أتذكر الآن أنّه ولأجل عدم ارتداء المعطف (المانتو) الأسود كيف أنّه كان يُشار إليّ بالبنان في الجامعة، ولم يمضِ وقت حتى غدوت مثيرة لغضب حارس الأمن والانضباط، وكان يُحاول أن يتخذ إجراءات تأديبية بحقّي، مع ذلك لم أكن أملك سوى معطف أخضر وآخر أزرق. لم يكن هناك ما يمنع قانوناً من ارتداء معطف بلون معيّن، لكن معظم الطالبات في الجامعة كنّ يرتدين الأسود، واعتادت الأعين على رؤية الأسود، لهذا السبب كان مظهري غريباً بالنسبة إلى حارس الأمن والانضباط، وكان يودّ لو يُلحق بي عقوبة ما.
كان من الغريب بالنسبة إليّ أنّه وعلى رغم تاريخ الإيرانيين الطويل، في ما يخصّ ارتداء الألوان الزاهية والملوّنة، أنّه وخلال وقت قصير صرنا عنيفين لهذه الدرجة ضدّ الألوان. لسنوات كثيرة لم تعد ترى في المدن الكبرى اللباس التقليدي للأقوام الإيرانية المختلفة من نسوة الأكراد والجيلاك والتركمان والبدو. في كلّ حال، فإنّ ارتداء الملابس الزاهية والملونة كان جذّاباً بالنسبة إليّ، فأنا أحسّ أنّ ألوان ملابسي تعكس حالتي الروحية والعاطفية والمزاجية، وفي المقابل، ينعكس أيضاً على محيطي، ربما لأجل ذلك أنظر إلى كلّ شيء حولي وأربطه باللون، لذا فقد دوّنت وسجّلت ملاحظاتي حول تغييرات الألوان في لباس النساء في مدينة طهران خلال عقدين.
مكاتب متّشحة بالسواد
في هذه الأيام، على خلاف عقدين أو ثلاثة عقود مضت، ليس من المستغرب أن تسير فتاة أو امرأة في منتصف العمر في الشوارع بملابس ملونة، ومع ذلك، فإنّ نسبة النساء اللواتي يرتدين الألوان الداكنة والقاتمة مثل الأسود أو الرمادي أكثر من اللاتي يرتدين ألواناً مشرقة وملوّنة؛ كالأحمر والأصفر والأرجواني. يمكن العثور على الملابس بالألوان الداكنة في أماكن مثل البسطات والعربات الخاصة بلباس السيدات في مترو الأنفاق، حيث تحتوي على مجموعة كبيرة من العباءات و”الشادور” والحجاب، وبخاصة في ساعات الذروة للمترو، حيث أنّ معظم المسافرين يروحون ويجيئون من الجامعة وإليها أو أماكن العمل.
ويفضل كثر من أرباب العمل الحكوميين الموظّفات المتشحات بالشادور أثناء العمل، بمعنى لباس أسود من الرأس وحتى أخمص القدمين، ويجبرون الموظفات على ارتداء الألوان الداكنة، أحياناً بالترغيب وأحياناً أخرى بالترهيب، وبسبب الظروف الاقتصادية السيئة وانخفاض مستوى الأمن الوظيفي، فإنّ كثيرات من النساء غير مستعدات للتضحية براتب ثابت، وتأمين، ومزايا أخرى، لأجل تفصيل من قبيل لون اللباس، حتى أنّ بعض النساء من اللاتي لا يؤمنّ ولا يلبسن الشادور في العادة، مستعدّات للبسه في موقع العمل.
قالت لي إحدى العاملات في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون أنّه ومنذ سنوات تم فصلها من العمل في المؤسسة بسبب ارتدائها لمعطف بلون غير تقليدي؛ والألوان غير التقليدية هي الألوان ما عدا الأسود والبني أو الرمادي. سألتها عن سبب عدم تلبيتها مطلبهم في ارتداء لباس ذي لون داكن، للحفاظ على الوظيفة؟ لم تستغرب طرحي السؤال، فسبق أن سمعته، وقال عنها البعض يبدو أنّ هناك من أصدقائها المقرّبين من لعب بعقلها، لأنّها عاقلة ولا تفكر على هذا النحو!
لكنّها قالت لي: “أحبّ عملي، لكن لا أستطيع أن أمنح أحداً الحقّ في التدخل بلون ملبسي”، وتابعت: “يعتقد الإنسان حين يكون في مقتبل العمر أنّ الأكبر سنّاً يقولون الصواب. كان الأكبر سناً يقولون لنا إنّ علينا أن نكون في المنزل بهيئة معينة وفي المدرسة بهيئة أخرى. كنا معتادين على هذه الطريقة، وكان هذا السلوك المزدوج عادياً بالنسبة إلينا وإلى أترابنا. لكن الآن أفكر في ما لو كنّا على دراية بحقوقنا الأساسية والطبيعية منذ الطفولة، لكنّا الآن في وضع أفضل ومختلف”.
وترى أنّنا نعيش في مجتمع فاسد ومنافق، والآن وقد بلغت الأربعين، تُدرك وتفهم أنّ جزءاً من دمار المجتمع هو بسبب هذا السلوك المزدوج؛ هذا السلوك الذي نتبعه جميعنا بطريقة ما. “ربما ارتداء اللون المفضّل في الملبس ليس شيئاً مهماً، لكن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي جعلتنا منافقين بطريقة ما”. وبرأيها هذه ليست نظرة قاسية حيال أنفسنا، ولم يفت الأوان للبدء بأنفسنا.
أوضاعنا الراهنة وألوان ملابسنا
مريم شابة في مقتبل العمر لا ترى ارتباطاً بين المسائل الاجتماعية ولون الملبس والفساد المتزايد في المجتمع، وهي ترتدي اللون الأسود لأنّها تعتقد أنّها بدينة وأنّ ارتداءها الأسود قد يساعدها في أن تبدو أنحف. تقول: “هذا لا يعني أنّني لا أحبّ الألوان الأخرى، لكن لا أحبّ ارتداء الأحمر مثلاً كي لا أبدو بدينة أكثر”. أسألها، لماذا رأي الآخرين مهمّ بالنسبة إليها، ما يدفعها لتمتنع عن لبس اللون المفضل بالنسبة إليها والذي تحبّه، لكنّها لا تفكّر على هذا النحو، “ليس لأجل الآخرين. لكن أنا أحب ذلك”.
أذهب إلى إحدى صديقاتي والتي لم أرها مرتدية الأسود قط، سألتها، لمَ ترتدين ألواناً زاهية وملوّنة طوال الوقت؟ توضح أنّ جدّها هو سبب اختيارها ألوان ملابسها، إذ تقول: “كان جدي إذا رأى أحداً يرتدي الأسود يعترض ويسأل ممتعضاً ما إن كان هناك حِداد أو عزاء؟ ربما كان تأثيره في العائلة كلّها كبيراً، بحيث دفع أفرادها إلى رفض لبس اللون الأسود، بالطبع حين أختار لباسي لا أتذكر كلام جدي، لكن أعتقد أنّ الأمر بالفعل من تأثير العائلة والتربية التي اكتسبناها”. تقول: “في عائلتنا لسنا معتادين على ارتداء اللون الأسود”، هل هذا يعني أنّكِ لم ترتدي قط ارتداء الأسود؟، “لا أعرف تأثيرات اللون الأسود نفسياً في الإنسان، لكن حين أجد نفسي في مجموعة من الناس يلبسون ألواناً داكنة، أشعر بالتعب. في أيام الدراسة كنّا مضطرين لارتداء اللباس الرسمي الموحد. تصوري أربعين طالباً بلباس داكن موحد. أحمد الله على اجتيازنا تلك المرحلة”.
جغرافيا المدنية ولون اللباس
بعض مناطق طهران تغيّرت كثيراً في العقدين الأخيرين، إذ إنّها فقدت طباع السكان القدامى وآدابهم وسلوكياتهم، لكن في المقابل فإنّ بعض المناطق حافظت إلى حد ما، على عاداتها التقليدية. على سبيل المثال، فإنّ المنطقة 14 من المدينة، والتي تعدّ الآن جزءاً محسوباً على المدينة القديمة، تجد لافتة مدوّن عليها عند المدخل (دار المؤمنين) كتعريف للمنطقة. في هذه المناطق إن كنت تتجوّل في الشوارع بمعطف وحجاب ملونين فستجد كيف أنّ الآخرين ينظرون إليك بشزر، بخاصة إن كان ذلك في أشهر كرمضان أو محرّم وصفر التي ينظر إليها الناس هنا نظرة احترام وتقدير، ويلبسون الأسود حداداً في مثل هذه الأشهر.
بالطبع حتى في المناطق ذات الطابع المذهبي في مدينة طهران لم يكن التعصّب الديني عند الناس على هذا النحو حتى منذ سنوات خلت، في كلّ حال فإنّ تنوع الملبس وألوانه للفتيات والنساء يختلف حين تنتقل من الشمال إلى الجنوب، أو من الغرب إلى الشرق، فتجد بين بعض سكان أجزاء من مناطق الجنوب والشرق من إيران نساء أكثر يرتدين الشادور. كما أنّ تنوع الألوان في هذه المناطق أقلّ من المناطق الأخرى.
في موقف الميرو في ساحة الشهداء، يجذبني حديث امرأتين في منتصف العمر. إحداهن ترتدي الشادور وحجاباً وتشدّه بيدها، والأخرى ترتدي معطفاً وحجاباً تشدّه لئلا يبدو شعرها أبداً، عندما أرى هذا الطراز من الملبس، أهتم للحديث. كانتا تشكوان من بنات هذا العصر، وتتذمّر إحداهنّ من لون معطف ابنتها وحجابها. يبدو من الواضح أنّ موضوع اللباس ولونه وما تحب البنت ارتداءه هو موضوع نقاش دائم بين الأم وابنتها. تقول إنّ الألوان التي تحبّها ابنتها (ليست لائقة بعائلتنا) وإنّه إن سمع أو شاهد أحد معارفهم (أحد أفراد عائلتنا) من دون شادور فإنّ شرف العائلة سيتعرّض للأذى. كان هذا مهمّاً بالنسبة إليها أكثر من أي شيء آخر. أنزل في أحد مواقف المترو في شارع بيروزي، وأتركهنّ ليتابعن حديثهن ويشكين لبعضهنّ بعضاً.
يمكن فهم الصعوبات التي تعترض الفتيات والنسوة اللاتي يعشن في هكذا بيئات ويردن ارتداء لباس بألوان زاهية وملونة، إذ عليهنّ بداية تجاوز منع العائلة إياهن، ثم يفكرن بعدها بالخروج إلى الشارع.
ألوان أخرى غير المعطف والحجاب
قبل أعوام مضت كان مجرّد ارتداء معطف وحجاب ملوّنين يعدّ جرأة وشجاعة، لكن عدا ذلك لم يكن هناك ما تفعله هؤلاء النساء سوى القيام بارتداء معطف وحجاب ملوّنين، لكن في الوقت الراهن تغيّرت الأوضاع والأجواء في المدينة، وبالإمكان إظهار الألوان من طريق طلاء الأظافر بتشكيلة ملوّنة واسعة وكذا المكياج بألوان كثيرة تغيّر الوجه إضافة إلى صبغات الشعر المختلفة.
في عقد الثمانينات وأوائل عقد التسعينات؛ أي في حقبة الحرب وبعدها، لم يكن طلاء الأظافر والمكياج في وارد النساء، وقليلات من النساء فقط كنّ يفكرن بالخروج من المنزل مع مكياج وطلاء أظافر، وكان يُشار إليهنّ بالبنان، كمجموعة نشاز ملوّنة. في هذه الأيام ليس مستغرباً أن تجد نساء بطلاء أظافر ملونة وحجاب ملون وحتى شعر ملوّن بصبغات مختلفة من الأحمر والبنفسجي وحتى الأصفر والأزرق. وربما كان الفضاء المحدود لاستخدام الألوان دفع البعض إلى استخدام ألوان أكثر، ومهما كان السبب في استخدام المكياج الملون فإنّ الألوان وثقافة استعمال الألوان تتسع في المدينة.
في معظم الأماكن التي توجد فيها نساء مثل مكان العمل أو الجامعة ستجد نساء بألوان مختلفة، وتغيير المكياج والألوان في مكان مثل الجامعة حتى وإن كان يجلب التهديد والوعيد لهنّ من قبل الأمن والانضباط، فهو لا يدفعهنّ إلى الكفّ عن القيام به، حيث يمتنعن عن المثول لمطالبهم.
أفكر في نفسي ما إن كانت الفتيات اليوم أكثر جرأة وشجاعة من فتيات العقود الثلاثة الماضية مثلاً؟ هل كان جيل الثمانينات والتسعينات وافق وانقاد للمحظور والقيود ولبس الأسود طيلة تلك العقود لأجل ذلك؟ هل اختيار لون الملبس وحقوق مثل هذه الأشياء تؤدي إلى انتشار النفاق والفساد في المجتمع؟
أفكّر في مثل هذه الأسئلة وتراودني عشرات الأجوبة، لكنّ أياً من هذه الأجوبة لا يرضيني. ربما لا تسمح لي النظرة إلى الماضي ومواجهة نفسي بأن أتهرب من المسؤولية الملقاة على عاتقي أيضاً.
كتابة ليلى رضايي
ترجمة عباس علي موسى
هذا المقال مترجم عن موقع آسو باللغة الفارسية ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
إقرأ أيضاً:
جدار طهران الكبير
الفنّ الشمولي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية