لا يوجد في العربية مرادف لعبارة “Déjà vu” التي تعبر عن شعورك حين ترى شيئاً وتعتقد أنك رأيته من قبل، أو تجربة مررت بها في زمن سابق. ما يجري في سوريا هو نوع من هذا الـ “ديجا فو”!.
يمكن أن تشعر بـ”Déjà vu” دون أن تدرك تماماً، ستستيقظ لديك ذكريات، بعضها جميل، ومعظمها موجع ومؤلم وكئيب. منذ أكثر من أسبوع، كانت ثمة تقارير تفيد بنوع من التحرك في أوساط الفصائل السورية الإسلامية المسلحة، ورأى أكثر المحللين رجاحة وقتها أن التحرك – إن حدث – سيكون محدودا وسيكون هدفه تحريك الستاتيكو المستنقع الذي عاشته البلاد نحو خمس سنوات في الشمال، هي السنوات عينها التي كانت القوات الإسرائيلية خلالها تستبيح الأجواء السورية فتضرب أهدافا إيرانية أو مرتبطة بإيران، حتى أثخنتها وأنهكتها.
سوى أن ما جرى كان هائلا (بالمعنى الحرفي وليس المجازي للكلمة)، ولا يقلل من هوله مسارعة كثرة من المعلقين إلى اعتباره “متوقعاً” و”طبيعياً”، فقد بتنا معتادين على هذا النموذج من المحللين، الذين كانوا يعرفون من قبل أن شيئا ما سيقع، ولكنهم لسبب ما آثروا ألا يعلمونا به قبيل وقوعه.
خلال ثماني وأربعين ساعة، كانت قوات الفتح المبين وأحرار الشام وحفنة أخرى من فصائل “الجيش الوطني السوري” تجتاح مناطق واسعة كانت تحت سيطرة النظام والإيرانيين. وفي أربع وعشرين ساعة أسقطوا ثاني أكبر مدينة سورية وأحكموا قبضتهم عليها.
أربع وعشرون ساعة، استعادت فيها الفصائل المناطق التي احتاجت قوات الأسد ومعه الطيران الروسي أربعة أشهر لاستعادتها في عام 2016. كيف تمكنت قوات الأسد من فكّ عدتها وعتادها والانسحاب بهذه السرعة؟، أليس هذا أيضا “ديجا فو” آخر يعيد لذاكرة من هو في عمري انسحابا آخر حدث في يوليو/حزيران 1976؟
العيش على إيقاع النشوة
نحن السوريون نعيش على اليوفوريا. ككل المحرومين والمضطهدين والمغلوب على أمرهم، ينتظر السوريون حدثاً ما ليرفع معنوياتهم فيعوضهم عن قهر سنوات وعقود بفرحة صاعقة مفاجئة غامرة تجتاح نفوسهم وترفع الأدرينالين في دمهم.
وفي مثل هذه الحالات نراهم يندفعون إلى الشوارع الحقيقية ليوزعوا الحلوى أو الشوارع الافتراضية لتبادل التهاني والفيديوهات وليوزعوا كميات هائلة من الشتائم، تجعلهم يشعرون بالراحة وقد فرّغوا جزءا من أساهم وحزنهم واكتئابهم عبر التهليل أو التكبير أو الشتيمة. حدث ذلك مرارا.
لا أحب أن أتذكر أن بعض السوريين ابتهج في 11 سبتمبر/أيلول، 2001، ووزع الحلوى، ولا أريد أن أتذكر حين هلّل بعضهم للطاغية صدام حسين حين اجتاح بلدا جارا وذا سيادة، ولا أريد أن أتذكر البهجة المجنونة التي اجتاحت بعضهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ولا عيب في اليوفوريا، إلا أنها تنتهي غالباً بهبوط بطيء في المزاج، يمر بمراحل الحزن كلها: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، ثم القبول بالأمر الواقع. وأحيانا نجد أنفسنا نهوي من جديد، بعد كل صعود سريع. حدث ذلك في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، عندما جعلتنا البهجة المفاجئة نصعد إلى أسطحة المنازل لنراقب المعركة الجوية وإسقاط الصواريخ الإسرائيلية، وأيقنا أننا قد استعدنا الجولان فعلا، وربما تجاوزنا ذلك فوصلنا إلى تل أبيب.
سوى أننا في 12 أكتوبر/تشرين الأول ُصعقنا بوقف الهجوم السوري وانعكاسه وتقدُّمِ القوات الإسرائيلية واحتلالها قرى جديدة، رفدت دمشق وريفها بعدد جديد من المهجرين. أنكرنا وغضبنا وساومنا واكتأبنا، ثم قبلنا صاغرين. وخضعنا عقودا للحاكم نفسه الذي خسر الحرب مرتين، ولكنه أعلن نصره مرتين، وكان علينا أن نتبنى نظريته في النصر، ثم وجه سلاحه إلى صدورنا وصدور أشقائنا في لبنان.
عود على بدء
وها نحن أولاء نعيد الكرة من جديد. لا ريب في أن النظام المتهالك في دمشق قد دفع بالبلاد إلى هاوية لا قرار لها من الفقر والجوع واليأس. ولا ريب أيضا في أن من حق ملايين النازحين الأمل في والعمل على عودتهم إلى ديارهم.
وفي الأشهر الأخيرة، خرقت قوات روسيا من جانب والأسد والميليشيات الأجنبية المدعومة إيرانيا اتفاق وقف التصعيد عدة مرات، وعادت إلى استخدام القصف الصاروخي والمدفعي من خلال الطائرات المسيرة، مستهدفة المدنيين والمنشآت المدنية العامة.
وكان قصف مدرسة في مدينة أريحا يوم الثلاثاء الماضي ومقتل عدد من المدنيين بينهم أطفال الحلقة الأخيرة في تلك السلسلة. وطبيعي أن يؤدي ذلك كله إلى ازدياد الضغط الشعبي المطالب بوقف تلك الهجمات العدائية المتصاعدة، التي كانت تنبئ باحتمال تصعيد العدوان للتضييق على مناطق المعارضة وزيادة معاناة السوريين فيها.
غير الطبيعي هو أن يأتي القرار من حكومة أجنبية، محتلة لجزء من الأراضي السورية، وتهدف من خلال التحرك ليس إلى حلّ قضية السوريين وإنما إلى حل قضاياها هي. ويتفق الجميع تقريبا على الدور التركي في التحرك الأخير. ولن يجادل في ذلك إلا من يحاول خداع نفسه أولا. ولكن السوريين – بعد اتفاقهم هذا – يختلفون حول النسب فمن الموافقة الضمنية إلى الأمر بالرد وقيادته طيف واسع من الدرجات.
بالنسبة لي يصعب تصور أن قادة هيئة تحرير الشام وأحرار الشام، وقد أريق الكثير من دماء مقاتليهم، كلّ على يد الطرف الآخر، قد اجتمعا طوعاً وشكلاً غرفة عمليات مشتركة ونظما العمليات خطوة فخطوة، ورسما السيناريوهات المحتملة. ولا ريب عندي في أن الأمر قد جرى بتخطيط وتوجيه وقيادة تركية، جعلت “الأخوة الأعداء” يتصالحون ويتفقون على الهدف وينفذونه بهذه الدقة، ولا ننسَ أن حملة كهذه، بالدقة والتخطيط لا يمكن أن تجري من دون معلومات وتقنيات استخباراتية لا تملكها الفصائل المسلحة المتناحرة.
تركيا “شريك صامت “!؟
على الرغم من وجود جدل كبير حول تورط تركيا المباشر في بدء الهجوم الذي تقوده هيئة تحرير الشام، فإن ما لا جدال فيه هو أن دعمها اللوجستي والاستراتيجي لفصائل مثل الجيش الوطني السوري يبرز تأثير أنقرة غير المباشر في ديناميكيات المعركة. ويبرز هذا الهجوم دور تركيا في الحفاظ على القدرة العملياتية لحلفائها.
يتماشى تورط تركيا في الصراع مع أهدافها الاستراتيجية الأوسع في الحفاظ على نفوذها في شمال سوريا ومواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات الكردية، مثل وحدات حماية الشعب، التي تعتبرها تركيا خطرا وجوديا، ينشط في القرب من حدودها، ما يجعل مشاركة أنقرة ضرورية لاستراتيجيتها الأمنية الوطنية. ويوفر هذا الهجوم فرصة لتركيا لتوطيد نفوذها في حلب والحد من مكاسب نظام الأسد في المناطق القريبة من حدودها.
ولا يغفل من يتابع الأحداث عن كثب ويقرأ التقارير بدقة عن حقيقة أن الهجوم لم يكن بوسعه أن يكون عفوياً، بل جاء تتويجا لتحضيرات طويلة الأمد بإشراف الاستخبارات التركية. ويُعتقد أن تركيا لعبت دورا في توحيد الفصائل المتطرفة في شمال سوريا تحت مظلة الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام، مما سهل العمليات المشتركة والتنسيق التكتيكي. تعكس هذه الاستراتيجية نهج تركيا المتقدم لتحقيق أهدافها العسكرية وأهدافها الجيوسياسية الأوسع.
ليس لسواد عيوننا
المهم في الأمر أن جهود الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ليست لسواد عيوننا كسوريين. لقد حاول إردوغان أن يصل إلى تسوية مع السفاح السوري لأكثر من عام، وتوسّطت في ذلك روسيا نفسها، ولكن جهوده تعثرت وباءت أخيرا بالفشل بسبب مطالب غير قابلة للتوفيق، منها إصرار الأسد على انسحاب كامل للقوات التركية من شمال سوريا.
ويبرز الصراع الحالي رفض تركيا التخلي عن موطئ قدمها الاستراتيجي، تحسبا للنتائج الأمنية والسياسية المحتملة. في الوقت نفسه، يشير تواصل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع نظيره الروسي إلى نية أنقرة في إدارة الوضع المتطور من خلال الحوار مع الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي.
يريد أردوغان تحسين مكاسبه التفاوضية، وهو في حملته الأخيرة سيحقق جملة من الأهداف، أهمها إعادة اللاجئين السوريين، وتحجيم الدور الإيراني، وأخيرا تحجيم الخطر الذي يشكله أكراد سوريا، و – الأفضل – إنهاؤه.
لم يكن باستطاعة إردوغان إعادة الثلاثة ملايين لاجئ سوري في بلاده إلى مناطق سيطرة الأسد أو الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. ولم يكن يستطيع أيضا إعادتهم إلى الشريط الضيق الذي تحتله أدواته العسكرية السورية تحت يافطة “الجيش الوطني” في منطقتي درع الفرات ونبع السلام. ولكن احتلال مدينة كبيرة كحلب وما حولها من مدن وبلدات أخرى، والامتداد إلى حماة سيسمح له بتهيئة الشروط الممكنة للعودة، وربما تمكن من إعادة عدد قد يصل إلى ثلثي اللاجئين السوريين الحاليين في تركيا.
تعكس مشاركة تركيا في الهجوم الجاري في شمال سوريا جهدا محسوبا لموازنة نفوذ إيران في المنطقة، مستغلة الصراع لإضعاف مكانة طهران الاستراتيجية. ومن خلال العملية العسكريةـ التي تقودها هيئة تحرير الشام، وضعت أنقرة نفسها كقوة مضادة للميليشيات المدعومة من إيران التي لعبت دورا حاسما في دعم نظام الأسد. يوفر الهجوم لتركيا فرصة لتعطيل القدرات العملياتية لإيران في مناطق رئيسية قرب حلب وإدلب، مما يقوض قدرة طهران على استخدام هذه المناطق كمراكز لوجستية واستراتيجية لخدمة أجندتها الإقليمية الأوسع.
كلمة السر: الكرد
ولكن كلمة السر الأساسية هي الكرد، يشكل الكرد شوكة في خاصرة إيران، وبخاصة الحركة المسلحة التي يقودها حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا في كثير من دول العالم. وتتهم أنقرة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وأداتها السياسية مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وجناحها العسكري، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بأنها مجرد ذراع من أذرع التنظيم الإرهابي. باعتقادي أهم أهداف إردوغان ليس إضعاف الأسد ولا إنقاذه ولا تحقيق تغيير سياسي جذري في سوريا، بقدر ما هو إضعاف أو إنهاء الوجود الكردي في شمال شرق سوريا.
للأسف، يتفق الكثير من السوريين، وخاصة في شمال وشمال شرق سوريا مع أردوغان في مواقفه الشوفينية، وتتداخل المواقف الشوفينية الطورانية بالمواقف الشوفينية العربي في موقف موحد هدفه القضاء على الإدارة الذاتية وقوات قسد.ة
لي الكثير من الانتقادات الجادة على الإدارة الذاتية و”مسد” و”قسد”، ولا أعتبر تجربة شمال شرق سوريا نموذجاً حقيقياً للديمقراطية، ولكن علي أن أعترف أن التنظيم السياسي والمدني والحقوقي هناك أرقى من أي مكان آخر تحت حكم الأسد أو إردوغان. المكون الكردي في الإدارة يمثل مواطنين سوريين أولا وأخيرا، ومعاملتهم كغرباء أو أعداء هو مخالفة لأبسط مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الثورة السورية ذاتها.
أدرك أن جزءا من الكرد يرتبط عاطفيا وأيديولوجيا بفكر أوجلان الإرهابي المتطرف. ولكن جزءا أكبر من العرب السوريين يتماهون بالمقابل مع الترك أو الإيرانيين أو الإسرائيليين، فدعونا لا نتخذ من هذه النقطة مثارا للجدل، فمن الأفضل دوما لمن كان بيته من زجاج ألا يرشق الناس بالحجارة.
باختصار، يُظهر الدور متعدد الأوجه لتركيا في الهجوم شمال سوريا موازنتها الاستراتيجية بين دعم الفصائل المعارضة ومواجهة القوات الكردية والإيرانية، والتنقل عبر الدبلوماسية الإقليمية. ومع تطور الصراع، ستظل تحركات أنقرة حاسمة في تشكيل توازن القوى في سوريا، مما يعكس طموحاتها الأوسع لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها الوطنية في مشهد جيوسياسي متغير وغير مستقر.
في سوريا نقول: “من يجرب المجرَّب فعقله مخرّب”، ولقد جربنا بأنفسنا الفصائل الإسلامية المتطرفة، وعاينا كيف يفرضون قوانينهم على المسلمين وغير المسلمين، المتدينين وغير المتدينين، وكيف يعاملون النساء ويفرضون الإتاوات ويتاجرون في المخدرات. ورأينا فسادهم المالي رأي العين، ورأينا كيف تحول قادتهم من أشخاص متواضعين إلى أشخاص فاحشي الثراء. فهل يمكن بعد ذلك كله أن نضع ثقتنا فيهم من جديد؟
ومع ذلك، يبقى لدي سؤال، لعله محض تمنٍ ومجرد محاولة لاستقصاء ضوء ما في الأفق: ألا يمكن لخلط الأوراق الجديد، مع ضعضعة إيران وضعف روسيا وانسحاب حزب الله وهزالة بشار الأسد، الذي تحول إلى شخصية كارتونية، أن يكون مدخلا لحل شامل في سوريا. قرأت أمس بيانا للائتلاف السوري، وجدته على غير العادة متزنا ومتوازنا، ومكتوبا بلغة سياسية، لا بلغة الشعارات والعواطف. ومما ورد فيه:
” لا بدّ من إيصال سورية إلى بر الأمان وحمايتها من المشاريع التقسيمية والانفصالية، نريد عودة سورية دولة مستقلة ذات سيادة غير منقوصة على كامل أراضيها، دولة ذات نظام حكم قائم على أسس الديمقراطية والعدالة والحرية، وسيادة القانون الذي يضمن حقوق المواطنين بمكوناتهم كافة ويكفل حرياتهم.”
فلو وجد من يفكر حقا بهذه العقلية، فمدّ يده لكل لسوريين، فلعله واجد سندا سوريا وآخر دوليا، قد يتضافران فيضعانه على أول الطريق. وقد لا!.