fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ميشال الياس ميشال الياس المرّ:
حضيض الوراثة السياسية في لبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“عم يهتّوني بالوراثة السياسية، أنا بفتخر انو اسمي ميشال المرّ”، يقول الشاب في مؤتمره الصحافي الأول بعد إعلان ترشحه، ثم يعلو تصفيق مفتعل ومبالغ فيه من مناصريه، لينظر الشاب مرتبكاً إلى أبيه بحثاً عن تشجيع، كما لو أنه طفل يركب “دابّة” الولاء الأعمى للمرة الأولى، ويخاف أن يقع عن ظهرها!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شائع، من باب الحفاظ على الأسماء متوارثة من جيل إلى جيل (وهي عادة ملكية وإقطاعية)، أن يسمّي رجل ابنه على اسم أبيه الذي سبق له أن سمّى ابنه على اسم جدّه. كان يحدث هذا الأمر كثيراً في لبنان، كما يحدث في غيره من البلدان، لكن في العقدين الأخيرين تراجعت هذه الظاهرة، خصوصاً في المدن، وبدأ الكثير من الأهل اختيار أسماء مختلفة لأبنائهم تكسر هذه الحلقة من التوريث الاسمي (والفعلي في كثير من الأحيان) عبر الأجيال، وتنقذ الأبناء والأحفاد من حمل أعباء آبائهم وأجدادهم، وتجعلهم يتخففون من ثقل الوراثة خصوصاً إذا كان مقروناً بحضور للاسم في الشأن العام. 

لكن في السياسة اللبنانية نجد أن هذا “الطقس” لا يزال متوارثاً، وحاضراً في ما يسمى “البيوتات السياسية”، في تكريس لمنطق الوراثة، وفي إصرار على صناعة زعامات سياسية لا تموت بموت أصحابها، بل تحاول أن تعيش باسمائهم في أجيال لاحقة. 

أمين الجميل مثلاً، وكان رئيساً للجمهورية (1982-1988)، سمّى ابنه البكر بيار، على اسم أبيه مؤسس “حزب الكتائب” بيار الجميل. وبيار الحفيد، قتل للأسف في اغتيال سياسي بشع شرق بيروت في تشرين ثاني/ نوفمبر 2006. الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، والمرشح لرئاسة الجمهورية، أيضاً سمّى ابنه على اسم أبيه، وهو يحمل اسم جدّه رئيس الجمهورية اللبنانية بين عامي 1970 و1976. ابنه طوني فرنجية قتل مع زوجته وابنته في مجزرة إهدن. اليوم يرث الشاب طوني سليمان طوني سليمان فرنجية الزعامة أباً عن جد، و”فرضه” أبوه سياسياً ونائباً على البلاد والعباد. رفيق الحريري أيضاً سمّى ابنه البكر على اسم والده بهاء الدين، وابنه اليوم يحاول أن يمارس دوراً في السياسية اللبنانية بعدما فشل أخوه سعد وعلّق عمله السياسي. لبهاء ابن يحمل اسم رفيق الحريري، في محاولة الحفاظ على الإرث السياسي الذي تركه رفيق الحريري بعد اغتياله في شباط/ فبراير من العام 2005. طبعاً لهذه القاعدة استثناءات على مستوى التسمية، لكن في الغالب الأعمّ، تتوارث العائلات السياسية الزعامة أباً عن جدّ بأسماء تحاول أن تبقى حية حتى مع موت أصحابها الأوائل، عبر تكريس الاسم في الأبناء والأحفاد. الاستثناء في الإقطاع السياسي اللبناني، لجهة الأسماء، يبدو واضحاً في آل جنبلاط. تيمور، وهو الوريث الأخير للزعامة عن أبيه وليد، اسمه المركّب اقطاعياً هو: تيمور وليد كمال فؤاد جنبلاط. هنا تتبدّل الأسماء، ولا تتكرر جيلاً بعد جيل، لكن الثابت طبعاً هو اسم العائلة. 

يبدو أن الانتخابات النيابية المقبلة (15 أيار/ مايو) ستشهد عملية ممنهجة لـ”توريث” المقاعد النيابية، في عائلات سياسية بعضها متأصّل في عملية التوريث السياسي عبر الأجيال، كما هي الحال مع آل الجميل وجنبلاط وسكاف وارسلان وفرنجية، وهؤلاء يرثون المقاعد النيابية والمناصب السياسية كما يرثون الأراضي والممتلكات العقارية في المنظومة الإقطاعية التي ينتمون إليها. 

تبرز إلى الواجهة منذ الانتخابات النيابية الماضية (2018) موجة توريث “حديثة النعمة” لعائلات دخل الآباء فيها عالم السياسة بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وبدأوا توريث أبنائهم العمل السياسي والزعامة المحلية والمقاعد النيابية في أسلوب شبيه بأسلوب الإقطاع التقليدي.

يحاول التوريثيون الجدد تمويه نهجهم بادعاء حمل الخطاب “التغييري” في الحملات الانتخابية، كما هي الحال في وراثة جبران باسيل تيار عمّه رئيس الجمهورية ميشال عون، وترشّح أبناء نوّاب من عائلات غير تقليدية لخوض الانتخابات عن المقاعد التي شغلها الآباء لسنوات طويلة، كما هي الحال مع آل فتفت والبعريني والمرعبي وطبارة وسعادة وحبيش.     

والثابت المشترك بين معظم العائلات السياسية التي تتوارث الزعامة في لبنان، أن الدم يحضر في عمليات اغتيال تدفع بقوة إلى التوريث انتقاماً وتعزيزاً لحضور الغياب القسري المصنوع بالقتل. في حالة تيمور جنبلاط، والده ورث الزعامة بعد قتل أبيه، وجده كمال ورث الزعامة بعد قتل أبيه. الدم كان حاضراً لتزكية الوراثة ورفعها إلى مصاف “مقدّس”. 

الدم أيضاً رسم معالم الوراثة السياسية في حالة سليمان فرنجية وفي حالة بيار الجميل. بعد اغتيال رفيق الحريري، نادى جمهوره المتزاحم إلى دارته ببهاء وريثاً عبر إطلاق صيحات “أبو بهاء”، لكن الحمل أُلقي لاحقاً (مع عباءة الزعامة) على كاهل سعد. حتى الوراثة الأفقية، من الأخ لأخيه، كما في حالة وراثة رئيس الحكومة عمر كرامي، جاءت بعد عملية اغتيال رشيد كرامي وكان رئيساً للحكومة، وكان والدهما عبد الحميد بدوره رئيساً للحكومة وواحداً من رجالات الاستقلال. عمر كرامي “أورث” مقعده النيابي لاحقاً إلى ابنه فيصل بعد وفاته. 

إقرأوا أيضاً:

في كل هذه النماذج، وغيرها، يُفرض التوريث السياسي، إما بتغطية وتحفيز من الدم، الذي يبقى محمولاً من جيل إلى جيل، أو عبر صناعة الزعامة السياسية بتأنّ وشيء من “طولة البال”، كما في حالة توريث وليد جنبلاط لابنه تيمور، الذي شاع أنه لا يريد تجرّع هذه الكأس المرّة، التي يرغمه والده عليها حماية للطائفة وإنقاذاً للإرث. في حالة طوني فرنجية أيضاً جرت صناعة الزعامة بشيء من التأني وبحضور الأب “العرّاب” وإشرافه، على طريقة فيلم فرانسيس كوبولا الشهير. والزعامة، إذ تصنع لتورّث، فإنها بلا شكّ، هبوط في المستوى السياسي إلى حضيض يفترض أن يكون بائداً، ولا يناسب الزمن هذا، الذي يفترض أن يكون زمناً للحريات والديموقراطية وتداول السلطة. بيد أن هذا الحضيض له أيضاً حضيضه، حينما يدخل آل المرّ، في نسختهم الأخيرة، عالم صناعة “الزعماء” ووراثتهم. 

فميشال الياس ميشال الياس المرّ، يبدو، على غرار تجارب الاستنساخ الفاشلة، نسخة مشوّهة عن زعامة مشوهة موروثة عن زعامة مشوهة. لكن التشويه الأخير يتمظهر كحضيض الحضيض، أي أسوأ ما يمكن ان يصل إليه “تاريخ” الوراثة السياسية في لبنان. تبدو صناعة هذا “الزُعيِّم” (تصغير زعيم) كـ”إهانة” كبيرة جداً لعملية التوارث السياسي في نسختها اللبنانية. ومردّ هذا الأمر، ليس إلى سوء الوريث فقط، بل إلى وضاعة العملية التي تجرى بـ”تقليدية” رخيصة من زمن مظلم عام 2022. في ظلّ انهيار شامل، اقتصادي وسياسي واجتماعي في لبنان، تحضر عملية الاستنساخ هذه لتبدو كأنها “جريمة وحشية”، بأداة قتل بدائية. 

ولا نقاش في أن عمليات التوارث السياسي، التي ذكرناها، والتي سقط ذكرها، كلها “جرائم”، لكنها متفاوتة الوحشية لجهة التنفيذ، فبعضها يشبه القتل الرحيم، بلا ألم، وبعضها يحدث غيلة، وبعضها يحصل في السرّ ويحاول المجرم إخفاء جثته، لا التمثيل فيها كما يحدث في حالة ميشال المرّ جونيور. 

الشاب ظهر فجأة للعموم، برفقة والده النائب والوزير السابق الياس المرّ، بعد شهور من وفاة جده ميشال، الذي عاش حياة طويلة واظب فيها حتى الرمق الأخير على ركوب أكتاف مناصريه، وتعزيز الزبائنية وصرف النفوذ وشراء الذمم. ثم، في حياته وعزّ نفوذه، أركب ابنه الياس على أكتاف مناصريه، وأورثه “دابّة” الولاء الأعمى لآل المرّ، المسنودة إلى حمل من التنفيعات والصفقات المشبوهة والتحالفات “الخبيثة” والفساد العابر للحدود، ليركبها و”يدندل” رجليه. وصناعة الزعامة “المرّة” (نسبة إلى آل المرّ) لم تخلُ بدورها من أثر الدم، إذ تعرّض الأب والابن (ميشال والياس) لمحاولتي اغتيال (محاولة اغتيال ميشال المر في سيارة مفخخة في انطلياس 1991/ ومحاولة اغتيال الياس المر في سيارة مفخخة في حزيران/ يونيو 2005)، وقد نجيا بأعجوبة مع جروح بالغة، وكانت بمثابة معمودية لتكريس الزعامة باللحم الحي، ليرث الحفيد ميشال زعامة في حياة أبيه، وفي ظلّ ميتة “طبيعية” لجدّه عن عمر ناهز 90 سنة، في وقت بدّد كلاهما دمه المسفوك في الاسثتمار السياسي في حياتيهما، ولم يتركا رصيداً كافياً من هذا الدم للحفيد. 

والحفيد هذا، يرث في الجينات بيتين سياسيين، لا واحداً فقط. جده لأمه، هو رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود، وخاله هو النائب السابق إميل إميل لحود (الرئيس لحود اختصر الطريق وسمّى ابنه على اسمه مباشرة ولم ينتظر ليورث الاسم للأحفاد)، ويشاع أن الياس المرّ طلّق زوجته  (والدة ميشال جونيور) بسبب خلافه السياسي مع والدها إميل لحود الأب، وهي إشارة إلى تقدّم السياسة والنفوذ لدى هؤلاء على العلاقات الإنسانية. 

قرر الياس المرّ أن يصنع لابنه زعامة، على طريقة تصميم الملابس لعروض الأزياء، لكن على catwalk (منصّة) من خراب وإفلاس ورماد، فلا ينجح في تصميم زي “راقٍ” (haute couture) لابنه، أو زيّ جاهز (prêt-à-porter)، كالذي ألبسه إياه والده ميشال (الجد) في حياته، بل تبدو النتيجة، مع ميشال المرّ جونيور، كأنها تليق بعرض للأزياء التنكّرية، لكنها من نوع الملابس التنكرية التي تثير الرعب، كما تثير الضحك الشديد، في آن واحد.

ففي زمن ما بعد 17 تشرين، يعلن الياس المر ترشيح ابنه للانتخابات النيابية، ويصفه بأنه “شاب طامح إلى التغيير ويريد أن يعيش في لبنان”، ليخرج ميشال الياس ميشال الياس المرّ، بعد “بضعة أشهر كثيرة” (بحسب تعبيره الحرفي في مقابلة تلفزيونية) في فصام هزلي يجمع بين خطاب ركيك ومتلعثم يتحدث عن “هموم الناس” و”هجرة الأدمغة” و”البطالة”، ممزوجاً بمصطلحات عن الفقر والعوز و”موت اللبنانيين على أبواب المستشفيات”، وبين سلوك زعاماتي اقطاعي استعراضي، يظهر عبر فيديوات وصور للزعيم الصغير وهو يمشي على أنغام أغنيات كتبت خصيصاً له، برفقة حراس شخصيين ومواكب أمنية و”أكسيسوارات” زعاماتية تعود إلى زمن جده، وتشبه في الممارسة تخلّف أبيه ورجعيته، الذي قرر ذات يوم وهو وزير للداخلية أن يلاحق ويسجن وينكّل بشبان وشابات “هيبيز” يستمعون إلى موسيقى صاخبة (كالميتالز والروك اند رول وغيرها) أو يضعون أقراطاً ويدقون أوشاماً بتهمة “عبادة الشيطان”. 

تقول إحدى الأغنيات التي نشرها مناصرون للمر الصغير: “هزّ العصاية بإيدك واحد واحد ربيهم، نحنا رصاص بواريدك نحنا الموت اللي جاييهم”، وهي أغنية تبدو كأنها “إيسانس” المرارة التي يمثلها تاريخه الشخصي والسياسي. أما هو، فيقول، في أول مقابلة تلفزيونية له، لتأكيد انضمامه مع كامل “اكسيسواراته” الرجعية والإقطاعية إلى ثورة اللبنانيين التي قامت ضد أمثاله: “على المستوى الشخصي وكجريدة (جريدة “الجمهورية” المملوكة من أبيه) كنا عم نتابع الثورة وكنا إحدى الرؤوس الحربية بدفاعنا عن حقوق الناس”. نعم قالها هكذا حرفياً “رؤوس حربية”، وكأنه نسخة كورية شمالية من ديكتاتور صغير يتمرّن حديثاً على المصطلحات. 

هكذا، وبمصطلحات و”اكسيسوارات” موروثة عن الأب والجدّ، يحاول ميشال المرّ الصغير أن يتسلّق، بكل ما للكلمة من معنى، أكتاف مناصري جده وابيه، لبلوغ المقعد النيابي. ويسهل، لمحاولة تقريب المشهد، العثور عبر “غوغل” على صور لميشال المرّ الجدّ راكباً على الأكتاف في فترة الانتخابات النيابية، ومثلها صور لابنه الياس بالوضعية نفسها. وهذا تكرارٌ للتاريخ، مرّة في حالة الياس المر، على شكل مأساة، ومرة ثانية في حالة ميشال المرّ جونيور، على شكل مهزلة، على ما صحّح كارل ماركس مقولة هيغل الشهيرة “كل الأحداث الكبرى والشخصيات التاريخية تتكرَّر مرَّتين”.   

“عم يهتّوني بالوراثة السياسية، أنا بفتخر انو اسمي ميشال المرّ”، يقول الشاب في مؤتمره الصحافي الأول بعد إعلان ترشحه، ثم يعلو تصفيق مفتعل ومبالغ فيه من مناصريه، لينظر الشاب مرتبكاً إلى أبيه بحثاً عن تشجيع، كما لو أنه طفل يركب “دابّة” الولاء الأعمى للمرة الأولى، ويخاف أن يقع عن ظهرها!

إقرأوا أيضاً:

بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 01.02.2025

في اليوم العالمي للحجاب: مانيفستو لحجاب اختياري

الحجاب مجرد عادة، تحوّلت بحكم العُرف إلى مظهر ديني، ليس أكثر، فمفسرو القرآن الأوائل الذين استسهلوا النقل وغلّبوه على العقل، لمحدودية معارفهم وضعف قدراتهم التحليلية آنذاك، فسروا "آيات الحجاب" بمعزل عن سياقها التاريخي وأسباب نزولها…
13.04.2022
زمن القراءة: 7 minutes

“عم يهتّوني بالوراثة السياسية، أنا بفتخر انو اسمي ميشال المرّ”، يقول الشاب في مؤتمره الصحافي الأول بعد إعلان ترشحه، ثم يعلو تصفيق مفتعل ومبالغ فيه من مناصريه، لينظر الشاب مرتبكاً إلى أبيه بحثاً عن تشجيع، كما لو أنه طفل يركب “دابّة” الولاء الأعمى للمرة الأولى، ويخاف أن يقع عن ظهرها!

شائع، من باب الحفاظ على الأسماء متوارثة من جيل إلى جيل (وهي عادة ملكية وإقطاعية)، أن يسمّي رجل ابنه على اسم أبيه الذي سبق له أن سمّى ابنه على اسم جدّه. كان يحدث هذا الأمر كثيراً في لبنان، كما يحدث في غيره من البلدان، لكن في العقدين الأخيرين تراجعت هذه الظاهرة، خصوصاً في المدن، وبدأ الكثير من الأهل اختيار أسماء مختلفة لأبنائهم تكسر هذه الحلقة من التوريث الاسمي (والفعلي في كثير من الأحيان) عبر الأجيال، وتنقذ الأبناء والأحفاد من حمل أعباء آبائهم وأجدادهم، وتجعلهم يتخففون من ثقل الوراثة خصوصاً إذا كان مقروناً بحضور للاسم في الشأن العام. 

لكن في السياسة اللبنانية نجد أن هذا “الطقس” لا يزال متوارثاً، وحاضراً في ما يسمى “البيوتات السياسية”، في تكريس لمنطق الوراثة، وفي إصرار على صناعة زعامات سياسية لا تموت بموت أصحابها، بل تحاول أن تعيش باسمائهم في أجيال لاحقة. 

أمين الجميل مثلاً، وكان رئيساً للجمهورية (1982-1988)، سمّى ابنه البكر بيار، على اسم أبيه مؤسس “حزب الكتائب” بيار الجميل. وبيار الحفيد، قتل للأسف في اغتيال سياسي بشع شرق بيروت في تشرين ثاني/ نوفمبر 2006. الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، والمرشح لرئاسة الجمهورية، أيضاً سمّى ابنه على اسم أبيه، وهو يحمل اسم جدّه رئيس الجمهورية اللبنانية بين عامي 1970 و1976. ابنه طوني فرنجية قتل مع زوجته وابنته في مجزرة إهدن. اليوم يرث الشاب طوني سليمان طوني سليمان فرنجية الزعامة أباً عن جد، و”فرضه” أبوه سياسياً ونائباً على البلاد والعباد. رفيق الحريري أيضاً سمّى ابنه البكر على اسم والده بهاء الدين، وابنه اليوم يحاول أن يمارس دوراً في السياسية اللبنانية بعدما فشل أخوه سعد وعلّق عمله السياسي. لبهاء ابن يحمل اسم رفيق الحريري، في محاولة الحفاظ على الإرث السياسي الذي تركه رفيق الحريري بعد اغتياله في شباط/ فبراير من العام 2005. طبعاً لهذه القاعدة استثناءات على مستوى التسمية، لكن في الغالب الأعمّ، تتوارث العائلات السياسية الزعامة أباً عن جدّ بأسماء تحاول أن تبقى حية حتى مع موت أصحابها الأوائل، عبر تكريس الاسم في الأبناء والأحفاد. الاستثناء في الإقطاع السياسي اللبناني، لجهة الأسماء، يبدو واضحاً في آل جنبلاط. تيمور، وهو الوريث الأخير للزعامة عن أبيه وليد، اسمه المركّب اقطاعياً هو: تيمور وليد كمال فؤاد جنبلاط. هنا تتبدّل الأسماء، ولا تتكرر جيلاً بعد جيل، لكن الثابت طبعاً هو اسم العائلة. 

يبدو أن الانتخابات النيابية المقبلة (15 أيار/ مايو) ستشهد عملية ممنهجة لـ”توريث” المقاعد النيابية، في عائلات سياسية بعضها متأصّل في عملية التوريث السياسي عبر الأجيال، كما هي الحال مع آل الجميل وجنبلاط وسكاف وارسلان وفرنجية، وهؤلاء يرثون المقاعد النيابية والمناصب السياسية كما يرثون الأراضي والممتلكات العقارية في المنظومة الإقطاعية التي ينتمون إليها. 

تبرز إلى الواجهة منذ الانتخابات النيابية الماضية (2018) موجة توريث “حديثة النعمة” لعائلات دخل الآباء فيها عالم السياسة بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وبدأوا توريث أبنائهم العمل السياسي والزعامة المحلية والمقاعد النيابية في أسلوب شبيه بأسلوب الإقطاع التقليدي.

يحاول التوريثيون الجدد تمويه نهجهم بادعاء حمل الخطاب “التغييري” في الحملات الانتخابية، كما هي الحال في وراثة جبران باسيل تيار عمّه رئيس الجمهورية ميشال عون، وترشّح أبناء نوّاب من عائلات غير تقليدية لخوض الانتخابات عن المقاعد التي شغلها الآباء لسنوات طويلة، كما هي الحال مع آل فتفت والبعريني والمرعبي وطبارة وسعادة وحبيش.     

والثابت المشترك بين معظم العائلات السياسية التي تتوارث الزعامة في لبنان، أن الدم يحضر في عمليات اغتيال تدفع بقوة إلى التوريث انتقاماً وتعزيزاً لحضور الغياب القسري المصنوع بالقتل. في حالة تيمور جنبلاط، والده ورث الزعامة بعد قتل أبيه، وجده كمال ورث الزعامة بعد قتل أبيه. الدم كان حاضراً لتزكية الوراثة ورفعها إلى مصاف “مقدّس”. 

الدم أيضاً رسم معالم الوراثة السياسية في حالة سليمان فرنجية وفي حالة بيار الجميل. بعد اغتيال رفيق الحريري، نادى جمهوره المتزاحم إلى دارته ببهاء وريثاً عبر إطلاق صيحات “أبو بهاء”، لكن الحمل أُلقي لاحقاً (مع عباءة الزعامة) على كاهل سعد. حتى الوراثة الأفقية، من الأخ لأخيه، كما في حالة وراثة رئيس الحكومة عمر كرامي، جاءت بعد عملية اغتيال رشيد كرامي وكان رئيساً للحكومة، وكان والدهما عبد الحميد بدوره رئيساً للحكومة وواحداً من رجالات الاستقلال. عمر كرامي “أورث” مقعده النيابي لاحقاً إلى ابنه فيصل بعد وفاته. 

إقرأوا أيضاً:

في كل هذه النماذج، وغيرها، يُفرض التوريث السياسي، إما بتغطية وتحفيز من الدم، الذي يبقى محمولاً من جيل إلى جيل، أو عبر صناعة الزعامة السياسية بتأنّ وشيء من “طولة البال”، كما في حالة توريث وليد جنبلاط لابنه تيمور، الذي شاع أنه لا يريد تجرّع هذه الكأس المرّة، التي يرغمه والده عليها حماية للطائفة وإنقاذاً للإرث. في حالة طوني فرنجية أيضاً جرت صناعة الزعامة بشيء من التأني وبحضور الأب “العرّاب” وإشرافه، على طريقة فيلم فرانسيس كوبولا الشهير. والزعامة، إذ تصنع لتورّث، فإنها بلا شكّ، هبوط في المستوى السياسي إلى حضيض يفترض أن يكون بائداً، ولا يناسب الزمن هذا، الذي يفترض أن يكون زمناً للحريات والديموقراطية وتداول السلطة. بيد أن هذا الحضيض له أيضاً حضيضه، حينما يدخل آل المرّ، في نسختهم الأخيرة، عالم صناعة “الزعماء” ووراثتهم. 

فميشال الياس ميشال الياس المرّ، يبدو، على غرار تجارب الاستنساخ الفاشلة، نسخة مشوّهة عن زعامة مشوهة موروثة عن زعامة مشوهة. لكن التشويه الأخير يتمظهر كحضيض الحضيض، أي أسوأ ما يمكن ان يصل إليه “تاريخ” الوراثة السياسية في لبنان. تبدو صناعة هذا “الزُعيِّم” (تصغير زعيم) كـ”إهانة” كبيرة جداً لعملية التوارث السياسي في نسختها اللبنانية. ومردّ هذا الأمر، ليس إلى سوء الوريث فقط، بل إلى وضاعة العملية التي تجرى بـ”تقليدية” رخيصة من زمن مظلم عام 2022. في ظلّ انهيار شامل، اقتصادي وسياسي واجتماعي في لبنان، تحضر عملية الاستنساخ هذه لتبدو كأنها “جريمة وحشية”، بأداة قتل بدائية. 

ولا نقاش في أن عمليات التوارث السياسي، التي ذكرناها، والتي سقط ذكرها، كلها “جرائم”، لكنها متفاوتة الوحشية لجهة التنفيذ، فبعضها يشبه القتل الرحيم، بلا ألم، وبعضها يحدث غيلة، وبعضها يحصل في السرّ ويحاول المجرم إخفاء جثته، لا التمثيل فيها كما يحدث في حالة ميشال المرّ جونيور. 

الشاب ظهر فجأة للعموم، برفقة والده النائب والوزير السابق الياس المرّ، بعد شهور من وفاة جده ميشال، الذي عاش حياة طويلة واظب فيها حتى الرمق الأخير على ركوب أكتاف مناصريه، وتعزيز الزبائنية وصرف النفوذ وشراء الذمم. ثم، في حياته وعزّ نفوذه، أركب ابنه الياس على أكتاف مناصريه، وأورثه “دابّة” الولاء الأعمى لآل المرّ، المسنودة إلى حمل من التنفيعات والصفقات المشبوهة والتحالفات “الخبيثة” والفساد العابر للحدود، ليركبها و”يدندل” رجليه. وصناعة الزعامة “المرّة” (نسبة إلى آل المرّ) لم تخلُ بدورها من أثر الدم، إذ تعرّض الأب والابن (ميشال والياس) لمحاولتي اغتيال (محاولة اغتيال ميشال المر في سيارة مفخخة في انطلياس 1991/ ومحاولة اغتيال الياس المر في سيارة مفخخة في حزيران/ يونيو 2005)، وقد نجيا بأعجوبة مع جروح بالغة، وكانت بمثابة معمودية لتكريس الزعامة باللحم الحي، ليرث الحفيد ميشال زعامة في حياة أبيه، وفي ظلّ ميتة “طبيعية” لجدّه عن عمر ناهز 90 سنة، في وقت بدّد كلاهما دمه المسفوك في الاسثتمار السياسي في حياتيهما، ولم يتركا رصيداً كافياً من هذا الدم للحفيد. 

والحفيد هذا، يرث في الجينات بيتين سياسيين، لا واحداً فقط. جده لأمه، هو رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود، وخاله هو النائب السابق إميل إميل لحود (الرئيس لحود اختصر الطريق وسمّى ابنه على اسمه مباشرة ولم ينتظر ليورث الاسم للأحفاد)، ويشاع أن الياس المرّ طلّق زوجته  (والدة ميشال جونيور) بسبب خلافه السياسي مع والدها إميل لحود الأب، وهي إشارة إلى تقدّم السياسة والنفوذ لدى هؤلاء على العلاقات الإنسانية. 

قرر الياس المرّ أن يصنع لابنه زعامة، على طريقة تصميم الملابس لعروض الأزياء، لكن على catwalk (منصّة) من خراب وإفلاس ورماد، فلا ينجح في تصميم زي “راقٍ” (haute couture) لابنه، أو زيّ جاهز (prêt-à-porter)، كالذي ألبسه إياه والده ميشال (الجد) في حياته، بل تبدو النتيجة، مع ميشال المرّ جونيور، كأنها تليق بعرض للأزياء التنكّرية، لكنها من نوع الملابس التنكرية التي تثير الرعب، كما تثير الضحك الشديد، في آن واحد.

ففي زمن ما بعد 17 تشرين، يعلن الياس المر ترشيح ابنه للانتخابات النيابية، ويصفه بأنه “شاب طامح إلى التغيير ويريد أن يعيش في لبنان”، ليخرج ميشال الياس ميشال الياس المرّ، بعد “بضعة أشهر كثيرة” (بحسب تعبيره الحرفي في مقابلة تلفزيونية) في فصام هزلي يجمع بين خطاب ركيك ومتلعثم يتحدث عن “هموم الناس” و”هجرة الأدمغة” و”البطالة”، ممزوجاً بمصطلحات عن الفقر والعوز و”موت اللبنانيين على أبواب المستشفيات”، وبين سلوك زعاماتي اقطاعي استعراضي، يظهر عبر فيديوات وصور للزعيم الصغير وهو يمشي على أنغام أغنيات كتبت خصيصاً له، برفقة حراس شخصيين ومواكب أمنية و”أكسيسوارات” زعاماتية تعود إلى زمن جده، وتشبه في الممارسة تخلّف أبيه ورجعيته، الذي قرر ذات يوم وهو وزير للداخلية أن يلاحق ويسجن وينكّل بشبان وشابات “هيبيز” يستمعون إلى موسيقى صاخبة (كالميتالز والروك اند رول وغيرها) أو يضعون أقراطاً ويدقون أوشاماً بتهمة “عبادة الشيطان”. 

تقول إحدى الأغنيات التي نشرها مناصرون للمر الصغير: “هزّ العصاية بإيدك واحد واحد ربيهم، نحنا رصاص بواريدك نحنا الموت اللي جاييهم”، وهي أغنية تبدو كأنها “إيسانس” المرارة التي يمثلها تاريخه الشخصي والسياسي. أما هو، فيقول، في أول مقابلة تلفزيونية له، لتأكيد انضمامه مع كامل “اكسيسواراته” الرجعية والإقطاعية إلى ثورة اللبنانيين التي قامت ضد أمثاله: “على المستوى الشخصي وكجريدة (جريدة “الجمهورية” المملوكة من أبيه) كنا عم نتابع الثورة وكنا إحدى الرؤوس الحربية بدفاعنا عن حقوق الناس”. نعم قالها هكذا حرفياً “رؤوس حربية”، وكأنه نسخة كورية شمالية من ديكتاتور صغير يتمرّن حديثاً على المصطلحات. 

هكذا، وبمصطلحات و”اكسيسوارات” موروثة عن الأب والجدّ، يحاول ميشال المرّ الصغير أن يتسلّق، بكل ما للكلمة من معنى، أكتاف مناصري جده وابيه، لبلوغ المقعد النيابي. ويسهل، لمحاولة تقريب المشهد، العثور عبر “غوغل” على صور لميشال المرّ الجدّ راكباً على الأكتاف في فترة الانتخابات النيابية، ومثلها صور لابنه الياس بالوضعية نفسها. وهذا تكرارٌ للتاريخ، مرّة في حالة الياس المر، على شكل مأساة، ومرة ثانية في حالة ميشال المرّ جونيور، على شكل مهزلة، على ما صحّح كارل ماركس مقولة هيغل الشهيرة “كل الأحداث الكبرى والشخصيات التاريخية تتكرَّر مرَّتين”.   

“عم يهتّوني بالوراثة السياسية، أنا بفتخر انو اسمي ميشال المرّ”، يقول الشاب في مؤتمره الصحافي الأول بعد إعلان ترشحه، ثم يعلو تصفيق مفتعل ومبالغ فيه من مناصريه، لينظر الشاب مرتبكاً إلى أبيه بحثاً عن تشجيع، كما لو أنه طفل يركب “دابّة” الولاء الأعمى للمرة الأولى، ويخاف أن يقع عن ظهرها!

إقرأوا أيضاً: