الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز في محكمة وأمام قاض ويحاكَم بتهم فساد من المفترض أنه اقترفتها مع بعض أعوانه. هذا المشهد الذي تشكّل في 25 كانون الثاني/يناير، كان واحداً من أبرز مطالب معارضي ولد عبد العزيز أيام حكمه، وناضلوا من أجله معتبرين أنه لو تم بالشكل السليم، فقد يؤسس لمستقبل واعد في موريتانيا قائم على تكريس الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، إذ رسم المشهد بداية فصل جديدة من حكايات الحكم في موريتانيا، فصل قد يطول وفق المتتبّعين للقضية.
ولد عبد العزيز مُتهم بمجموعة من القضايا المتعلقة بالفساد، مثل تبديد ممتلكات الدولة العقارية والنقدية، إساءة استغلال الوظيفة، استغلال النفوذ، غسيل الأموال، إعاقة سير العدالة. وتشمل المحاكمة أيضاً، مجموعة من المسؤولين في نظامه، ضمن ما يعرف إعلامياً بـ “ملف العشرية” الجدلي.
مسار مكتظّ بالصراعات
يوصف ولد عبد العزيز(66 سنة)، بأنه أحد أكثر الرجال الذين حكموا موريتانيا جدلاً وارتباطاً بقصص المال العام والإثراء غير المشروع، فهو الرجل الذي دخل الجيش عام 1977، بصورة مشكوك فيها، إذ يتّهمه معارضوه بأنه لم يكن ذا مستوى دراسي مرموق، يخوّله تبوؤ المناصب التي كان يشغلها في الجيش.
تميّز مساره بالصعود السريع لسلالم الجيش والترقّي في الرتب العسكرية وتولّي المهام العسكرية المهمّة، ليصل عام 2008 إلى رتبة جنرال في عهد الرئيس الموريتاني حينها سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله (حكم موريتانيا ما بين 2007 / 2008) الذي كلفه بقيادة حرس الرئيس الخاص.
لم تكن علاقة الرجلين على ما يرام، وقد انتهت بانقلاب ولد عبد العزيز على الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله، بعدما أقال الأخير، في 6 آب/ أغسطس 2008، محمد ولد عبد العزيز من قيادة الحرس الرئاسي.
انقلب ولد عبد العزيز بعد إقالته بساعات، على ولد الشيخ عبد الله، الذي أتت به الانتخابات الرئاسية التي نُظمت في موريتانيا، بعد سنتين من حكم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية برئاسة أعل ولد محمد فال، الذي حكم موريتانيا ما بين 2007/2005، وذلك عقب الانقلاب على الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطائع (حكم موريتانيا ما بين 1984/ 2005)، وهو الانقلاب الذي شارك فيه ولد عبد العزيز أيضاً آنذاك، ويعتبر بعض المراقبين أن الانتخابات التي فاز بها سيدي ولد الشيخ عبد الله هي الأكثر “شفافية” في تاريخ موريتانيا.
جوبه انقلاب ولد عبد العزيز حينها، بالرفض والمقاومة من طرف المعارضين الموريتانيين بأطيافهم المختلفة، فاستقال بعدها من المجلس العسكري الذي تشكّل على خلفية انقلابه، وترشّح للانتخابات الرئاسية بعد أن وقّع اتفاقاً مع المعارضة في العاصمة السنغالية داكار، عُرف إعلامياً بـ”اتفاق داكار”، وفاز ولد عبد العزيز بالانتخابات التي نُظمت بعد ذلك في عام 2009 على وقع اتهامات له من المعارضين بتزوير الانتخابات، واتهامات لاحقة له بالتنصّل من “اتفاق داكار” مع المعارضة.
ألقى ولد عبد العزيز حينها خطابات حول محاربة الفساد وقطع دابر المفسدين ودعم الفقراء كونه رئيسهم، لكن عهده تميز بتصاعد الاحتجاجات الرافضة لحكمه والمتّهمة إياه بالفساد والإفساد والنهب المستشري واستخدام النفوذ وسحق الدستور والدوس على القوانين والحط من قيم الجمهورية، وإهانة المعارضين والتنكيل بهم، إذ وصف قادة معارضته بالثوار العجزة، وناشطي الشبكات الاجتماعية بالقطط.
أعيد انتخاب ولد عبد العزيز عام 2014 في انتخابات قاطعتها أكبر الأطياف المعارضة الموريتانية، واستمر الاستقطاب السياسي في موريتانيا، وظل يتصاعد مع الاحتقان الشعبي والمطلبي.
يقول الناشط الموريتاني الحسين محمد عمر، لـ”درج”، “على رغم أن هناك صفات تميز الأنظمة العسكرية بشكل عام، إلا أن نظام الرئيس السابق تميز بالفساد، إذ حلت موريتانيا في عهده في مراتب متأخرة على مؤشر الشفافية الدولية، كما تميز حكمه باستقطاب حاد بينه وبين الأحزاب المعارضة، واحتقان عام ساد المشهد السياسي والحقوقي، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، كانت هناك إنجازات مهمة وإن لم تكن تتناسب مع الفترتين الرئاسيتين، أهمها مستشفى القلب”.
خرج ولد عبد العزيز من مشهد الرئاسة وجدل الحكم في 2019، إذ لم يترشح لفترة رئاسية ثالثة، وهو ما يمنعه الدستور الموريتاني، ليعلن وقوفه مع صديقه وزميله الجنرال محمد ولد الغزواني (63 عاما)، الذي يحكم موريتانيا حالياً، لكن الجدل حول ولد عبد العزيز تجدّد، وعاد الى المشهد العمومي من باب المحاكمة بتهم متعلّقة بالفساد، وحكايات عن خلافات مع “صديقه السابق” حاكم موريتانيا الحالي.
محاكمة ولد عبد العزيز
مرّ “ملف العشرية” أو “محاكمة العشرية” بمراحل عدة، سرد المحامي الموريتاني محمد سيدي ولد عبد الرحمن، لـ”درج” بعض تفاصيلها قائلاً، “بدأت مساءلة الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز والمشمولين معه في ملف العشرية، بتصويت الجمعية الوطنية على إنشاء لجنة تحقيق برلمانية، في مستهل عام 2020. ومع مضيّ النصف الأول من السنة نفسها، أكملت لجنة التحقيق البرلمانية تحرياتها، ورفعت تقريرها الى وزير العدل، فأحاله بدوره الى النيابة العامة التي أمرت شرطة الجرائم الاقتصادية بالتعهد ببحث ابتدائي خُتم في نهاية العام نفسه، وأحيلت محاضر استجواب أكثر من 300 شخص والخلاصات التي توصّلت إليها الشرطة، الى النيابة العامة التي هي سلطة الاتهام”.
يضيف ولد عبد الرحمن مستطرداً، “بدأ عام 2021 المرحلة القضائية للملف رقم 2021/0001، واتسمت هذه المرحلة التي طالت عامين كاملين (2021 و2022) بالبطء، وطبعها التراخي، على رغم أنها لم تضف عناصر حاسمة الى القضية، ويبدو أن تساهل النيابة العامة لعب دوراً في ذلك، إذ اتّهمت عدداً محدوداً من الأشخاص، ولم تطلب من قطب التحقيق، المختص في قضايا الفساد، أن يأمر بحبس المتهمين احتياطياً، وإنما اكتفت بطلب وضعهم تحت رقابة قضائية انتهت صلاحيتها قبل المحاكمة”.
وأشار ولد عبد الرحمن أيضاً، إلى أن أحد تجليات التراخي في المحكمة المختصة بمحاربة الفساد، أنها لم تنعقد للبت في التهم إلا بعد انقضاء فترة الرقابة القضائية التي يسمح بها القانون، والتي حددها بشهرين ونصف الشهر، على أن تكون قابلة للتجديد خمس مرات لا أكثر (المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية)، وبعد انقضاء عام من الرقابة القضائية لم يعد القانون يوفر أدوات يمكن الاستناد إليها لتقييد حرية المتّهمين (قبل صدور حكم في الأصل)، وفي هذه الظروف، سافر محمد ولد عبد العزيز (المشمول الأول في الملف) خارج البلاد، ما حمل كثيرين على الاعتقاد بأن السلطات لم تعد حريصة على متابعة المشمولين في القضية.
عاد الرئيس السابق طواعية إلى أرض الوطن، وبدأ بالتحدث عن عزمه على المشاركة في اللعبة السياسية. وبالتزامن مع بدء التحضير للانتخابات التشريعية والبلدية، حرّكت السلطات ملفاً تُعتبر النيابة الطرف الرئيسي والمتحكم الأول فيه، ولأنها مأمورة اعتقد البعض بأن غاية المتابعة هي تحقيق مآرب سياسية، وخلص إلى أن المسطرة غير مدفوعة بإرادة لمحاربة الفساد.
يقول ولد عبد الرحمن: “في اعتقادي، ينبغي أن تتم إجراءات المتابعة القضائية الجدية على الفور وحتى النهاية، فالقانون يلزم بتسريع التحقيق تحت طائلة مخاصمة القضاة، فمحاربة الفساد تتطلب صرامة وحزماً وشعوراً ينسفه التراخي لما يتركه من انطباع بعدم جدية المتابعة، بخاصة بعد تفويت النيابة فرصة حبس المتهمين احتياطياً في وقائع بالغة الخطورة. وأحد الخروق المسجلة، في نظري، عدم وضع جميع عناصر الملف تحت تصرّف دفاع المتهمين إبان التحقيق، وهو حق يكفله القانون (المادة 105 من قانون الإجراءات الجنائية)، وحبس المتهمين حالياً في أماكن غير معدّة لتقييد الحرية”.
ووفق ولد عبد الرحمن، بالنظر الى التهم ومواد التكييف، هناك عقوبات أصلية يمكن أن تحكم بها المحكمة في حال الإدانة، وهناك إدانات مدنية محتملة، موضحاً: “في ما يتعلق بالعقوبات الأصلية يمكن الحكم، كحد أقصى، بسجن عشر سنوات وغرامة عشرة ملايين أوقية قديمة ومصادرة الممتلكات (المواد 2، 10 و17 من قانون الفساد)، ويمكن الحكم بالحرمان من الحقوق الوطنية لمدة عشر سنوات (المادة 379 من قانون العقوبات). وهناك إدانات تبعية لا يلزم القانون المحكمة الجنائية بأن تحكم فيها، ويتيح لها أن تحتفظ للطرف المدني بالمطالبة بها أمام المحاكم المدنية، وهي تعويض الطرف المدني (الدولة الموريتانية) عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الأفعال موضوع المتابعة”.
أحاديث التسييس
لم تمر هذه المحاكمة من دون أن تتلطخ بأحاديث حول التسييس، وتتزايد وتيرة ذلك النقاش مع كل جلسة من جلسات المحاكمة، واستخدام القضاء لضرب خصوم السلطة، وهي تهم كانت توجَّه الى حكم ولد عبد العزيز، وحضر نقاش تصفية الحسابات السياسية بين العسكر المتحكمين في الدولة. وفي هذا الإطار، قال المحامي ولد عبد الرحمن، إن “النظام القضائي الموريتاني يأخذ بمبدأ تبعية النيابة العامة لوزير العدل، أحد أعضاء السلطة التنفيذية. ونظراً الى كون النيابة العامة هي المدعية في القضايا الجنائية، لأن القانون يخوّلها تحريك الدعوى العمومية، ولأن الإجراءات الجنائية تلزم القضاة الجالسين بأخذ رأي النيابة العامة وإحالة الملفات الجزائية إليها قبل اتخاذ أي قرار، ونظراً الى كون وزير العدل هو الذي يقرر واقعياً تحويل القضاة جميعهم، جالسين وواقفين، ويقترح لائحة التحويلات على المجلس الأعلى للقضاء الذي يمرر مقترحه غالباً من دون تعديل، ولأن رئيس الجمهورية يختارُ ويعين رئيس المحكمة العليا، لكل تلك الأسباب يمكن القول إن السلطة التنفيذية في موريتانيا تتحكم في القضاء من طريق ذراعها القضائية (النيابة العامة) وأن القضاة الجالسين كثيراً ما انصاعوا لإرادتها”.
المحاكمة كحاجة
هذه المحاكمة فتحت أيضاً، نقاشات حول أهمية وجود رئيس وأعوان له يحاكمون بتهم فساد، وهو مشهد غير مألوف في موريتانيا وفي بعض جوارها، الدول التي يرى بعض المراقبين أن الإفلات من العقاب يميّزها، وإن كان سجن الرؤساء في موريتانيا أمراً متكرّراً بل هو الحالة العادية لكثرة الانقلابات العسكرية فيها، لكنه يظل غالباً سجناً من دون محاكمة وبتهم مغايرة لتلك الحالية. ووفق المحامي ولد عبد الرحمن، “فإن مساءلة الرؤساء السابقين وأعوانهم ليست جديدة في موريتانيا وجوارها، فالانقلابات فيها أحداث معتادة، ومن المألوف بعد كل انقلاب أن يعمد المنقلبون إلى متابعة الرئيس المخلوع وكبار معاونيه. صحيح أن التهمة التي تثار عادةً هي الخيانة العظمى، لكن بالنظر الى سياق المحاكمات والملابسات واستمرار جل رموز نظام العشرية في مراكز مسؤولية، لا أعتقد أن من شأن المحاكمة الجارية أن تساهم في الحد من صولة الفساد وسطوة المفسدين”.
إقرأوا أيضاً:
من داخل المحاكمة
يقول الصحافي الموريتاني الربيع ولد إدومُ، الذي يغطي المحاكمة، لـ”درج”: “هذه المحاكمة مهمة في دعم مكافحة الفساد بشكل عام، ووضع المسؤولين الموريتانيين أمام مسؤولياتهم راهناً ومستقبلاً، بحيث تتم مساءلة ومحاسبة أي مسؤول موريتاني، سواء كان رئيساً أو وزيراً، على مساره وقراراته في أي وقت، وهذا لا شك في أنه داعم رئيس للدولة المدنية ودولة القانون والعدالة، وإن كان يثير الكثير من الأسئلة”.
ويؤكد ولد إدوم أن هذا الإجراء “يضع القضاء أمام تحديات كبيرة مثل إثبات قوة السلطة القضائية ومدى موضوعيته واستقلاليته عن السلطة التنفيذية، وهذا لن يتم إلا بتَسييرِ محاكمة عادلة، تُدعم أحكامها بالأدلة وروح القانون والمصداقية، هذه المحاكمة فرصة ثمينة لنقاشات قانونية مطوّلة حول قضايا الدستور والقانون الجنائي والمنظومة القضائية الموريتانية، ومدى التزام موريتانيا بالتعهدات الدولية، ومن النادر أن تحدث نقاشات كهذه في البلدان النامية التي يظل فيها القانون عادةً في الأدراج حتى تصبح السلطة بحاجة إلى تفعليه، وهي فرصة لحدوث نقاش موسّع حول الدستور والحصانة والاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان”.
ويضيف ولد إدومُ: “حسب مشاهداتي وأنا أغطي المحاكمة، هناك وجود لحقوق الدفاع وكل ما يتعلق بتسيير محاكمة منصفة بين محامي الدفاع ومحامي الدولة من جهة، والنيابة العامة من جهة أخرى، وهذا تشرف عليه المحكمة الموقرة التي يقودها قاضي دفاع له خبرة كبيرة”.
ويرى ولد إدوم أن هناك تحدياً أمام مواد القانون الموريتاني التي تمنع تصوير المحاكمات، فمفهوم العلنية اليوم مرتبط ببث المحاكمة عبر وسائل الإعلام الرسمية والوسائط الرقمية، أما ما يتحدث عنه القانون فيعود الى السبعينات، والمقصود به أن تكون المحاكمة مفتوحة أمام الجمهور لا وسائل الإعلام، وهذا أمر يثير أسئلة قد تؤدي إلى تغيير بعض القوانين الموريتانية.