تُظهر بعض الملفات التي اضطلعت بها روسيا في سوريا تخبُّطاً في مجال الإدارة المدنية، لا يقاس بـ”النجاح” الذي تفتخر بتحقيقه في المجال العسكري، وفق ما تقتضيه مصالحها وخططها في هذا البلد المنكوب. من تلك الملفات ملف استثمار المشاريع والمنشآت القائمة التي كانت ملكية عامة تديرها الحكومة السورية، ولا سيما منها ملف ميناء طرطوس الذي شهد قبل سنواتٍ تخبُّطاً ما يزال يشهده، ويمكن له أن ينسحب على منشآتٍ صناعية وخدمية أخرى وضعت روسيا يدها عليها في مناطق سورية عديدة بقصد استثمارها لعقود مقبلة. ويدفع هذا الأمر المرء للتساؤل ما إذا كان ما حصل هو تخبُّط روسي في إدارة الميناء أم تفشيل لإدارةٍ سوريةٍ كانت تديره بقدرٍ من الكفاءة التي لم يكن معها متعثراً لدرجةٍ يحتاج فيها إلى طرف خارجي ينقذه.
لا ندري ما إذا كانت روسيا باختيارها المبكر لاستثمار الميناء وفق اتفاق المبادئ الذي وقعته مع النظام سنة 2015، قد أرادت الاقتداء ببعض الشركات العالمية والدول، ومنها شركة “موانئ دبي” التي تدير عدداً من الموانئ في المنطقة وحول العالم، ومنها موانئ استراتيجية تعد منفذاً وممراً رئيسياً لصادرات وواردات دول أخرى. ولكن تلك الشركات كانت تَستثمر، في بعض الأحيان، في موانئ متعثرة، فتنتشلها من فشلها وتجعلها مصدراً للدخل ومركزاً تجارياً مهمّاً ينعكس تنميةً على المناطق المحيطة. غير أن ميناء طرطوس لم يكن متعثراً قبل الحرب والحصار، كما لم يكن كذلك حين رُفد بمحطة الحاويات الفيليبينية، والتي تلقت كثيراً من الانتقاد لدى إنشائها، شبيه بالانتقاد الذي يتلقاه موضوع استحواذ روسيا عليه هذه الأيام.
عندما علم عمال ميناء طرطوس أن روسيا ستستثمره بدأت الأقاويل والشائعات تظهر وتعطيهم أملاً في أن ادارتها سوف تنعكس على حياتهم ودخلهم؛ إذ بدأ المتفائلون منهم يتحدثون عن رواتب كبيرة سيتقاضونها، ستكون أضعاف الرواتب التي يتقاضونها من الإدارة السورية، وربما بالدولار الأميركي. وعلى الرغم من المنفعة الكبيرة التي ستعود على روسيا بفضل المداخيل الكبيرة التي كان يرفد الخزينة السورية بها وستخسرها الآن هذه الخزينة، إلا أنهم فرحوا لذلك لأنهم كانوا مدركين أن قسم من تلك الأموال كانت تذهب أدراج الفساد.
ولكن مع التصديق الرسمي للعقد بين شركة (STG-E)، (ستروي ترانس غاز – إنجينيرينغ) الروسية والشركة العامة للموانئ السورية، في 17 حزيران/ يونيو 2019، صدر قرار بتحويل العاملين في المرفأ من دائمين، وفق “قانون العاملين الأساسي في الدولة” الذي يضمن حقوق العمال ويقيهم الفصل، إلى مؤقتين، وفق القانون رقم 17 لعام 2010 الناظم لعمال القطاع الخاص، الذي يُوجَد فيه ثغرات كبيرة تسمح لصاحب العمل الاستغناء عن العمالة، وذلك تحضيراً لصرف 70% منهم، ربما على دفعات. لذلك تبيَّن أن روسيا لم تهتم لموضوع العمالة التي ستُلقي بها إدارتها المرفأ إلى قارعة الطريق، ولم تفكر كما كل المستثمرين الذي يلجؤون لتخفيض العمالة لدى محاولة إنقاذ مؤسسة ما، بموضوع التعويض على العمال بمبالغ يُعتدُّ بها وتسمح لهم ببدء نشاط اقتصادي صغير يقيهم الجوع والسؤال. كما وجدوا أن نقابتهم لا تدافع عنهم أو تطالب بحقوقهم، وأقلها رواتبهم التي تأخرت هذا الشهر.
ومع النظر لحقيقة أن الشركة الروسية المستثمرة للمرفأ هي شركة مختصة بالغاز، وليست مختصة بإدارة المرافئ، كما كان يُعتقد، فقد بدأت عهدها بالتخبط الذي بدأ مع ملف العاملين، وربما بسبب فقدانها الرؤية الواضحة، أو الخطط المستقبلية المسبقة لإدارة المرفأ واستراتيجية تشغيله، أو ربما بسبب وضع البلاد جراء الحظر الاقتصادي المفروض عليها. وجاء كلام وزير النقل السوري، أواسط السنة الماضية، عن إمكانية خرق روسيا الحظر المفروض على سوريا عبر تشغيلها المرفأ ليذر الرماد في العيون، لأن العقوبات الأميركية ستدفع الشركات العالمية للامتناع عن إبرام صفقة يكون مقصد البضاعة فيها الموانئ في سوريا، لأن ذلك سيجعلها عرضة للعقوبات الأميركية. وهذه الحقيقة أسقطها وزير النقل من حسبانه حين صرَّح ذلك التصريح، وحين باع الوهم، يومها، للسوريين في الداخل الذين كانوا ينتظرون أي بارقة أمل في تحسُّن أوضاعهم ومنها خرق الحصار الأميركي. وما تزال هذه الفكرة سائدة، لا يريد الناس العاديون تصديقها بسبب تمسُّكهم بأي جزئية تمنحهم الأمل.
والآن، ومع مضي عدة أشهر على تسلم الإدارة الروسية المرفأ، لم يطرأ أي تحسُّن على ظروف العمل أو على ظروف العمال ومداخيلهم، بل ساءت في بعض الحالات، حين حرمت بعض الفئات من الوجبة الغذائية اليومية وخفضت قيمتها من 700 ليرة سورية، (0.28$) إلى 100 ليرة (0.04$) على سعر صرف 2500 ليرة للدولار الأميركي الواحد، هذا المبلغ التافه الذي وقفت عنده الإدارة الروسية ليس بقصد تخفيض المصاريف بل لمضايقة العمال، لتضيفه لبقية المضايقات من أجل دفعهم للاستقالة. وإذ لم تزل الإدارة السورية قائمة، لكن يقل نفوذها ودورها مع ازدياد نفوذ الروسية ودورها، وهو الأمر الطبيعي، تُعِير الإدارة الروسية إذنها للقيل والقال من بعض أعضاء الإدارة القديمة والعاملين السوريين للتعرف إلى شؤون المرفأ ومعرفة كيفية إدارته، بدلاً من اتباع الطرق الطبيعية من عقد اجتماعات دائمة وتكليف الإدارة القديمة عمل (Presentations) لكل مفصل يسهل عليها فهم آلية العمل فيه وطبيعة العمال وتطلعها على همومهم وحقوقهم، مع هذه الحالة يزداد التخبط الذي يمكن إذا ما استمر على هذه الحال أن يكلف وقتاً ومصاريفاً كبيرة لضبط الفوضى التي يسببها هذا التخبط.
ومن مثالب العقد الخلل في إبرامه والقائم على التعاقد المباشر من دون اللجوء إلى طرح مزايدة علنية لاستثماره، تفوز بالعقد الشركة التي تقدِّم أفضل العروض. علاوة على أن الدستور السوري ينص على أن مؤسسات ومشاريع من قَبيل هذا المرفأ يعدُّ ملكيةً عامةً تستثمرها الدولة وتشرف على إدارتها لصالح الشعب.
يبقى الأمر الأهم في هذه القضية والذي يتعدى موضوع المرفأ وتفاصيله. فإذا افترضنا أن هدف روسيا هو تفشيل هذه المؤسسات، فهل هذا التفشيل نوع من زيادة الضغط على النظام لزيادة استئثارها بالبلاد عبر سلبه عناصر قوةٍ، سيما مصادر الثروة السيادية، لكيلا يكون بإمكانه الاعتراض أمامها في مرة من المرات؟ من بين مصادر الثروة تلك النفط والغاز وحقول الفوسفات في تدمر والبادية السورية، ومعمل الأسمدة الآزوتية في حمص وميناء طرطوس بما يحوي من أهراءات الحبوب ومحطة الحاويات الحديثة، هذا إضافة إلى تحويل المطار المدني في حميميم بجبلة، منذ 30 أيلول/ سبتمبر 2015، إلى قاعدة عسكرية لهم، ووضع عينهم على مطار دمشق الدولي ونيتهم استثماره وفق نظام (BOT) كما تسرَّب للإعلام أواسط السنة الماضية.
ومع التمعن في موضوع المرفأ، تعود بنا الذاكرة إلى بداية التدخل الروسي في سوريا، حين كنا نشهد هجمات جوية إسرائيلية تتلقاها قوات النظام ومواقعه العسكرية من دون أن تطلب روسيا من الإسرائيليين إيقافها أو تحاول التصدي لها عبر أسلحتها المتطورة. وظَهَر يومها وكأن روسيا غير معنية بما يتعرض له الجيش السوري من ضربات على يد الإسرائيليين، وكأنها لم تأتِ لمساعدته وللدفاع عنه في وجه من يستهدفه وحماية أرواح أفراده، كما روَّجت، بل تحدث كثيرون عن تواطؤ بين الطرفين لإضعاف هذا الجيش.
من جهة أخرى، ساد بين الموالين للنظام لغطٌ حول ما إذا كانت روسيا فعلاً تريد حلاً في سوريا، ويبدو أنها هي تشهد تخبطاً، إذ إنها تتوق إلى حلٍّ يسمح لها بالمشاركة في إعادة الإعمار واستغلال المشاريع والشركات التي سطت عليها. ومن جهة أخرى، ربما لا تريد هذا الحل، لأنه قد يحرمها من حصة في إعادة البناء، ولأنها تريد إطالة أمد الحرب والحصول على منافع عسكرية، ومن بينها استخدام الأراضي والأجواء السورية وحياة السوريين للتسويق لأسلحتها وبيعها للدول الأخرى، ومن أجل بيع الأسلحة للنظام. وفي هذه الحال، لا يبقى للسوريين سوى أمل بنقض هذا الاتفاق، لأنه لم يجرِ على طريقة التراضي، ولم يناقشه برلمان البلاد ويصادق عليه، بل فرضته روسيا بحكم الأمر الواقع، وبهذه الطريقة يمكن لتحكيم دولي أن يفصل فيه بعد استتباب الأمور في البلاد.