بين عامي 2015 و2018، وبالتزامن مع صعود الأمير محمد بن سلمان، كانت الخطوات الإجرائيّة تجاه الإصلاحات الاجتماعية في المملكة، السرديّة السياسيّة المهيمنة في الإعلام السعودي. وقد توسعت المملكة، جزئياً، في إلغاء بعض جوانب نظام الولاية، ومن بينها السماح للنساء بقيادة السيارات، ومنح التراخيص بفتح صالات سينمائية، فضلاً عن زيادة نسبة توظيف النساء، وتحجيم نفوذ رجال الدين.
خلال هذين العامين، ثمّة حدثان ساهما في حدوث انعطافات حادة أمام ولي العهد، برغم خطابه الإصلاحي المزدوج والبراغماتي، والذي حاول من خلاله تعزيز فرصه السياسية، ورفع أرصدته لدى حلفائه في الغرب والولايات المتحدة. إذ إنّ الحرب في اليمن ثم مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في سفارة بلاده بإسطنبول، خفضا من فعالية محاولات بن سلمان تثوير البيئة التقليدية للمملكة كمجتمع محافظ ومغلق.
ومن اللافت، أنّ الأرقام الرسمية لمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أو ما يعرف بـUNHCR، وثقت تزايداً في أعداد اللاجئين السعوديين خلال الفترة ذاتها، بيد أنّ ذروتها بدأت بعد عام 2015.
ووفقاً للأرقام العامة للمفوضية، فإنّ عدد اللاجئين السعوديين، عام 1993، كان يبلغ 7 أشخاص، وذهبوا للإقامة في كل من الأردن واليونان والسويد، ليرتفع عدد اللاجئين وطالبي اللجوء عام 2017 إلى 2392 شخصاً، إذ استقبلت أميركا 1143 شخصاً وكندا 453 وأستراليا 191 شخصاً، إضافة إلى بريطانيا التي استقبلت 184 شخصاً وألمانيا 147 شخصاً.
كما تضاعف بين عامي 2015 و2016، عدد اللاجئين وطالبي اللجوء السعوديين بنسبة 52 في المئة، إلى 1963 شخصاً، بحسب التقرير الأممي، وذلك مقارنة بمعدل ارتفاع سنوي نسبته 13 في المئة، خلال العقد الماضي. وعام 2017 ارتفع الرقم 23.55 في المئة ليصل عدد اللاجئين وطالبي اللجوء إلى 2392.

وفي تقريرها السنوي، نهاية عام 2021، قالت لين معلوف، نائبة مدير المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “منظمة العفو الدولية”: “لم تكد تنحسر دائرة الأضواء عن السعودية بانتهاء قمة العشرين حتى عادت السلطات إلى ملاحقة الأشخاص بلا هوادة بسبب تعبيرهم عن آرائهم بحرية أو انتقاد الحكومة”.
وتابعت: “وتشير فترة التعليق القصيرة للقمع، التي تزامنت مع استضافة السعودية لقمة مجموعة العشرين في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إلى أن أي وهم بإجراء الإصلاح كان مجرد حملة للعلاقات العامة”.
غير أنّه في مطلع العام الماضي، تعهد ولي العهد (محمد بن سلمان) باعتماد قوانين جديدة، وكذا إصلاح القوانين القائمة “التي تحفظ الحقوق وترسخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان”، بحسب المنظمة المعنية بحقوق الإنسان. فيما حدد خططاً لمعالجة أربعة قوانين رئيسية: نظام الأحوال الشخصية، نظام المعاملات المدنية، النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ونظام الإثبات. لكن لم تنشر السلطات بعد أيّ معلومات عن أثر هذه الإصلاحات الموعودة.
وقالت معلوف إنّ “خطط السعودية لإجراء إصلاحات تشريعية وحقوقية محدودة لا تعني شيئاً، بينما تستمر عمليات الإعدام والمحاكمات الجائرة، والعقاب المتواصل للمدافعين عن حقوق الإنسان، والنشطاء، والصحافيين. إنّنا نحث مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على إنشاء آلية لرصد وضع حقوق الإنسان في السعودية والإبلاغ عنه”.
إذاً، لم تفلح رؤية بن سلمان التطويرية، التي روج لها مقربون، بشأن الانفتاح الاقتصادي أمام الرساميل الدولية، وخصخصة شركة “أرامكو” النفطية، وتدشين حفلات ترفيهية، فضلاً عن مراجعاته النقدية بشأن المرجعية الفقهية للمملكة (الوهابية)، في التملص من السجل الحقوقي المتدني، وكذا التبعات المتسبب فيها قرار الحرب باليمن، التي كبدت الاقتصاد السعودي أثماناً فادحة، وبالدرجة ذاتها وضع اغتيال خاشقجي الطموح السياسي لولي العهد تحت ضغوط جمّة، وقد فاقمتها التقارير الحقوقية والرسمية الأجنبية.

وألمح تقرير مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، نهاية العام الماضي، إلى أنّ تكاليف بارجتين حربيتين، تتبعهما 6 فرقاطات مرافقة، استأجرتهما السعودية لاستخدامهما في الحرب على اليمن، تبلغ 300 مليون دولار يومياً. وتحمل البارجة على متنها 6000 جندي بعدتهم وعتادهم، و450 طائرة بطياريها، وعليها أيضاً مدافع وصواريخ بعيدة المدى. وبهذا، يكون إجمالي تكاليف البارجتين مع توابعهما 54 مليار دولار خلال 6 شهور.
وتؤشر الأرقام إلى أنّ خطط بن سلمان المسماة بـ”رؤية 2030″، تواجه معضلات كثيرة ومتفاوتة. وقد أوضحت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية أنّ “خطة تحديث الاقتصاد السعودي تسير بشكل أبطأ مما كان مخططاً لها”. ولذلك، خفضت الميزانية الجديدة للسعودية في العام الجديد (2022) مخصصات الإنفاق العسكري بأكثر من 10 في المئة، وذلك مقارنة بالعام الماضي. وتضمنت الميزانية الجديدة 171 مليار ريال للإنفاق العسكري عام 2022، مقارنة بـ190 مليار ريال في 2021.
وبينما تعد السياحة في “رؤية 2030″، هدفاً رئيسياً لجهة تنويع الاقتصاد النفطي، إلا أنّ المملكة كذلك اضطرت لتأجيل استراتيجية التطوير لمدينة الرياض بحلول عام 2030 “لعدم اكتمال عناصر مهمة فيها”، وفق وكالة الأنباء السعودية.
بعث حفل “جوي أورد” في الرياض، الأخير، بأحداث ومواقف لافتة، كشفت عن ثنائية الإصلاح والقمع في السعودية، أو بالأحرى “صراع العروش”، ذلك المسلسل الأمريكي الشهير الذي استوحي من أحد مشاهده المقطع الدعائي لـ”موسم الرياض”، بينما ظهر فيه، كممثل إعلاني، إمام المسجد الحرام السابق، الشيخ عادل الكلباني، ما تسبب في انتقادات عنيفة وصلت حد مطالبته بـ”التوبة”.
وفي ظل محاولات محمومة للتغطية على الفجوات التي تصنعها السياسة والحرب والقوة الخشنة، ومن ثم، تعبئة مجتمع المنتفعين بالقوة الناعمة لإحداث الهيمنة الثقافية في نطاقات التأثير المحددة، برزت مناكفات واستقطابات أخرى، منها تصريحات بعض الفنانيين المصريين في المهرجان، والردود السعودية الحادة عليها.
وأثناء نفي الفنان المصري، محمد صبحي، تصريحات منسوبة له بخصوص مركزية السعودية الفنية وتراجع مصر في المقابل، قال إنه رفض عرضاً بـ”ملايين الدولارات” لتقديم عمل مسرحي على هامش موسم الترفيه في المملكة العربية السعودية. واستدعى ذلك رداً من رئيس هيئة الترفيه، تركي آل الشيخ، والذي غرد على حسابه في “تويتر”: “والله أنا أبي (أريد) أعرف من عرض الملايين نكشف على قواه العقلية…”.
الترفيه الجديد، من الحفلات الموسيقية إلى مباريات الملاكمة، أثبتت أنّها وسيلة إلهاء جيدة لجيل الألفية الجديدة المتحمس، وقد كان، حتى الآن، محروماً من التسلية.
وعلى ما يبدو، فإنّ “الترفيه” السعودي والذي هو “جزء من التنويع الاقتصادي”، بحسب الأكاديمية السعودية وأستاذة علم الأنثربولوجيا، مضاوي الرشيد، في كتابها: “الملك الابن: الإصلاح والقمع في السعودية” (هيرست وجامعة أوكسفورد للنشر، 2020)، لن تتحمل أوعيته الدموية حدوث أيّ انقباضات تؤثر في استمرارية دوره، المتمثل في كونه “وسيلة تمويه عظيمة عن الأفكار والطموحات الأكثر إلحاحاً. يبيع “السيرك” وهم الحرية للسعوديين، فيما الأمير يكدس أرباحاً جديدة ويؤمّن أنّ رعاياه يستبدلون التدين بـ”انحلال” شرعي”.
وبحسب الأكاديمية السعودية، فإنّ قرار إدخال الترفيه إلى السعودية “هو من دون شك من عمل المستشارين الأجانب الذين يتحركون ضمن إطار العمل النيوليبرالي، وجاء رداً على عقود من الاتهامات الموجهة للسعودية بأنها تطبق نظاماً دينياً صارماً كانت تفرضه على مواطنيها المعاصرين. وكان يعتقد أنّ المحظورات السابقة قد ساهمت في تغذية الإرهاب”.
وبينما يشاء ولي العهد التخلي عن ذلك الماضي وإغراق السعوديين بسرعة بالترفيه، كشكل من التحول عكس السيطرة الاجتماعية والدينية السابقة، بحسب الرشيد، فإنّه هو نفسه (أي بن سلمان) ليس خارج السيرك، أو مجرد مستورد لمغرياته الكثيرة، وفق تعبيرها. ففي الواقع، هو في القلب من الثقافة الجماهيرية والترفيه. وتردف: “في حين يتم استيراد أبطال الملاكمة و المغنين العالميين لقاء مبالغ هائلة، فإن الأمير ذاته هو من يتحول إلى الشخصية الشهيرة الأساسية، كونه البطل في كل حدث”.

ولذلك، يقاوم الكثير من الحكام المستبدين الثقافة الجماهيرية واسعة النطاق لأنّهم يعتقدون أنّه “إذا سمحنا للناس بإقامة مهرجانات، وهي نشاطات بريئة بحد ذاتها، فإنّهم سيفترضون أنّهم أحرار بالقيام بما يشاؤون، وسيتوقفون عن الرغبة في الإطاعة أم المحاربة”، وفق الأكاديمية السعودية، ولكن حل ولي العهد كان بتوفير “متعة عامة محدودة ببعض الأوقات المعينة، كمهرجاني الرياض والدرعية، اللذين تحولا إلى حدثين وطنيين”.
عروض القوة هذه، كما تصفها الباحثة الأنثروبولوجية، والتي تقدم حفلات موسيقية غربية شعبية، وسباقات سيارات، ومباريات ملاكمة، وعروض كرة قدم، وسينما، ومسرح، إنّما تؤكد حق ولي العهد في أن يطاع، ومن ثم، يجب تحقيق ذلك والتعبير عنه عبر استهلاك واضح في ظروف تحت السيطرة. ولهذا الهدف، أسس الأمير “سلطة الترفيه”، التي تسيطر على التسلية والمهرجانات، وتقدمها في مواسم وأماكن محددة. فالترفيه الجديد، من الحفلات الموسيقية إلى مباريات الملاكمة، أثبتت أنّها وسيلة إلهاء جيدة لجيل الألفية الجديدة المتحمس، وقد كان، حتى الآن، محروماً من التسلية.
إقرأوا أيضاً: