شكّل إعلان الكاتب المصري شادي لويس بطرس، تنازله عن جائزة ساويرس الثقافية، صدمة حقيقية طرحت نقاشاً حول الجائزة ومقدّمها وفكرة رعايته الثقافة عموماً. فبعد دقائق من فوز رواية بطرس “تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة” بجائزة أفضل عمل روائي- فرع كبار الأدباء، انقسم الرأي العام المصري، بين من يُقّدر دور رجل الأعمال المصري في إثراء الثقافة، وبين من يرى في ساويرس وما يمثله، واحداً من أسباب تردّي واقع البلاد.
تنحصر وجهة النظر المؤيدة لجوائز ساويرس بين صفوف الأدباء الذين يشكونَ من قلة الجوائز الرسمية والخاصة في مصر وضعفها، فالشعر مثلاً ينحصر بجوائز شبه رمزية تحمل أسماء شعراء مصريين، كما اختفت جوائز المسرح تقريباً، فيما جائزة ساويرس للقصة هي الوحيدة التي تُعطى لهذا النوع الأدبي بعد توقّف جائزة يوسف إدريس، وانحصار الجوائز الكبرى للرواية بين جائزتي نجيب محفوظ التي ترعاها الجامعة الأميركية في القاهرة، وجائزة ساويرس- فرع الرواية.
تحاول هذه المقالة تجنُّب البعد السياسي عند الحديث عن الجوائز، بعكس وجهة النظر السائدة التي تحمّل شريحة رجال الأعمال جزءاً من مسؤولية الانحدار العام، لنسأل: هل يمكن القول أن منْ يدفع ملايين الجنيهات سنوياً لرعاية الثقافة والفنون مثل ساويرس هو سبب في تردّي واقع البلاد؟ وهل هو مسؤول عن هذا التردي بشكل مباشر، أم كان مجرد شريك ذكي يجيد التعامل مع الأنظمة السياسية المتعاقبة، يحصل على ما استطاع من المكاسب ولو على حساب المجتمع ككل؟
القصة أكبر من مجرد دولة متخاذلة عن دعم الثقافة ورجل أعمال سخي يرعى المثقفين، فالتشابك بين الدولة ورجل الأعمال أكبر من التبريرات التي يتمسك بها الأدباء الذين حصلوا على الجائزة أو ينتظرون دورهم في طابورها.
انقسم الرأي العام المصري، بين من يُقّدر دور رجل الأعمال المصري في إثراء الثقافة، وبين من يرى في ساويرس وما يمثله، واحداً من أسباب تردّي واقع البلاد.
الصفقة الأولى
نُشير بداية، إلى أن أفراد عائلة ساويرس صنعوا ثروتهم بالتعاون مع الدولة وبرعايتها وعلى حسابها، مستفيدين من الضرائب المنخفضة والتهديد بترك السوق والتهرب الضريبي.
بنى آل ساويرس إمبراطوريتهم عبر تشييد شبكة اتصالات للجيش المصري موّلتها الولايات المتحدة الأميركية، واستخدموا أرباحها التي وصلت إلى 50 في المئة من قيمة الاستثمار، للاستيلاء على شركات التشييد وصناعة الإسمنت والغاز الطبيعي والقرى السياحية والاتصالات، مستفيدين من إجبار صندوق النقد الدولة على خصخصة الأصول الإنتاجية المملوكة للشعب عبر صفقات تخللّتها وقائع فساد شهيرة.
نشأ تشابك المصالح بين الدولة وساويرس بسبب الفخ الذي نُصب للبلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، حينها فُرض على الدولة سياق سياسي وجب عليها العمل من خلاله، إذ ألزمت بخفض العبء الضريبي عن كاهل رجال الأعمال وتحميله للغالبية الكادحة، أو بتعبير الاقتصاديين: استنزاف مجتمع العمل لمصلحة مجتمع الملكية.
استفاد رجال الأعمال من الضرائب الهزيلة والإعفاءات والتهرب الضريبي، ما ساهم في تدني إيرادات الدولة، بالتالي ضعف إنفاقها الاجتماعي على التعليم والثقافة، ما أدى في نهاية المطاف إلى الاقتراض الخارجي، ودخول مصر في دوامة الديون المتراكمة تاريخياً، ومن ثم في متاهة التقشف وحرمان كثر الحق بالمعرفة والتثقيف.
تورط آل ساويرس، على رغم الضرائب الهزيلة المفروضة على رجل الأعمال المصري، في عمليات تهرب ضريبي شغلت الرأي العام، إذ كشفت لجنة الفحص الفنية التي أمر النائب العام المستشار طلعت عبد الله بتشكيلها عام 2013، تهرّب آل ساويرس من دفع مبلغ 14 مليار جنيه (أكثر من ملياري دولار بأسعار تلك الفترة).
لم يدفع آل ساويرس ضرائب عن أرباح صفقة بيع شركة “أوراسكوم بيلدنغ” إلى شركة “لا فارج” الفرنسية، والتى بلغت 68 مليار جنيه، وعمدوا لاحقاً إلى تسويات صبّ بعضها في صندوق “تحيا مصر”دعماً لنظام السيسي، الذي أُنفق ما فيه على المشروعات الفارهة في العاصمة الجديدة، بعيداً من موازنة الدولة.
يتجاوز الأمر التهرب الضريبي، فتكوين ثروة أسطورية في بلدٍ فقير مثل مصر، يتطلب بعضاً من الاستيلاء على الأصول عبر طرق ملتوية، فالدولة في مصر هي التي أنتجت القطاع الخاص عبر تسهيل استيلائه على شركاتها وأراضيها، ما أثّر لاحقاً في دورها في التنمية وفي الإنفاق الاجتماعي.
الصفقات على أنقاض الدولة
قال ساويرس في حديث لشبكة “بلومبرغ”، أن شركته “أوراسكوم للمقاولات” لم تكن تحوي سوى خمسة موظفين في الثمانينات، فقرر أن يغير نشاطه، وسعى نحو الوكالات الأجنبية، متجنباً الآثار الوخيمة للأزمات المتكررة التي ضربت قطاع المقاولات في ذلك العقد، ومن هنا انطلق قطار الثراء الفاحش، لكن ما علاقة هذا الثراء (الذي يُفسر بالنجاح) بالوضع الثقافي؟
بدأت مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية نشاطها في 2001 بدعم من عائلة ساويرس تحت شعار التمكين الاقتصادي والاجتماعي، ودعم التعليم والمنح الدراسية، وأخيراً توفير جائزة مالية للكتاب، فيما كان النائب الناصري كمال أحمد، يعد استجواباً للحكومة قدمه في 22 أيار/ مايو 2001، وتضمّن تفاصيل مريبة حول صفقة موبينيل التي استحوذ عليها ساويرس.
تحدث النائب عن “علاقة خفية ومشبوهة” بين طلعت حماد، وزير شؤون مجلس الدولة، وسامح الترجمان رئيس بورصة القاهرة والإسكندرية، صبّت كلها في مصلحة ساويرس.
وفق الاستجواب، كان سهم شركة “موبينيل” مدفوعاً بنسبة الربع وقيمته الاسمية 10 جنيهات، أي أنه بعد مصاريف الإصدار يُدفع في السهم 260 قرشاً. اشترت بعض البنوك مثل “البنك الأهلي” و”بنك مصر” و”هيئة التأمينات الاجتماعية” أسهماً في موبينيل، التي كانت تتبع سابقاً هيئة الاتصالات، ثم تمت خصخصة الشركة وبيعت لساويرس.
وصل سعر السهم، الذي لم يكن قد قيّد بعد في البورصة، إلى 9 جنيهات “خارج المقصورة”، وضُغطَ على البنوك والتأمينات لإعادة بيع الأسهم المشتراة من شركة المحمول إلى ساويرس بسعر الشراء ذاته، 260 قرشاً، ثم سجل سهم موبينيل في مخالفة لكل القواعد التي تشترط مرور عامين على إنشاء الشركة، ونشر ميزانيتين قبل التقييد.
قفز سعر السهم في ثاني يوم للتداول من 10 إلى 26 جنيهاً، وترتب على ذلك تحقيق نجيب ساويرس أرباحاً “خيالية”، ووفق الكاتب إبراهيم الصحاري تم تداول 200 مليون جنيه سُلمت “تحت الترابيزة” لمصلحة كبار رجال الدولة والحكومة.
قالت البورصة المصرية، بعد مرور 14 عاماً، أن شركة “أوراسكوم للاتصالات والإعلام والتكنولوجيا”، التي يسيطر عليها ساويرس، باعت حصتها بالكامل في “المصرية لخدمات التلفون المحمول- موبينيل” إلى “أورانج” الفرنسية، مقابل 1.4 مليار جنيه، بمتوسط سعر 280.7 جنيه للسهم.
نحن أمام قصة حزينة ومثالية عن تجريد الدولة المصرية من ممتلكاتها وقدراتها المالية، لمصلحة الفساد والضعف المؤسسي في إطار مشروع متكامل سُميّ بالنيوليبرالية، الذي انتقلت على إثره السلطة الاقتصادية من الدولة إلى الاحتكارات الخاصة التي تميل الى النشاطات الخدمية عالية الربحية، والشراكة مع رأس المال الأجنبي، وتعزف عن المساهمة الفاعلة في العملية الإنتاجية.
تهالك البنية التعليمية والثقافية في البلاد لم يكن نتاج تجاهل من هم في السلطة، بل نتيجة طبيعية لانحياز الدولة الى رجال الأعمال، وتحميل الغالبية الفقيرة ثمن هذا الانحياز عبر إرهاقهم بالضرائب غير المباشرة.
سلبت سياسات التقشف المتعاقبة الدولة إمكاناتها المادية (خارج نطاق خدمة الدين) وتركت الساحة شاغرة كي يأتي من سبق أن استولى على الممتلكات العامة، ويتبرع بجوائز رمزية تحت مُسمّى تنمية رأس المال الاجتماعي (السمعة والثناء الحسن) في موازاة الأرباح.
إقرأوا أيضاً:
المال الذي لا يعرف السياسة
حصلت “أوراسكوم” قبل ثورة 2011 بقليل، على عقود في مصر بقيمة مليار و400 مليون دولار، استهدفت بناء القواعد العسكرية والثكنات وقواعد الطيران والتخزين والطرق العسكرية.
أسّس ساويرس قناة تلفزيونية اصطدمت بـ”العسكر” أثناء تولّي المجلس العسكري إدارة البلاد بعد الثورة، إلا أنه عاد عام 2015 لمشاركة السلطة الجديدة (العسكر الذين سبق أن هاجمهم) في مشروعات البنية التحتية، خصوصاً محطات الكهرباء، مستفيداً من التئام شقّي الحكم في مصر: البيروقراطية العسكرية ورجال الأعمال.
أعلن ساويرس عام 2018 السعي إلى تحويل نصف ثروته إلى ذهب، ترقباً لأزمة عالمية، وعلى الضفة الأخرى رأى النظام المصري ضعفاً في الإنفاق الاستثماري من القطاع الخاص، فاتجه نحو مزيد من الديون. لا يهتم ساويرس بتوجّه القيادة السياسية نحو تمويل الفلل والقصور بالديون الأجنبية، وحتى مع سهولة الإفلات من المحاسبة القضائية، في ظل قدرات النخبة الاقتصادية على تطويع القانون لمصالحها، متجاهلاً أن النقد السياسي ضروري لمن يتصدى للعمل العام.
ما يجب السؤال عنه هو ثروة ساويرس في جزر العذراء البريطانية، تلك التي كشفت عنها “وثائق باندورا“، والتي تثبت انخراطه خلال السنوات الماضية في تأسيس شركات في الجزر التي لطالما اعتبرت ملاذاً آمناً للتهرب الضريبي، وتزداد الحاجة إلى المساءلة إلحاحاً، إذا تطرقنا إلى نظرة ساويرس الى المثقفين، فأثناء توزيع الجوائز عليهم العام الماضي، قال في حفل التكريم إنه “يشعر بالفقراء بعدما اعتادت والدته اصطحابه وشقيقيه إلى حي الزبالين”.
تسبب التصريح السابق في انقسام الأوساط الثقافية في شكل مشابه لما يحصل حالياً، إثر تنازل شادي لويس بطرس عن جائزة ساويرس للرواية، فالذين سبق أن حصلوا عليها أو يتوقعون الحصول عليها برّروا لرجل الأعمال تصريحه بعدم القصد، أما الذين يرون البعد الطبقي والسياسي في ما يمثله ساويرس ويقوله، فأعربوا عن غضبهم أيضاً، لأن الآراء في مصر ليست دائماً مجانية.