأخرجه البخاري، أو “الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام… الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس…”؛ رواه البراء بن عازب وأخرجه ابن حنبل. 

طبعاً، الحديثان أعلاه يُنسبان إلى محمد خلال شدائد مرت بها دعوته، سواء في فترة الاضطهاد التي مر بها أتباعه في مكة، حيث رُوي الحديث الأول، أما الثاني فكان خلال حفر الخندق حول المدينة خلال غزوة الأحزاب. ويمكن أن يبرر الوعد بكنوز كسرى وقيصر ومفاتيح فارس والشام، كنوع من رفع المعنويات وقت الشدائد. إلا أن النظر، ليس فقط إلى الإشارة إلى “الغزو” لإمبراطوريات مجاورة، والسطو على كنوزها، وهو في نهاية المطاف مبرر بالاستناد إلى طبيعة “العلاقات السياسية” بين الممالك والإمبراطوريات في عصر محمد، بل أيضاً إلى تلك الرسالة التي تحملها الكلمات التشجيعية لأتباعه، والتي لم تكن لتغيب عن أسماع معارضيه، ممن وُصفوا بـ “مشركي” مكة؛ النظر إلى تلك الرسالة بالذات يشي بـ “مشروع” وليس مجرد وعود. 

طبعاً الفرضية هنا ليست بأثر رجعي، بمعنى أن وعود محمد تحققت في نهاية المطاف، ونشأت إمبراطورية إسلامية كبرى على أنقاض الإمبراطوريتين الكبيرتين في ذلك الوقت، الفارسية والرومانية البيزنطية؛ الفرضية هنا تشير إلى صيغة كان يُعد لها بطريقة واضحة، مع بدايات الدين الجديد، بل دخلت في صلب شعائره. 

الأمر هنا لا يقتصر فقط على رفع الشهادة في سبيل الله؛ الموت خلال المعركة، إلى أعلى مرتبة بعد النبوة مباشرة، بل أيضاً يصل إلى الصلوات الخمس نفسها. إذ يخطر السؤال دائما حول المغزى من تكليف المؤمنين بالصلاة خمس مرات في اليوم، وهو أمر مرهق لأي مؤمن، وبحركات صارمة محددة، مع الحض على صلاة الجماعة، بانتظاميتها وصرامة حركاتها، إن لم تكن بدورها إعداداً نفسياً وبدنياً إلى حد ما، للجماعة المنضبطة المقاتلة؟ 

لا يمكن القول إن محمداً قد جاء بشيء جديد على زمانه وبيئته، بالعكس، هو ما فعل إلا أن حاول إيصال دعوته الجديدة إلى ذروة معروفة تماماً لأبناء بيئته، وهو أمر أسهبنا في إيضاحه في مقدمة هذا المقال- وإن كان الوصول إلى تلك الذروة مستبعداً جداً في بداية الدعوة، بالاستناد إلى ميزان القوى. وبالتالي، فإن الوجه الحربي لـ “الدين الجديد” ما كان من الممكن إخفاؤه، وهو في كل الأحوال يشكل الوسيلة الأمثل للوصول بـ “الوعد” المحمدي إلى منتهاه. 

ما حصل لاحقاً، وطيلة قرون طويلة منذ انطلاق دعوة محمد في مكة في القرن السابع الميلادي، إلى يومنا هذا، أن أية مراجعة جدية للإسلام، في أي من وجوهه المتعددة لم تحصل، ولم يكن مسموحاً بها أصلاً، وسلطات كاملة، إمبراطوريات، ممالك، مدن ممالك، إقطاعات، إمارات، سلطنات، ولاحقاً دول، يُفترض أنها “حديثة”، أقامت شرعيتها كاملة على فهم محدد أرثوذكسي رسمي صارم، يدّعي الواحدية مع أنه متعدد للحقيقة، ولكن هذا مبحث آخر، لهذا الإسلام. 

معالم في الطريق لفهم تاريخنا كبشر

إذاً، فإن مسعى الخروج من تلك العسكرة، كنمط حياة مشروع، أو مفروغ منه وغير عرضة للنقاش لمن يريد القيادة، يتطلب بداية أن نعيد نظر في الأساس “الشرعي” الذي تقف عليه رؤيتنا السياسية الجمعية برمتها. وأن نقبل بأن ما مضى لا يمتلك أية راهنية فحسب، بل مرفوض بصفته مرجعاً لأية رؤية مستقبلية كانت، أو حتى ماضية، من خلال تناول ما حصل في تاريخنا بصفته مقدساً محضاً، ولا علاقة له بالحياة الدنيا، وخياراتها، وشروطها، وإكراهاتها في أي حال من الأحوال. أي بالتاريخ البشري بصفته صناعة بشرية قبل أي شيء آخر. 

هذا التناول التقديسي لتاريخنا، وللأرضية التي تقف عليها رؤيتنا السياسية المعاصرة، يبلغ ذروة المعاندة مع واحد من مراجع قادتنا الجدد: سيد قطب نفسه، ومن خلال كتابه “معالم في الطريق”. حيث وصل إلى مرحلة برر فيها الغزو الإسلامي، “الفتوحات الإسلامية”، بصفته دعوة إلى التحرير! حيث رأى أن تلك الفتوحات لم تكن غزواً لأراضي الآخرين بهدف السيطرة، بل كانت وسيلة لتحرير الشعوب التي كانت تعيش تحت أنظمة حكم لا تتيح لهم فرصة اختيار الإسلام بحرية.

ووفقاً لفكر سيد قطب، فإن الإمبراطوريات القائمة آنذاك (مثل الفرس والروم) كانت تفرض قيوداً على حرية الأفراد في تبنّي الإسلام، ولذلك اعتبر أن من واجب الدولة الإسلامية إزالة تلك العقبات لتمكين الأفراد من سماع رسالة الإسلام واتخاذ القرار بأنفسهم. وهذا بالاستناد إلى جوهر رؤيته بأن الإسلام جاء لإخراج الناس من عبودية البشر إلى عبودية الله، وبالتالي اعتبر الفتوحات نوعاً من التحرير من الظلم والطغيان السياسي والديني. 

هذه الفرضية، لا تزال هي الفرضية المركزية لكامل تيارات الإسلام الجهادي السلفي، الذي تنحدر منه القيادة السورية الحالية. فكيف بإمكان من لا يزال يدور في فلك أفكار كهذه، أن يقود بلداً كاملاً باتجاه عصر جديد، من دون أية مراجعة، ومن دون حتى السماح بالقيام بتلك المراجعة من آخرين، تحت طائلة التكفير؟! 

وإن كان ولا بد من الحديث عن “معالم في الطريق” نحو الخروج بسوريا إلى العصر الحديث، فإن أول معلم يجب أن يُرى، حتى نطمئن أننا سلكنا ذلك الطريق فعلاً، هو الخروج من تلك المرجعية الضيقة، وإفساح المجال لرؤى ومراجعات جديدة بالظهور، والتعامل مع العسكرة ومفهوم “القائد” بالدرجة الأولى، بصفته جزءاً من تراث مضى، نفهم سياقه الكامل وقادرين على تجاوزه، في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى.

من صيد الوحوش إلى صيد الجن والعفاريت!

بغير هذا، سنكون قد أغلقنا الأفق، وتحول مسار الخروج باتجاه عصر جديد إلى مجرد كذبة… في كل الأحوال، كنا جميعاً في ظل الطاغية الأسد نعرف سلفاً أن تحرير فلسطين كان كذبة، وادّعينا التصديق، وكان الثمن أن حيواتنا كلها دُمرت، فهل سنعيد الكرة مرة أخرى، وندفن رؤوسنا في الرمال، ونتنازل عن حقنا بتقرير مصائرنا بأنفسنا، رادين ذلك الحق إلى “قائد” جديد، لن يلبث بدوره أن يعثر لنا على “عدو” جديد، ليبرر فقط “قيادته”، ولن يكون هذا العدو سوى أولئك الذين طالبوا بحقهم بالمراجعة والنقد بحرية؟! 

المخيف أنه في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بدور “القائد” وتنظر إلى العسكرة بصفتها نمط حياة مشروعاً، تكون في عمق وجدانها مجتمعات متأهبة، لأن هناك تهديداً ما قائماً من طرف ما. وبالتالي يصبح الهاجس هو البحث عن مصدر هذا التهديد… البحث عن عدو… وإن لم يوجد، فلا بد من اختراعه. 

والمشكلة، عند الطرف المقابل، أن هؤلاء المطالبين بحق المراجعة، وفي ظل عالم ينحو يميناً بشكل مرعب، لا أحد يدعمهم، ولا توجد “مؤامرة” خلفهم، بل هم في حقيقتهم أقلية آخذة في الاضمحلال في ظل سُعار “مؤثري” السوشال ميديا وسطحيتهم، التي ألغت منصاتها الكبرى، حتى آلية المراجعة والتدقيق للتأكد من حقيقة الأخبار المتداولة عليها، مداهنة للعجوز الفاشي، العائد إلى سدة الرئاسة في أميركا. وبالتالي، فإن إعلان الحرب عليهم، أو حتى الجهاد، لن يكون مبرراً، وهم أفراد معزولون، إلا إن كانت هناك قوى خفية من الجن والعفاريت تدعمهم. وبالتالي يكسب “القائد” بهذا معركته الجديدة، ولو حتى ضد طواحين الهواء… وفي ظل وضعنا الراهن، لا أظن أن الوصول إلى هكذا صيغة مستبعد بأي حال من الأحوال…