fbpx

“مُتعبون نفسيّاً ومتأزمون معيشياً” : المغاربة في زمن “كورونا”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أنا متشوقة للخروج واستنشاق الهواء والإحساس بالحرية… أريد أن أطلق ساقيَّ للريح، وأهرب للحظات من هذا السجن”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أحس بالخواء، باللامعنى، بالسأم. نفسيتي متعبة، وبالي مشوش بالكثير من الأسئلة العالقة”.

بنبرة صوت متعبة، وبمشاعر تشي بالكثير من القلق، تلخص ليلى وهي معلمة مدرسة (29 سنة) لـ”درج” حياتها اليومية مع الحجر الصحي الذي امتد لأسابيع طويلة في المغرب. 

تتطلع للخروج من “سجن البيت” كما تصفه إذ لم تعد تكفيها الساعات القليلة المتاحة لجلب الحاجيات سريعاً.

منذ الإعلان عن أول إصابة في المغرب في 2 آذار/ مارس الماضي، سارعت السلطات إلى اتخاذ إجراءات احترازية متشددة، كان أهمها إقرار الطوارئ الصحية المطبقة في منتصف آذار، كخطوة استباقية لدرء استفحال فايروس “كوفيد-19”.

مؤخراً، بدأ المغرب رفع الحظر تدريجاً عن مجموعة من الأنشطة التجارية والاقتصادية وذات الطابع اليومي، من بينها فتح المقاهي والشركات والمقاولات والأسواق الشعبية، لكن وفق شروط صارمة تحترم قواعد السلامة الصحية والتباعد الجسماني. 

إلا أن الطوارئ الصحية ما زالت قائمة وممتدة حتى 10 حزيران/ يونيو، إذ تلزم المغاربة المكوث في بيوتهم وعدم مغادرتها إلا لقضاء حاجياتهم الضرورية ضمن نطاقهم السكني أو الخروج للعمل، أو لتلقي العلاج، مع ضرورة احترام الشروط الصحية وقواعد التباعد الجسماني.

لكن لهذه الخطوة مساوئ تكمن في تأزم الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لنسبة كبيرة من المهمشين ومحدودي ومتوسطي الدخل، وفي خلق المزيد من المشكلات والاضطرابات النفسية.  

“محبوسة في غرفتي ونفسيتي متعبة”

منذ اكتشاف أول حالة في المغرب، لم تتعاطَ خديجة (ربة منزل) مع موضوع “كورونا” بسخرية واستهزاء، بل تعاملت معه بمزيد من الجدية والحذر، وخوفها يزداد أكثر على طفلتها وأمها المريضة.

تقول لـ”درج”: “أخاف على أمي، إذ تعاني من أمراض مزمنة كالسكري والضغط الدموي. أما طفلتي فخوفي عليها أشد، لأنها تختلط مع جيراني الذين أشترك معهم في المسكن ذاته”.

تكمل خديجة حديثها بنبرة متوترة: “بحكم أن غرفتي ضيقة ومن دون تهوئة، تزداد معاناتي مع حساسية الجيوب الأنفية، وأحياناً أختنق لدرجة أنني لا أستطيع التنفس. تأتيني مخاوف نفسية وظنون بإصابتي بفايروس كوفيد 19. أشك كثيراً والوسواس يقض مضجعي”.

تقطن خديجة في غرفة مع زوجها وطفلتها داخل مسكن مشترك مع الجيران. تحس بوحدتها في فضاء ضيق ومكدس. لم تعد ترى أمها التي تُجَاوِرُها. وتكتفي بالتواصل معها عبر الهاتف أو من بعيد عبر نافذة مشتركة في عمارة المسكن الذي تقطن فيه.

توجز خديجة مشاعرها: “نفسيتي متعبة، واهتزت كثيراً بعدما ضاقت بنا الأحوال المعيشية. وأحس بالسأم والوحدة، لأنني لم أعد أرى أفراد عائلتي”.

“لا أحد سيسد رمقنا إذا لم نشمر عن سواعدنا”

يعيش الزوجان (خديجة ورشيد) في أحد أحياء الدار البيضاء الشعبية والهامشية، المعروفة بارتفاع كثافتها السكانية في مساحات ضيقة، ومعدلات الهشاشة الاجتماعية والفقر ونسب الأمية المرتفعة، وتَسَيُّد ثقافة الاختلاط والازدحام في المرافق الحيوية مثل الأسواق الشعبية. والحال أسوأ مع المنازل التي عادة ما لا تمتثل للشروط الصحية، كما تعرف تكدساً في فضاء يضيق بأفراده نفسياً واجتماعياً، ولا يحترم خصوصياتهم.

يقول رشيد لـ”درج”: “لا نملك إمكانات للعيش في إطار حجر صحي سليم، نحن نعيش في محجر غير صحي، بيتي أو بالأحرى غرفتي متواضعة جداً وغير صحية، هذا المكان الذي بالكاد يكفي لشخص واحد، يتكدس فيه ثلاثة أشخاص، أنا وزوجتي وطفلتي”. 

“الحجر الصحي حاول أن يعيد مسالة الأدوار الاجتماعية لكلا الطرفين، فالرجل وضع أمام الأمر الواقع ليضطر في الكثير من المواقف إلى مساعدة المرأة، لذا بات هذا الفضاء مشتركاً ومفروضاً قسراً على الاثنين”

على عكس زوجته خديجة، فالرجل الثلاثيني لا تؤثر فيه التداعيات النفسية لجائحة “كورونا”، بقدر ما تقلقه أحوال المعيشة التي تدهورت وصارت على شفير الانهيار.

لم يكن حال أسرة رشيد الصغيرة بهذا التأزم المعيشي مع بدايات تطبيق الحجر الصحي، إذ كان لدى رب الأسرة ما يكفي لتدبير المصاريف اليومية في حدها الأدنى لشراء المستلزمات الضرورية والأساسية. لكن مع مرور الأسابيع، تغيرت أحوال رشيد وانقلبت رأساً على عقب بعد تمديد فترة الطوارئ الصحية، وصارت أنشطته تتراجع يوماً بعد يوم إلى أن توقف عن مزاولة أعماله بشكل كامل خلال شهر رمضان.

“وضعي صعب ومقلق جداً معيشياً”. يقول رشيد بالكثير من الأسى على وضعه.

استفادت الفئة التي ينتمي إليها رشيد العاملة في القطاع غير المهيكل (غير النظامي) من دعم الحكومة المخصص لها  في إطار موارد صندوق جائحة “كورونا”، والذي يمنح شهرياً ما بين 800 درهم (نحو 80 دولاراً) إلى 1200 درهم (120 دولاراً) للأسر الفقيرة والمتضررة من تداعيات الحجر. وتؤكد الحكومة المغربية أن 4.7 ملايين من هذه الفئة استفادت من هذه المنح، منهم 3 ملايين و700 ألف شخص استلموا أموالهم، أما الآخرون فما زالوا ينتظرون. ولحل مشكلة تأخر الدعم وعدم وصوله، أنشأت الحكومة منصة إلكترونية خاصة لتلقي شكاوى هذه الفئة. 

بالنسبة إلى رشيد، لا مجال للانتظار ولا حل أمام تأزم وضعه المعيشي سوى الرجوع من جديد إلى نشاطه المهني، على رغم ما قد يتعرض له من تضييق بين الفينة والأخرى من قبل السلطات المحلية.

“نحن صبرنا من أجل أبنائنا وإخواننا المغاربة والوطن، لكنني سأضطر للرجوع لعملي… حيتاش إلى ما خرجناش نجيبو لولداتنا ما ياكلو ماكاينش اللي غايعطينا ما ناكلو ” (لأن لا أحد سيسد رمقنا إذا لم نشمر عن سواعدنا لنجلب لأولادنا ما يأكلون). يوجز رشيد كلامه مع “درج”.

“أريد أن أطلِق سَاقَيَّ للريح”

يختلف قليلاً وضع ليلى عما تعيشه أسرة خديجة ورشيد، فوضعها المعيشي ليس متأزما بشكل حاد، لكن الحجر الصحي أثر في نفسيتها بشكل كبير.

لزمت الشابة العشرينية منزلها كبقية المغاربة منذ شهرين. صار ذلك نمطاً يومياً بكل ما يحمل من استمرارية الأعمال والأنشطة المنزلية والمهنية (التدريس من بعد) بشكل مكرر وفي فضاء محدود، ترى أنه بات يضيق بها نفسيا، وحوَّلَ حياتها إلى “ملل” و”لا معنى”.

بيد أن الأمر لم يكن بهذا السوء مع بدايات الحجر الصحي، إذ كان لديها فضول وتطلع وحيوية ونشاط ومحاولات لترتيب الأزمة، وكانت تلفتها “دهشة عيش هذه التجربة الجديدة” و”سؤال كيف ستكون هذه الحياة لاحقاً؟”.

تُقِرُّ ليلى بأن الحجر الصحي أمر واقع ومعتاد للسواد الأعظم من الإناث.

تقول لـ”درج”: “بالنسبة إليَّ ولغيري من الإناث، كنا نعيش نوعاً من الحجر المنزلي في حياتنا الطبيعية… لا نستطيع أن نسافر، ولا أن نتسكع، ولا أن نغير الأماكن… كنا محبوسات بشكل أو بآخر… لذا فكورونا لم يأتِ بجديد في هذا الصدد”.

بيد أن مشاعر “الشخص المحبوس” التي تعيشها ليلى جعلتها تتطلع للخروج من “سجن” المنزل.

تكمل ليلى كلامها، لكن هذه المرة بِنَفَسٍ متفائل: “أنا متشوقة للخروج واستنشاق الهواء والإحساس بالحرية… أريد أن أطلق ساقيَّ للريح، وأهرب للحظات من هذا السجن”.

من ناحية أخرى، لم تواجه الشابة العشرينية تشنجات أو مشكلات مرتبطة بمشاركة المهمات الأسرية مع زوجها، فهو لا يجد غضاضة في مساعدتها أحياناً في تدبير الأعمال المنزلية.

في هذا السياق، ترى ليلى أن الحجر المنزلي أعاد الرجل إلى فضاء البيت والأعمال المنزلية المقترنة (بحكم التنميط الاجتماعي والثقافي) بالمرأة من كنس وطبخ…

“الحجر الصحي حاول أن يعيد مسالة الأدوار الاجتماعية لكلا الطرفين، فالرجل وضع أمام الأمر الواقع ليضطر في الكثير من المواقف إلى مساعدة المرأة، لذا بات هذا الفضاء مشتركاً ومفروضاً قسراً على الاثنين” تقول ليلى.

ماذا تقول الإحصاءات؟

ليست خديجة وليلى لوحدهما في مأزق المعاناة بسبب “كورونا”، إذ يشاركهما هذه التجربة الصعبة الكثير من المغاربة، أفصح جزء منهم عما يعانيه، وتأثير “كورونا” في الحالة النفسية والحياة اليومية.

وأفاد بحث أنجزته مندوبية التخطيط المغربية بأن القلق يعد أهم أثر نفسي للحجر الصحي لدى الأسر المغربية، بنسبة 49 في المئة، وتزداد هذه النسبة لدى الأسر المقيمة في أحياء الصفيح العشوائية بنسبة تصل إلى 54 في المئة، مقابل 41 في المئة لدى الأسر التي تقطن في مساكن عصرية.

وأصابت مشاعر الخوف 41 في المئة من الأسر المستجوبة، والفقيرة منها أكثر خوفاً (43 في المئة) من الأسر الغنية (33 في المئة).

ويشارك 8 في المئة من المغاربة المستجوبين إحساس ليلى بالملل، وهذه النسبة تشمل أيضاً أشخاصاً صرحوا بمعاناتهم من اضطرابات نفسية من قبيل فرط الحساسية والتوتر العصبي. كما أن 24 في المئة من الأسر تشعر باضطرابات النوم، وتتضاعف هذه النسبة لدى سكان المدن (28 في المئة) قياساً مع سكان القرى (14 في المئة).

معيشياً، ليست أوضاع أسرة رشيد في منأى عما تسجله الأسر المغربية التي فقدت دخلها المالي بسبب تداعيات جائحة “كورونا”، إذ تشاركه في هذه الأزمة 34 في المئة من الأُسر بسبب توقف أنشطتها أثناء الحجر الصحي.

وتضيف الإحصاءات الرسمية (مندوبية التخطيط) أن معظم هذه الأسر تقطن في مساكن عشوائية (42 في المئة)، وتضررت الأسر الفقيرة كثيراً نتيجة فقدانها مصدر دخلها بنسبة 44 في المئة. كما لم تسلم معيشة فئات عريضة من الحرفيين والعمال المؤهلين (54 في المئة) والمياومين في الضيعات الفلاحية (46 في المئة) والتجار (47 في المئة) من التأزم المادي والمعيشي.

ولا تستطيع الأسر المغربية تحمل أعباء النفقات على نَحْوٍ طبيعي، فالدخل لا يكفي لسد الاحتياجات الضرورية سوى لـ38 في المئة من الأسر، فيما تلجأ 22 في المئة من الأسر إلى صرف مدخراتها، في حين تضطر 14 في المئة إلى الاستدانة والاقتراض، والنسبة الأقل (8 في المئة) تلجأ إلى الدعم المالي الحكومي، على رغم محدوديته.

07.06.2020
زمن القراءة: 6 minutes

“أنا متشوقة للخروج واستنشاق الهواء والإحساس بالحرية… أريد أن أطلق ساقيَّ للريح، وأهرب للحظات من هذا السجن”.

“أحس بالخواء، باللامعنى، بالسأم. نفسيتي متعبة، وبالي مشوش بالكثير من الأسئلة العالقة”.

بنبرة صوت متعبة، وبمشاعر تشي بالكثير من القلق، تلخص ليلى وهي معلمة مدرسة (29 سنة) لـ”درج” حياتها اليومية مع الحجر الصحي الذي امتد لأسابيع طويلة في المغرب. 

تتطلع للخروج من “سجن البيت” كما تصفه إذ لم تعد تكفيها الساعات القليلة المتاحة لجلب الحاجيات سريعاً.

منذ الإعلان عن أول إصابة في المغرب في 2 آذار/ مارس الماضي، سارعت السلطات إلى اتخاذ إجراءات احترازية متشددة، كان أهمها إقرار الطوارئ الصحية المطبقة في منتصف آذار، كخطوة استباقية لدرء استفحال فايروس “كوفيد-19”.

مؤخراً، بدأ المغرب رفع الحظر تدريجاً عن مجموعة من الأنشطة التجارية والاقتصادية وذات الطابع اليومي، من بينها فتح المقاهي والشركات والمقاولات والأسواق الشعبية، لكن وفق شروط صارمة تحترم قواعد السلامة الصحية والتباعد الجسماني. 

إلا أن الطوارئ الصحية ما زالت قائمة وممتدة حتى 10 حزيران/ يونيو، إذ تلزم المغاربة المكوث في بيوتهم وعدم مغادرتها إلا لقضاء حاجياتهم الضرورية ضمن نطاقهم السكني أو الخروج للعمل، أو لتلقي العلاج، مع ضرورة احترام الشروط الصحية وقواعد التباعد الجسماني.

لكن لهذه الخطوة مساوئ تكمن في تأزم الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لنسبة كبيرة من المهمشين ومحدودي ومتوسطي الدخل، وفي خلق المزيد من المشكلات والاضطرابات النفسية.  

“محبوسة في غرفتي ونفسيتي متعبة”

منذ اكتشاف أول حالة في المغرب، لم تتعاطَ خديجة (ربة منزل) مع موضوع “كورونا” بسخرية واستهزاء، بل تعاملت معه بمزيد من الجدية والحذر، وخوفها يزداد أكثر على طفلتها وأمها المريضة.

تقول لـ”درج”: “أخاف على أمي، إذ تعاني من أمراض مزمنة كالسكري والضغط الدموي. أما طفلتي فخوفي عليها أشد، لأنها تختلط مع جيراني الذين أشترك معهم في المسكن ذاته”.

تكمل خديجة حديثها بنبرة متوترة: “بحكم أن غرفتي ضيقة ومن دون تهوئة، تزداد معاناتي مع حساسية الجيوب الأنفية، وأحياناً أختنق لدرجة أنني لا أستطيع التنفس. تأتيني مخاوف نفسية وظنون بإصابتي بفايروس كوفيد 19. أشك كثيراً والوسواس يقض مضجعي”.

تقطن خديجة في غرفة مع زوجها وطفلتها داخل مسكن مشترك مع الجيران. تحس بوحدتها في فضاء ضيق ومكدس. لم تعد ترى أمها التي تُجَاوِرُها. وتكتفي بالتواصل معها عبر الهاتف أو من بعيد عبر نافذة مشتركة في عمارة المسكن الذي تقطن فيه.

توجز خديجة مشاعرها: “نفسيتي متعبة، واهتزت كثيراً بعدما ضاقت بنا الأحوال المعيشية. وأحس بالسأم والوحدة، لأنني لم أعد أرى أفراد عائلتي”.

“لا أحد سيسد رمقنا إذا لم نشمر عن سواعدنا”

يعيش الزوجان (خديجة ورشيد) في أحد أحياء الدار البيضاء الشعبية والهامشية، المعروفة بارتفاع كثافتها السكانية في مساحات ضيقة، ومعدلات الهشاشة الاجتماعية والفقر ونسب الأمية المرتفعة، وتَسَيُّد ثقافة الاختلاط والازدحام في المرافق الحيوية مثل الأسواق الشعبية. والحال أسوأ مع المنازل التي عادة ما لا تمتثل للشروط الصحية، كما تعرف تكدساً في فضاء يضيق بأفراده نفسياً واجتماعياً، ولا يحترم خصوصياتهم.

يقول رشيد لـ”درج”: “لا نملك إمكانات للعيش في إطار حجر صحي سليم، نحن نعيش في محجر غير صحي، بيتي أو بالأحرى غرفتي متواضعة جداً وغير صحية، هذا المكان الذي بالكاد يكفي لشخص واحد، يتكدس فيه ثلاثة أشخاص، أنا وزوجتي وطفلتي”. 

“الحجر الصحي حاول أن يعيد مسالة الأدوار الاجتماعية لكلا الطرفين، فالرجل وضع أمام الأمر الواقع ليضطر في الكثير من المواقف إلى مساعدة المرأة، لذا بات هذا الفضاء مشتركاً ومفروضاً قسراً على الاثنين”

على عكس زوجته خديجة، فالرجل الثلاثيني لا تؤثر فيه التداعيات النفسية لجائحة “كورونا”، بقدر ما تقلقه أحوال المعيشة التي تدهورت وصارت على شفير الانهيار.

لم يكن حال أسرة رشيد الصغيرة بهذا التأزم المعيشي مع بدايات تطبيق الحجر الصحي، إذ كان لدى رب الأسرة ما يكفي لتدبير المصاريف اليومية في حدها الأدنى لشراء المستلزمات الضرورية والأساسية. لكن مع مرور الأسابيع، تغيرت أحوال رشيد وانقلبت رأساً على عقب بعد تمديد فترة الطوارئ الصحية، وصارت أنشطته تتراجع يوماً بعد يوم إلى أن توقف عن مزاولة أعماله بشكل كامل خلال شهر رمضان.

“وضعي صعب ومقلق جداً معيشياً”. يقول رشيد بالكثير من الأسى على وضعه.

استفادت الفئة التي ينتمي إليها رشيد العاملة في القطاع غير المهيكل (غير النظامي) من دعم الحكومة المخصص لها  في إطار موارد صندوق جائحة “كورونا”، والذي يمنح شهرياً ما بين 800 درهم (نحو 80 دولاراً) إلى 1200 درهم (120 دولاراً) للأسر الفقيرة والمتضررة من تداعيات الحجر. وتؤكد الحكومة المغربية أن 4.7 ملايين من هذه الفئة استفادت من هذه المنح، منهم 3 ملايين و700 ألف شخص استلموا أموالهم، أما الآخرون فما زالوا ينتظرون. ولحل مشكلة تأخر الدعم وعدم وصوله، أنشأت الحكومة منصة إلكترونية خاصة لتلقي شكاوى هذه الفئة. 

بالنسبة إلى رشيد، لا مجال للانتظار ولا حل أمام تأزم وضعه المعيشي سوى الرجوع من جديد إلى نشاطه المهني، على رغم ما قد يتعرض له من تضييق بين الفينة والأخرى من قبل السلطات المحلية.

“نحن صبرنا من أجل أبنائنا وإخواننا المغاربة والوطن، لكنني سأضطر للرجوع لعملي… حيتاش إلى ما خرجناش نجيبو لولداتنا ما ياكلو ماكاينش اللي غايعطينا ما ناكلو ” (لأن لا أحد سيسد رمقنا إذا لم نشمر عن سواعدنا لنجلب لأولادنا ما يأكلون). يوجز رشيد كلامه مع “درج”.

“أريد أن أطلِق سَاقَيَّ للريح”

يختلف قليلاً وضع ليلى عما تعيشه أسرة خديجة ورشيد، فوضعها المعيشي ليس متأزما بشكل حاد، لكن الحجر الصحي أثر في نفسيتها بشكل كبير.

لزمت الشابة العشرينية منزلها كبقية المغاربة منذ شهرين. صار ذلك نمطاً يومياً بكل ما يحمل من استمرارية الأعمال والأنشطة المنزلية والمهنية (التدريس من بعد) بشكل مكرر وفي فضاء محدود، ترى أنه بات يضيق بها نفسيا، وحوَّلَ حياتها إلى “ملل” و”لا معنى”.

بيد أن الأمر لم يكن بهذا السوء مع بدايات الحجر الصحي، إذ كان لديها فضول وتطلع وحيوية ونشاط ومحاولات لترتيب الأزمة، وكانت تلفتها “دهشة عيش هذه التجربة الجديدة” و”سؤال كيف ستكون هذه الحياة لاحقاً؟”.

تُقِرُّ ليلى بأن الحجر الصحي أمر واقع ومعتاد للسواد الأعظم من الإناث.

تقول لـ”درج”: “بالنسبة إليَّ ولغيري من الإناث، كنا نعيش نوعاً من الحجر المنزلي في حياتنا الطبيعية… لا نستطيع أن نسافر، ولا أن نتسكع، ولا أن نغير الأماكن… كنا محبوسات بشكل أو بآخر… لذا فكورونا لم يأتِ بجديد في هذا الصدد”.

بيد أن مشاعر “الشخص المحبوس” التي تعيشها ليلى جعلتها تتطلع للخروج من “سجن” المنزل.

تكمل ليلى كلامها، لكن هذه المرة بِنَفَسٍ متفائل: “أنا متشوقة للخروج واستنشاق الهواء والإحساس بالحرية… أريد أن أطلق ساقيَّ للريح، وأهرب للحظات من هذا السجن”.

من ناحية أخرى، لم تواجه الشابة العشرينية تشنجات أو مشكلات مرتبطة بمشاركة المهمات الأسرية مع زوجها، فهو لا يجد غضاضة في مساعدتها أحياناً في تدبير الأعمال المنزلية.

في هذا السياق، ترى ليلى أن الحجر المنزلي أعاد الرجل إلى فضاء البيت والأعمال المنزلية المقترنة (بحكم التنميط الاجتماعي والثقافي) بالمرأة من كنس وطبخ…

“الحجر الصحي حاول أن يعيد مسالة الأدوار الاجتماعية لكلا الطرفين، فالرجل وضع أمام الأمر الواقع ليضطر في الكثير من المواقف إلى مساعدة المرأة، لذا بات هذا الفضاء مشتركاً ومفروضاً قسراً على الاثنين” تقول ليلى.

ماذا تقول الإحصاءات؟

ليست خديجة وليلى لوحدهما في مأزق المعاناة بسبب “كورونا”، إذ يشاركهما هذه التجربة الصعبة الكثير من المغاربة، أفصح جزء منهم عما يعانيه، وتأثير “كورونا” في الحالة النفسية والحياة اليومية.

وأفاد بحث أنجزته مندوبية التخطيط المغربية بأن القلق يعد أهم أثر نفسي للحجر الصحي لدى الأسر المغربية، بنسبة 49 في المئة، وتزداد هذه النسبة لدى الأسر المقيمة في أحياء الصفيح العشوائية بنسبة تصل إلى 54 في المئة، مقابل 41 في المئة لدى الأسر التي تقطن في مساكن عصرية.

وأصابت مشاعر الخوف 41 في المئة من الأسر المستجوبة، والفقيرة منها أكثر خوفاً (43 في المئة) من الأسر الغنية (33 في المئة).

ويشارك 8 في المئة من المغاربة المستجوبين إحساس ليلى بالملل، وهذه النسبة تشمل أيضاً أشخاصاً صرحوا بمعاناتهم من اضطرابات نفسية من قبيل فرط الحساسية والتوتر العصبي. كما أن 24 في المئة من الأسر تشعر باضطرابات النوم، وتتضاعف هذه النسبة لدى سكان المدن (28 في المئة) قياساً مع سكان القرى (14 في المئة).

معيشياً، ليست أوضاع أسرة رشيد في منأى عما تسجله الأسر المغربية التي فقدت دخلها المالي بسبب تداعيات جائحة “كورونا”، إذ تشاركه في هذه الأزمة 34 في المئة من الأُسر بسبب توقف أنشطتها أثناء الحجر الصحي.

وتضيف الإحصاءات الرسمية (مندوبية التخطيط) أن معظم هذه الأسر تقطن في مساكن عشوائية (42 في المئة)، وتضررت الأسر الفقيرة كثيراً نتيجة فقدانها مصدر دخلها بنسبة 44 في المئة. كما لم تسلم معيشة فئات عريضة من الحرفيين والعمال المؤهلين (54 في المئة) والمياومين في الضيعات الفلاحية (46 في المئة) والتجار (47 في المئة) من التأزم المادي والمعيشي.

ولا تستطيع الأسر المغربية تحمل أعباء النفقات على نَحْوٍ طبيعي، فالدخل لا يكفي لسد الاحتياجات الضرورية سوى لـ38 في المئة من الأسر، فيما تلجأ 22 في المئة من الأسر إلى صرف مدخراتها، في حين تضطر 14 في المئة إلى الاستدانة والاقتراض، والنسبة الأقل (8 في المئة) تلجأ إلى الدعم المالي الحكومي، على رغم محدوديته.