حين يُفلِت العالم العقال لمجرم مثل بنيامين نتنياهو، يسقط جسم بحجم قنبلة نووية على ضاحية بيروت الجنوبية، فتتبخر أجسام أكثر من ثلاثمئة لبناني بحسب التقديرات.
هذا ما جرى تماماً بالأمس، لا بل إنه حين هوت القنابل الإسرائيلية الهائلة، كان ممثلو العالم في الأمم المتحدة ينظرون إلى عيني المجرم بإعجاب ربما وهو يلقي خطابه أمامهم. الخطاب كان جزءاً من مشهد الانفجار الذي هزّ العاصمة، تماماً كما فعل انفجار المرفأ.
هدف توجه نتنياهو إلى نيويورك هو مراوغتنا لكي تنقض طائراته التي استوردها مؤخراً من الولايات المتحدة الأميركية علينا. هل من شيء أوضح من عناصر الجريمة، وهل من قتل معلن وموقع بختم الأمم المتحدة أكثر شفافية؟
لم يكن الهدف الأمين العام “حزب الله”، ولم تسقط القنابل في غفلة عن العالم. وحدهم أهل الضاحية من غافلهم القاتل، فالرجل كان على المنصة في نيويورك منتظراً الأخبار عن نجاح الجريمة.
كان أمام العالم وجهاً لوجه، بينما كانت أجسام عشرات اللبنانيين تتبخر. وبعد ساعات قليلة من الفاجعة راح الناطق باسمه يضيف أهدافاً جديدة في الضاحية الجنوبية، وكنا مختبئين وراء زجاج نوافذنا نراقب آلاف العائلات حاملين أطفالاً وراكضين في كل الاتجاهات. سمعنا لهاث الهاربين، وكلمات قليلة لا تُفضي إلى معنى، وكان القصف قد خلف صمتاً، والعتمة قد بدأت تغطي الغبار.
لا، ليست حرباً ما شهدناه في ليلة تبخر الأجساد، كان مشهداً نووياً من الحرب العالمية الثانية. مبانٍ تحولت إلى رمل منثور على مساحة هائلة تحته ذاب عشرات، بل مئات من البشر، وبينما كان الناس يهرعون إلى المستشفيات للبحث عن أشلاء أهلهم، كان الناطق العسكري الإسرائيلي يحدد أهدافه الجديدة، في الوقت الذي كان فيه نتنياهو يُنهي آخر فصول مسرحيته في نيويورك ويركب الطائرة عائداً إلى مسرح الجريمة لكي يوقع عليها بنفسه.
عبارة أن “العالم تخلى عنا” التي لطالما استحضرناها في الحروب التي خيضت علينا، لا تصلح لوصف الخديعة التي أوصلت إلى الجريمة الإسرائيلية في الضاحية. فالتخلي هو نوع من المشاركة السلبية في الجريمة، لكن ما جرى كان مشاركة المجرم بفعلته على نحو إيجابي. العالم الذي أشاح بوجهه عن مشهد آلاف العائلات الهارعة في شوارع الضاحية بعدما هددها الناطق الرسمي باسم الطائرات المغيرة بأن تبخر الأجساد سيمتد ليلتهم أطفالها إذا لم تغادر خلال دقائق قليلة. نحن هنا أمام مشهد إبادي مكتمل العناصر. فجريمة التحذير بالهرب التي أعقبت جريمة قصف حارة حريك لم تختبئ وراء أي ادعاء. عليكم أن تتعلموا الدرس مما شهدتموه قبل لحظات. ونحن في بيروت، وبينما كنا نرتجف وراء زجاج نوافذنا، كنا بسذاجتنا المعهودة ننتظر صوتاً يقول لنا إن ما نشهده ليس أكثر من كابوس عابر.
لا ركام على سطح الأرض التي مهدتها القذيفة. طبقة تراب محترق تغطي أجساماً تمت إذابتها. وعلى بعد مسافة قصيرة، عائلات هارعة إلى حيث لا تعرف. المشهد ليس امتداداً لما سبق أن اختبرناه في الحروب الكثيرة التي شهدنا عليها. لم يكن الموت قريباً إلى هذه المسافة القصيرة منا، وها هو يقترب أكثر. ومثلما أذابت القنبلة الأجساد أذابت المسافات، فما الفارق بين أن تكون في حارة حريك أو أن تكون على كورنيش المزرعة إذا ما كانت قنبلة شبه نووية تلاحقك.
إجمد في أرضك وانتظر أيها الهارب من وجه قاتل يجوب العالم حاملاً صور جريمته. لا جدوى من ركضك، فاللهيب أسرع من أن تسابقه. لا تنتظر الصباح، فهو سيكشف عن حزن منبعث من تحت التراب المحترق. نم مع أطفالك في ساحة الشهداء في وسط بيروت، وفي الصباح يخلق ما لا تعلمون، أو تعلمون، طالما أن الدرس سبق أن تلقنته غزة، وما زال العالم يشاهد ويستمع لبنيامين نتنياهو وهو يتلو عليه فصولاً من كتاب الجريمة.