نبيه بري في قبضة نواف سلام بعد ربع قرن من التعطيل الدستوري الذي يتماشى مع نزعاته. تصريح بري الأخير يُنبّه إلى أنه لا يجوز للحكومة أن تُقدّم قانوناً جديداً لمجلس النواب في ظل وجود قانون نافذ. وعليه، يعود بري إلى شخصيته الدستورية الفريدة من نوعها، التي تتيح له إعادة تشكيل ما هو منصوص عليه في الدستور وفق إرادته السياسية. وتدور المنازعة حول قانون المغتربين، إذ يسعى ثنائي «أمل» و«حزب الله» إلى التقليل من تأثير المغتربين في الانتخابات المقبلة.
هل هذه الخطوة جديدة من حركة أمل أو من بري؟ لا يوجد نص في الدستور يقول إنه يمكن تعليق أو تجميد إرسال مشروع قانون جديد لأن هناك قانوناً سارياً بالفعل. ووفقاً للمادة 56، يجب على رئيس الجمهورية إصدار القوانين التي وافق عليها بعد أن تُرسل إليه من الحكومة أو من أحد أعضاء المجلس. الدستور يحدّد كيفية عرض القوانين والموافقة عليها، لكنه لا يمنع الحكومة من إرسال مشروع قانون إذا كان هناك قانون قائم. وهذه هي المرة الأولى التي يُواجَه فيها بري من شخصية قانونية ذات منصب رئاسي، تستطيع مناقشته في الدستور وفي أدق تفاصيل المواد.
يُوجّه بري قراءة سياسية استناداً إلى مبدأ عدم التداخل أو المنافسة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لكن هذا ليس مدعوماً بتحديد بمادة دستورية واضحة. فعلى الصعيد السياسي، قد يكون موقف بري وجهة نظر سياسية، لكنه بالتأكيد ليس مثبتاً بالنص الدستوري.
طبعاً، لبري حركات بهلوانية في عرقلة الخصم السياسي عبر الدستور منذ العام 2005 ولغاية اليوم. ويمكن تفنيدها عبر أمثلة بسيطة وواضحة وسريعة.
ولعل أبرز خطواته والمصطلحات التي كان يستخدمها في عرقلة الخصم السياسي عبر الدستور، كيفما اتفق مع مزاجه، هي المصطلحات التالية: «التمثيل الوزاري» عند تشكيل الحكومة، وخصوصاً ما يتعلق بالمكوّن الشيعي، «نصاب انتخاب الرئيس»، و«جدول الدعوة»، وطبعاً اشتراط نصاب الثلثين لافتتاح الجلسة الأولى وانتظام الانعقاد، ومصطلحه المفضل: «الميثاقية».
إقرأوا أيضاً:
قانون الانتخاب والتمديد للمجلس
شكّل قانون الانتخاب إحدى أبرز ساحات الاشتباك السياسي، حيث برز دور نبيه بري في التحكّم بمسار هذا الملف عند كل استحقاق. ففي عام 2005 تمسّك بري بقانون 2000 بعد الانسحاب السوري، ورعى الحلف الرباعي للحفاظ على توازنات الطوائف داخل المجلس النيابي. وفي عام 2013 عطّل إقرار قانون جديد بحجة غياب التوافق والظروف الأمنية، فكانت النتيجة التمديد للمجلس. ثم عاد في عام 2017 ليقود النقاش حول القانون النسبي، مشترطاً توافقاً سياسياً واسعاً قبل تمريره بصيغته النهائية مع الصوت التفضيلي.
الثلث المعطّل وإسقاط الحكومات
اعتمد نبيه بري على «الثلث المعطّل» لإعادة تكوين السلطة التنفيذية وفق موازين القوة التي يريدها. ففي عام 2006 استخدم كل من حركة أمل وحزب الله سلاح الاستقالة لإسقاط ميثاقية حكومة السنيورة، ثم عاد السلاح نفسه عام 2011 لإسقاط حكومة سعد الحريري. وفي عام 2024 ظهر «الثلث المعطّل» مجدداً كأداة لربط انتخاب الرئيس بتفاهم سياسي مسبق على الحكومة وبرنامجها، ما أدى إلى استمرار الشغور.
تشكيل الحكومات والصراع على الميثاقيّة
كان بري حاضراً عند كل عملية تشكيل حكومي، واضعاً شروطاً تتعلق بالمكوّن الشيعي والحصص والبيان الوزاري. ففي 2006 اعترض على التشكيلة الحكومية بذريعة غياب التمثيل الشيعي المتوازن، وفي عام 2010 عطّل بنوداً حكومية خلافية لحماية صلاحيات المجلس، ثم مارس في عام 2018 ضغوطاً سياسية لتأخير ولادة الحكومة بعد الانتخابات، قبل أن يعود عام 2024 لتثبيت معادلة انتخاب الرئيس مقابل تفاهم حكومي مسبق.
رئاسة الجمهورية والشغور الرئاسي
تحوّل الاستحقاق الرئاسي إلى مساحة نفوذ لعب فيها بري دور الممسك بمفتاح النصاب. ففي عام 2007 أدّى تمسّكه بنصاب الثلثين إلى تعطيل الانتخاب، ثم أدار جلسة انتخاب ميشال سليمان عام 2008 بعد اتفاق الدوحة. وتكرّر المشهد في 2014 مع دخول لبنان فراغاً طويلاً، وفي 2016 مع انتظار التسوية التي انتهت بانتخاب عون، قبل أن يُعاد إنتاج الأسلوب نفسه في 2022 و2023 عبر جلسات تُعقد بلا انتخاب لمنع فرض رئيس بالأكثرية البسيطة.
التشريع في ظل الفراغ والغضب الشعبي
عند كل فراغ سياسي، لجأ بري إلى «تشريع الضرورة» لتثبيت دوره كضابط إيقاع للمجلس، يمكن وصفه بأنه «مايسترو العرقلة الدستورية». وهو لقب جديد يُضاف إلى ألقابه الإعلامية. ففي 2015 فُتح البرلمان بحجة تمرير بنود ملحّة على رغم الفراغ الرئاسي، وفي عام 2019 استُخدمت الجلسات لامتصاص ضغط الشارع مع تمرير ما اعتبره عاجلاً، ثم جاء عام 2021 ليشهد تعطيل الجلسات المرتبطة بالتحقيق في انفجار المرفأ بذريعة فصل السلطات.
الضغوط الدولية والملفات السيادية
في السنوات الأخيرة تعاطى بري مع الملفات السيادية باعتباره بوابة الإقرار الداخلي. ففي عام 2020 واجه الضغوط الأميركية المتعلقة بالتطبيع الاقتصادي مع سوريا عبر تعطيل المسارات المالية في المجلس، ثم عاد في عام 2025 ليربط أي تفاهم حول الحدود والسلاح بضرورة المرور عبر البرلمان والتوازنات التي يتحكّم بها، مؤكداً احتفاظه بمفتاح القرار في أكثر الملفات حساسية.
نبيه بري، رئيس مجلس النواب منذ 20 تشرين الأول/ أكتوبر 1992، حصد الأوصاف والصفات في الكتب والمقالات والصحف والتحليلات. هو الأستاذ ودولة الرئيس، وهو ضمانة النظام وضمانة الوطن. هو رجل التسويات ومهندس الحوار، وصاحب الأرانب وقلب المعادلات، والساحر السياسي، والجناح الديناميكي في الثنائي الشيعي، والثعلب السياسي اللبناني، ورجل الدولة القديمة، وعرّاب الترسيم البحري، والآن عرّاب تسليم السلاح والوسيط الدائم. لكن في الحقيقة، هو معرقل النظام.
يبقى لبري، في أيامه الأخيرة، أن يعرف أنه حان الوقت لأن تكون للبنان دولة مؤسسات، لا دولة نبيه بري. دولة بمؤسسات وحكومة مستقلة، لا حكومة تعطيل وثلث معطّل.













