كلا الطرفين يربطها بـ”الشرف”، ويقيّدها به، كما لو أنه ملتصق بها كوصمة، أو كعار قديم لا يمكن محوه. فشاتموها يعمدون غالباً إلى نزع “الشرف” عنها بما تمثله هذه الكلمة من مخزون اجتماعي وثقافي وديني يربط بين “الشرف” وبين سلوك المرأة في مجتمعاتنا. و”الشرف” هنا مفهوم ذكوري صرف، لا يتساوى الرجال والنساء في التقييم على أساسه، فالرجل لا يفقد “شرفه” إذا مارس الجنس، مثلاً، مع ميا خليفة، أو سواها، بل إن ميا خليفة، بحسب شاتميها ومنتقديها، تفقد شرفها بمجرد أنها تمارس الجنس مع الرجال، أو تمثّل في أفلام إباحية. أما مادحو السيدة ميا، فيمسكون بـ”الشرف” أيضاً لمدحها، في معرض ذم الطبقة السياسية اللبنانية، التي تنتقدها ميا بشدّة عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فيعمدون إلى ضرب ممثلي الطبقة السياسية بالقول إن “ميا خليفة أشرف منهم”. هكذا، يمعنون في إهانة ميا، في معرض إهانة السياسيين.
بيد أن ميا، تمارس حقها الديموقراطي والإنساني، في التعبير عن آرائها بحرية خارج نطاق عملها، الذي يصدف هنا أنه يتعلق بتابو عربي وشرقي لم ينجح المجتمع حتى الساعة في تجاوزه. وكان بإمكان ميا أن تكون ممرضة أو مهندسة أو سائقة أجرة، أو خبيرة تجميل. كان يمكن أن تكون سياسية، أو استاذة جامعية، أو لاعبة كرة قدم، ولم يكن أحد ليربط بين مهنتها، وبين ما تقوله في السياسة. لن يذهب أحد إلى القول إن ميا خليفة تقود سيارتها أفضل مما يقود ميشال عون البلاد. إن حصل وقرأت إسقاطاً كهذا، فيما لو كانت ميا خليفة سائقة أجرة مثلاً، فإنه سيكون استثناءً لا يعتّد به، ولا يجاري الإسقاطات الكثيفة بالجملة التي تربط بين عمل ميا في تمثيل الأفلام الإباحية، ومواقفها السياسية من المسؤولين اللبنانيين في الحكم، وهي إسقاطات تهين ميا، عمداً أو سهواً.
وميا، لمن يتابع حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تضع جهداً ملحوظاً لنقد الطبقة السياسية ومهاجمتها بمختلف رموزها، ولا تميّز من موقعها البعيد، بين سياسي وآخر، ولا تدخل في التفاصيل اللبنانية ولا في الزواريب الضيقة، تبدو بوضوح مأخوذة بالهمّ اللبناني، خصوصاً بعد التفجير الأخير الذي أحزنها، وأغضبها، فجعلها تطلق حملة تبرعات عبر عرض نظارتيها التي تظهر فيهما في معظم أفلامها الإباحية للبيع في المزاد العلني، وهدفها جمع مبلغ كبير يذهب لمساعدة المتضررين من التفجير الذي أصاب المرفأ. وقد وصل المزاد حتى الساعة إلى ما يزيد على 100 ألف دولار ثمن النظارتين.
تعرف ميا تماماً ماذا تفعل، وتعرف أن حريتها في اختيار مهنتها المقترنة حكماً بحرية مطلقة في استخدام جسدها كما تريد، لا تنفصل عن حريتها في قول ما تريد، طالما أن هذا القول ترعاه حرية التعبير، بعيداً من العنصرية والجندرية والهوموفوبية، وغيرها من المحظورات الإنسانية التي تطاول حرية الأفراد في أن يكونوا ما يريدون، من دون أي تدخّل أو تنمّر أو إهانات. تصوّب في السياسة، وتعرف كيف تستخدم لغة تصل أحياناً إلى البذاءة لتخاطب بها مسؤولينا، الذين لم يهزهم انفجار قتل العشرات وجرح الآلاف وشرّد مئات الآلاف ودمر المدينة، ولكن تهزّهم الشتائم من الناس في الشوارع، فيحركون القضاء والأجهزة الأمنية لملاحقتهم.
تعرف ميا هذا التفصيل، وهي مطّلعة جيداً على آليات السلطة اللبنانية في الحكم وفي القمع. وهي لأنها تعرف كل ذلك، تخاطب أبناء هذه الطبقة بلغة تستفزهم، ويعرفون أنهم غير قادرين على ملاحقة صاحبتها، لأنها ببساطة تعيش خارج لبنان، وحياتها كلها متركّزة خارج نطاق سلطة هؤلاء. وميا تعرف جيداً حساسية نوعية عملها على الجمهور اللبناني، وعلى السياسيين اللبنانيين، وهي مع معرفتها بأن بعض ما يقال بحقها، ذماً ومديحاً، هو مهين في المكيال اللبناني، إلا أنها لا تقف عند تفاصيل كهذه، طالما أن وقع كلامها يصيب المسؤولين اللبنانيين ويزعجهم، ويدفع بفريق رئيس الجمهورية الذي يدير حساباته على السوشيل ميديا إلى حظرها على موقع “إنستغرام”، لتردّ هي بتغريدة غاضبة تتهم الرئيس ميشال عون بالجبن، وتسأله: “الا تستطيع تحمّل بعض التعليقات على منشوراتك التي لا فائدة منها؟ هل ستختبئ من شعبك على إنستغرام أيضاً؟ جبان!”.
نالت التغريدة عدداً فاق الخمسة آلاف إعجاب وما يزيد على 500 مشترك أعادوا تغريدها. أيضاً تنتقي ميا خليفة ما تريد إعادة تغريده، وما يتصل بالتطورات اللبنانية، وهي تسجّل فيديوات تتوجه فيها مباشرة للسياسيين اللبنانيين وتحرض عليهم وتطالبهم بالاستقالة، ولا توفر أحداً منهم، ولا تملك أي أجندة لبنانية داخلية في هجومها اليوم على جميع الأطراف بما فيها القوات اللبنانية التي سبق لها أن حفرت في وقت سابق على ما يبدو وشماً على يدها يرتبط بها هو “الصليب المشطوب” فوضعت صورة الوشم السياسي/ الطائفي على يدها أخيراً على إانستغرام”، مرفقاً بتعليق مكتوب: “هل تعرفون فنان وشم جيداً يمكنه أن يغطي هذا الوشم؟”، في إشارة إلى أنها تريد التخلص من هذا الماضي الذي وشمته على يدها، ولم تعد مقتنعة به، لا بل يخيّب أملها.
كان يمكن أن تعيش ميا خليفة في لبنان وتعمل في مهنتها في وسط بيروت في “سوق المتنبي”، الذي عرف شعبياً بـ”سوق الشراميط”، والذي كان لصيقاً بالمرفأ، لولا اندلاع الحرب الأهلية التي دمرت الشارع وأحالته إلى خراب ثم اختفى تماماً بعد انتهاء الحرب. كان السوق ازدهر في بدايات عام 1880، وفي ذلك العام أصبحت مهنة “البغاء” كما كانت تسمى حينها، رسمية وتم تحديد أصولها بفرمان عثماني. ثم صدر قانون في شباط/ فبراير 1931 تحت مسمى “حفظ الصحة العامة من البغاء”، والذي نص على أن “البغاء مهنة كل امرأة تشتهر بالاستسلام عادة إلى الرجال لارتكاب الفحشاء في مقابل أجر من المال سواء كان ذلك سراً أم علانية”. واستمر السوق، الذي كان بمثابة “ريد لايت ديستركت” لبناني أصيل، شغالاً حتى بداية الحرب الأهلية وإن كان شهد تراجعاً تدريجياً في “نشاطه”، وآخر الأسماء التي بقيت في الذاكرة اللبنانية من هذا الشارع يعود إلى “أسطورة” الجنس اليونانية ماريكا اسبيريدون، والتي لا تتذكر، كما يقول بهجت جابر في “بورتريه” تفصيلي عنها، لماذا اختارت المجيء إلى لبنان، “ربما- قالت- لأنها تعرفت إلى قبطان باخرة كانت ستمر ببيروت، فحدثها عنها…”. ثم وعدها بنقلها إلى هناك “وكأنها في حلم”، وكان القبطان “استدرجها إلى غرفته في الباخرة وعاشرها برضاها، وأعطاها مبلغاً من المال وبعض الأطعمة”. ورست الباخرة اليونانية في مرفأ بيروت عام 1912، وبدأت من مرفأ بيروت قصة ماريكا.
المرفأ تهدّم اليوم. شظاياه لا توفر حتى ذاكرة “سوق المتنبي” الذي اختفى في انفجار أمونيوم الحرب الأهلية الطائفية اللبنانية عام 1975. لكن ربما كان ظهور ميا خليفة فيه شيء من الانتقام لذكرى “سوق المتنبي” من ذلك الدمار السابق واللاحق. وربما فيه استعادة لقوة هذه المهنة في صوغ الحيز العمومي الحر للمدينة. وربما فيه تحية لذكرى ماريكا.