لم يدرِ ضباط الشرطة الروسية الفاسدون أن تلفيقهم تهمة المتاجرة بالمخدرات للصحافي الاستقصائي إيفان غولونوف واعتقاله، سيثيران أكبر حملة احتجاج شعبية ضد السلطة الحاكمة، إذ خرج مئات الروس وأنصار الصحافي المعتقل في أكبر تظاهرة احتجاجية، ضد عملية الاعتقال والفساد المستشري في جهازي الشرطة والأمن الداخلي في الدولة. وتطورت الاحتجاجات، إلى حد وضع الكرملين والرئيس بوتين شخصياً في مأزق لم يترك له خياراً آخر، غير طرد الضابطين الكبيرين اللذين لفقا التهمة للصحافي المستقل. وذكر مراقبون من منظمة “أو. في. دي- انفو” الإعلامية المستقلة أن الشرطة اعتقلت أكثر من 400 متظاهر طالبوا بمحاسبة الضباط المتورطين في تلفيق التهمة.
ولم تستطع إدارة الشرطة سوى الانصياع لقرار الكرملين بسحب التهمة وإطلاق سراح الصحافي بعد أسبوع على إلقاء القبض عليه. ويمثل ذلك تراجعاً نادراً للحكم أمام غضب الروس، الذين صرحوا لوكالات أنباء أجنبية بأن التهم لفقت له، بسبب تغطياته الصحافية في ملف استشراء الفساد في أوساط جهازي الشرطة والأمن الداخلي. وكان المتظاهرون ارتدوا قمصاناً بيضاً، كتب عليها “أنا- نحن إيفان غولونوف”، وهو العنوان الذي تصدر أيضاً مانشيتات ثلاث صحف روسية كبرى في اليوم التالي، هي “كوميرسانت” و”فيدوموستي” و”آر بي كا”. ورفع المحتجون شعارات “روسيا ستكون حرة”، و”روسيا من دون بوتين”، وتجمعوا في وقفة تضامنية أمام مبنى النيابة العامة، فيما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي نداءات وبيانات وقع عليها نحو 7500 صحافي روسي، يطالبون بإطلاق الصحافي على الفور. أدى ذلك إلى تبلور أول حركة احتجاج دفاعاً عن الصحافة المستقلة في روسيا منذ سقوط النظام الشيوعي قبل أكثر من ثلاثة عقود. وكتبت رئيسة تحرير قناة “روسيا اليوم” مارغريتا سيمونيان: “على السلطة تقديم إجابات عن كل الاسئلة التي يطرحها المجتمع حول هذا الاعتقال، وذلك لسبب بسيط وهو أن لدى المجتمع الكثير والكثير جداً من هذه الاسئلة”. إلا أن الناطقة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، علقت على إعراب عدد من المنظمات الدولية عن القلق حيال اعتقال غولونوف، ودعوة السفارة الأميركية في موسكو إلى الإفراج عنه، قائلة “نحن لا نفهم جيداً ما هي علاقتكم بإيفان غولونوف. أولى بكم الاهتمام بمصير جوليان أسانج”. ورأى مراقبون أن تداعيات هذه الأزمة ستكون أعمق بكثير من ردود الفعل الداخلية التي صدرت حتى الآن، فهذه تعد المواجهة الأولى المباشرة مع سياسات الكرملين، إزاء الصحافة المستقلة وموقف الأخيرة من الفساد في مؤسسات الدولة والحزب الحاكم.
حرفية وجرأة ضد الحكم
المفاجأة التي أثارت دهشة المجتمع المدني والصحافة الروسية، تمثلت في بيان النيابة العامة الذي أكد خلو جسم الصحافي المتهم من أي آثار لمواد مخدرة، إضافة إلى عدم إثبات التحقيقات لوجود بصمات أصابع غولونوف على الحقيبة التي عثر فيها على المخدرات أثناء توقيفه. واتخذ قرار بإغلاق القضية. وتدخل الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف في النقاشات الحامية في المجتمع، محاولاً عدم تضخيم القضية عبر تأكيده أن “الكرملين يراقب التحقيق بعناية”. ثم صدر قرار من الكرملين بإقالة جنرالين في وزارة الداخلية، الأول مسؤول ملف المخدرات، عقاباً على ما وصفه مرسوم الإقالة الذي وقعه بوتين “تقصيرهما في أداء مهماتهما”.
رفع المحتجون شعارات “روسيا ستكون حرة”، و”روسيا من دون بوتين”، وتجمعوا في وقفة تضامنية أمام مبنى النيابة العامة
يعمل غولونوف في موقع “ميدوزا” الإلكتروني، وهو صحافي معروف بتحقيقاته حول الفساد في مجلس مدينة موسكو والاختلاسات في قطاعات غامضة، مثل القروض الصغيرة أو بيوت الجنازات.
يتخذ “ميدوزا” مقراً للصحيفة الإلكترونية في دولة لاتفيا التي تجاور إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، والعضو الآن في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وذلك لتجنب الضغوط التي تمارسها السلطة الحاكمة في موسكو على الصحافة المستقلة.
مافيا الجنازات وغسيل الأموال
غولونوف بحسب تقييم رئيس تحريره كولباكوف هو “أحد أكثر الصحافيين الاستقصائيين حرفية وموهبة”. نشر غولونوف تحقيقاً استقصائياً، عن شبكة مافيا في موسكو تقوم بعمليات غسيل أموال لمصلحة شركات استثمار روسية، تعمل من لاتفيا، أدت في النهاية إلى طرد 500 من سكان العاصمة موسكو من شقتهم السكنية. ويعزو غولونوف سبب اعتقاله واتهامه بالمتاجرة بالمخدرات، إلى تحقيق استقصائي يجريه عن مافيا روسية تتقاسم سوق تشييع الموتى ودفنهم، متورط فيها ضباط كبار في الشرطة ودائرة الأمن الوطني.
تأسست الصحيفة عام 2014 كمؤسسة ميديا مستقلة من قبل مجموعة من الصحافيين، ولكنها سرعان ما اشتهرت بين الصحف المستقلة واكتسبت جمهوراً عريضاً من القراء الروس من مختلف الفئات الاجتماعية، وتمكنت من فرض وجودها المتميز بين الصحافة المستقلة. وأصبحت من أكثر الصحف التي يتابعها الجمهور الروسي داخل الفيدرالية وخارجها. ووفقاً لهيئة تحرير الموقع، فإن وجود مقره في لاتفيا أنقذه من الضغوط التي تواجهها الصحافة الاستقصائية في الداخل، إلا أن سلطات اوزبكستان وكازاخستان حجبت الموقع بطلب من الكرملين.
يعمل غولونوف في موقع “ميدوزا” الإلكتروني، وهو صحافي معروف بتحقيقاته حول الفساد في مجلس مدينة موسكو والاختلاسات في قطاعات غامضة
عمل طاقم الصحيفة التحريري قبل تأسيس “ميدوزا” في فترة التسعينات في الموقع الإلكتروني الاخباري “لينتا. رو” المعروف بتحقيقاته الاستقصائية الجادة، إلا أن مالك الصحيفة وهو رجل الأعمال المقرب من الكرملين الكسندر ماموت، فصل عام 2014 رئيسة التحرير غالينا تيمتشينكو بعد 10 سنوات من عملها في الصحيفة، بسبب نشرها مقابلة مع زعيم الحزب القومي المتشدد في أوكرانيا، في وقت احتدام الأزمة بين موسكو وكييف بعد انتفاضة الميدان ضد النظام العميل لروسيا هناك.
أثارت عملية الطرد ردود فعل حادة داخل هيئة تحرير الصحيفة التي كانت الأوسع انتشاراً بين القراء الروس، بسبب فتحها أبوابها أمام القوى والأحزاب المعارضة لنظام بوتين وسياساته الداخلية والخارجية، وفي أوساط الميديا الروسية ككل.
في أوسع احتجاج اتخذ نصف محرري الصحيفة قراراً بتقديم استقالة جماعية دعماً لرئيسة التحرير المطرودة، وتأسيس صحيفة الكترونية جديدة (ميدوزا). ما أدى إلى انحسار قرار (لينتا. رو)، وتحوله إلى الصحيفة الجديدة التي كان لها صحافيون يعملون من داخل روسيا ايضاً.
“ميدوزا” من أهم الصحف الروسية الاستقصائية المستقلة، ووفقاً لرئيس تحريرها ايفان كولباكوف: “نحن نشعر بدهشة إزاء سرعة تطور الصحيفة واستقطابها ملايين القراء يومياً”، مشيراً إلى أن “عدد زائري الموقع يصل إلى 12 مليون قارئ في الشهر”. وبحسب بيانات الموقع المتخصص “اليسكا”، فإن “ميدوزا” هو الموقع الإلكتروني الأكثر قراءة ويحتل المرتبة 223 بين المواقع الإلكترونية في روسيا التي تمتلك 2.5 مليون قارئ في الشهر”. وكانت الصحيفة أبرمت اتفاقاً للشراكة مع الصحيفة البريطانية “الغارديان”، التي تنشر بعض مقالات “ميدوزا” باللغة الإنكليزية على موقعها الإلكتروني. كما أن لـ”ميدوزا” نسخة أخرى تنشر مقالات بالروسية من “الغارديان”.
جرأة التصدي للحكم
ينشر موقع “ميدوزا” منذ ظهوره للمرة الاولى وحتى الآن، ويتابع أحداثاً ساخنة، ويولي اهمية خاصة للتقارير الاخبارية التحليلية القصيرة خاصة تلك التي تتعلق بالسياسة الداخلية والمسائل الاجتماعية الملحة والمواضيع الثقافية. كما ينشر تعليقات وتحليلات عميقة وتحقيقات استقصائية حول الفساد في السلطة الحاكمة والمؤسسات الحكومية ومن موقع الحدث. وهو شيء يندر وجوده في الصحافة الروسية الرسمية. عام 2016 نشر الموقع نص رسالة من المعارض أيلدار دادين الذي حكم عليه بالسجن بسبب تنظيمه سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات غير المرخصة رسمياً، يكشف فيها عن تعذيبه داخل السجن. ونشر عام 2017 تحقيقاً يكشف أن الرئيس بوتين كذب على الروس، حين بث في أحد مؤتمراته الصحافية، تسجيل فيديو، قال إنه يصور غارة جوية، قامت بها الطائرات الروسية على مواقع لمن سماهم “الارهابيين” في سوريا، لم تكن في الواقع سوى غارة شنتها الطائرات الأميركية على مواقع لحركة طالبان في أفغانستان”.
تعاني الصحافة الروسية المستقلة من قيود تشريعية كثيرة، وتواجه ضغوطاً شديدة من جانب الكرملين والهيئات السيادية مثل وزارة الداخلية والأمن القومي، إلا أنه برأي خبراء الميديا الروس “الأزمة السياسية التي هزت السلطة بعد اعتقال غولونوف، أثبتت أنه ما زال للصحافة الاستقصائية المستقلة نفوذ كبير وقوة تستمدها من المجتمع. وهو ما يمثل تحدياً جدياً أمام الكرملين الذي يحاول المناورة بين تراجع شعبية بوتين خلال الأشهر الأخيرة كما أظهرت استطلاعات الرأي وتنامي مظاهر السخط وعدم الارتياح في أوساط المجتمع من الأوضاع المتفاقمة، التي وصلت إليها البلاد كما ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
من يجرؤ على الكلام؟ : “كوميرسانت” الصحيفة الروسية المعارضة تحت سطوة الكرملين