لم يكن ممكناً ألا نكون أطفالاً غشاشين. إنها فئة غير موجودة من الأطفال.
توجيهات منع الغش كانت لوحدها ملهمة كافية لنتعلّم فنون الخداع والاحتيال، ونبدع فيها. كمثل أن يجبرك المراقب على وضع يديك الاثنتين فوق الطاولة، حتى لا تخبئ شيئاً في إحداهما، أو يمنعك من طرح سؤال أو استفسار أثناء الامتحان، وكأنه فحص للدخول إلى “أف بي أي” أو “كي جي بي”. أو ينتهرك الأستاذ فجأة، لأنه رآك تفتح الطاولة وتغلقها. “لقد علقت”! فيقول لك مثلاً: “اخرج من الصف” أو “سلّم مسابقتك” أو “اركع”… بودّي أن أقول لجميع الأساتذة والإدارات، هدئوا من روعكم. إنهم مجرد أطفال وربما يعانون من صعوبات في الدرس والاستيعاب، ربما يكرهون مادّةً ويجبرهم المنهاج على بلعها وحفظها كببغاء. ربما لديهم مشكلات عائلية أو اجتماعية أو مادية.
كانت دروس الأخلاق تنهال علينا قبل أي امتحان، وكأننا أعضاء “مافيا” أشرار، وعلى الإدارة الكريمة أن تحدّ من شرنا. جميع المسؤولين عنّا أفهمونا منذ البداية، أننا كائنات مخادعة، ننقل المعلومات عن مسابقات الآخرين. ولم يكن لنا أن ندافع أو نبرر أو نسأل، أو نقول إننا مثلاً درسنا جيداً ولا ننوي أن نسرق معلومة من أحد، أو أننا نعاني من نسيان ما ونحتاج إلى مساعدة بسيطة. ممنوع!
كان الأساتذة يمرون بين طاولاتنا كشرطيين، يتعقبون حركة أقلامنا، تعابير وجوهنا، كيف نجلس، إلى أين ننظر. كنا طوال تلك السنوات متّهمين بالغش، أو مستعدين له، إنما الإدارة بكوادرها كانت تقف لنا بالمرصاد، وتكشف مخططاتنا الجهنمية. يا للعظمة!
كانت نظراتهم تكفي لننسى كل ما درسناه. قد يتحوّل الناظر إلى المحقق كونان لو لمحك تهمس بشفتيك وهو يمر بين الصفوف في وقت الامتحانات، لضبط الأمور. كان الرعب يملأ المدرسة كلها. الامتحان كان يعني الرعب أكثر من أي شيء.
الآن، يقدّم الطلاب اللبنانيون امتحاناتهم الرسمية فيما تراقبهم كاميرات، كلّفت الدولة مبالغ طائلة. فيما الطلاب في اليابان يقدّمون امتحاناتهم في الهواء الطلق بين الأشجار، ليشعروا بالراحة النفسية. إنها هوّة هائلة بين ثقافة الكاميرات وثقافة الأشجار، ثقافة الرعب والاتهام وثقافة الطمأنينة والراحة.
أحد زملائي في الصف وقد أصبح طبيباً الآن، كان عجزه عن الإجابة يجعله يبكي بشكل يقطّع القلب. تخيّلوا طفلاً يبكي بسبب رقمين في مسابقة رياضيات، أو فنون التنوخيين في مسابقة تاريخ! أفكّر الآن إن كان الأمر يستحق، كان يمكن أن نساعده مثلاً، ونخفف عنه كل هذا القلق والانهيار.
أودّ أن أخبر جميع من علّموني، أنني في أحيان كثيرة استعنت بمسابقات زملائي لأجيب عن الأسئلة. ولا أشعر بأي ذنب. المسألة تضحكني الآن، وربما تشعرني ببعض الانتصار على نظام الرقابة العنيف. جميع من عرفتهم فعلوا ذلك أيضاً. وكل تلك التعقبات البوليسية التي انهمك بها الأساتذة والإداريون، لم تنفع في شيء. تماماً كما تنتج السجون الظالمة مجرمين، يجبر منطق المدارس المخيف، التلاميذ على الغش.
لكن تلك الخطط البريئة التي كنا ننفذها “تأكيداً” لتهمة الغش التي تلبسنا في مطلق الأحوال، لم تجعلنا الآن سارقين ولا مجرمين ولا ناساً غير محترمين.
تشكو لي صديقتي التي أصبحت الآن معلمة فيزياء من التلاميذ ومشاغباتهم، وكيف أنها تكشف غشّهم وتكمشهم، وهم يحاولون نسخ المعلومات عن بعضهم بعضاً. تقول ذلك بفخر عظيم. دخلت صديقتي في “السيستم”. ذكّرتها بأننا كنا نفعل ذلك أيضاً، وقلت لها إنهم مجرد أطفال! لكنها طبعاً لم تقتنع. ينسى المعلّمون انهم كانوا ذات مرة صغاراً. ذات مرة كتبت رسالة لمعلمة اللغة الفرنسية، سألتها فيها إن كانت صغيرة وكبرت أم أنها ولدت كبيرة. لكنها لم تجبني…
الآن، يقدّم الطلاب اللبنانيون امتحاناتهم الرسمية فيما تراقبهم كاميرات، كلّفت الدولة مبالغ طائلة. فيما الطلاب في اليابان يقدّمون امتحاناتهم في الهواء الطلق بين الأشجار، ليشعروا بالراحة النفسية. إنها هوّة هائلة بين ثقافة الكاميرات وثقافة الأشجار، ثقافة الرعب والاتهام وثقافة الطمأنينة والراحة. هذا إضافة إلى طلاب مساكين مُنعوا من تقديم امتحاناتهم، إذ تبيّن أنّ مدارسهم وهمية أو غير قانونية. نزل الأطفال يتظاهرون، وبعضهم كان يبكي… لكن أحداً لم يرد. المزيد من الرعب والظلم يضاف إلى سجلات الطفولة. وقد وضع هؤلاء الطلاب في خانة الاتهام مع مدارسهم الغشاشة، من دون أي ذنب.
هذا النص ليس دعوة إلى الغش أو التساهل، هو دعوة إلى إيجاد أدوات أقلّ عنفاً ورجعية للتعامل مع الناس صغاراً وكباراً. وبدل إدخال الطلاب منذ الروضة في مزاج الغش وتعقّبه، وجدلية المحقق والمجرم، ربما يكون لطيفاً أن نتعامل مع الطلاب بمحبة أكثر، وأن نحاول أن نساعدهم، وأن نقرّبهم من الإجابة الصحيحة، بأسلوب نشط عصري خفيف، فيه فرح وضحكة وحماسة وتشجيع. ليست نهاية العالم إن نسي طفل تركيبة الأوكسيجين أو سأل عن موقع الناقورة في خريطة البلاد. لديه أسباب لا تحصى ولا تعدّ ليكره هذه البلاد برمّتها، لا داعي لأسباب إضافية!