في المدن الكبرى، كل شيء ضخم. نلتقي بأشخاص ذوي مكانة وتجارب هائلة. في هذه المدن، لا أحد يخاف من القوة؛ بل إنها تحفز الناس وتدفعهم الى طلب المزيد، فهناك بنية تحتية قادرة على الاستيعاب والإنتاج بسرعة وبكميات ضخمة. في المدن الكبرى، لن يُقال لك إنك “أكثر من اللازم”، ولن تُستبعد لأنك تعرف الكثير، أو تتحدث كثيراً، أو تفكر كثيراً.
السلطات المحلية التي قد تحاول إسكاتك أو ضبطك في المدن الصغيرة، ستطلب منك المزيد في المدن الكبيرة. هناك جوع لا يُشبع للاستهلاك، للتغيير، لالتهام كل جزء منك — كل زاوية من جلدك، كل خصلة من شعرك. كل فكرة تصبح عملة، وكل نفس يصبح نداء لفرصة جديدة.
لا شيء يُعتبر غريباً على مواطني المدن الكبيرة؛ لا يرفعون حواجبهم بسهولة، فقد رأوا الكثير. هادئون، غير متأثرين، لكنهم دائماً جائعون. المدن الكبيرة مثل معطف فرو دافئ وضخم، يمكنك أن تبقى عارياً تحته، تجوب الشوارع من دون عناء في اختيار ملابسك صباحاً، ومن دون أن تشعر بالبرد أو العار.
إذاً، لماذا لا نغادر إليها؟
في كتاب “من حرّك قطعة الجبن؟” لسبنسر جونسون، نتابع بطلي القصة وهما يواجهان فقدان “الجبنة” — رمز القوة والأمان في حياتهما. أحدهما قرر المضي قدماً نحو المجهول بحثاً عن المزيد، على رغم الخوف، فيما عجز الآخر عن ترك ما كان لوقت طويل ملاذه الوحيد. في النهاية، وبعد عناء، وجد الأول ملاذاً جديداً، بينما اختار الآخر أن يبقى في غرفة فارغة، يندب ما فقده.
لا أستطيع تخيّل ألم البطل الذي اختار البقاء في الغرفة الفارغة. فبينما يملك الخوف القدرة على تشكيلنا وتجديدنا، يمتلك الفراغ القدرة على تشويهنا. ربما اضطر هذا البطل إلى نسيان — أو تناسي — طعم “الجبنة”، فقط ليستطيع التكيّف والبقاء على قيد الحياة. ومثله، نحن سكان المدن “الفارغة” التي يقضمها الفساد، التي تُسلَب منها مواردها ومساحتها باستمرار، نُجبَر على نسيان أو تناسي طعم الراحة، والحب، والحرية.
لا شيء يُعتبر غريباً على مواطني المدن الكبيرة؛ لا يرفعون حواجبهم بسهولة، فقد رأوا الكثير. هادئون، غير متأثرين، لكنهم دائماً جائعون.
إذاً لماذا لا نغادرها؟
بدأتُ هذا المقال بعنوان “لماذا أحب بيروت على رغم كل شيء؟”، لكن ذكريات المدن الكبرى ظلت تغيّر مساره. حاولت أن أشبّه علاقتي ببيروت بعلاقتي بأمي؛ كيف أحبها على رغم كل شجاراتنا. لكن أمي علّمتني الثقة، أما بيروت فتخترع كل يوم عذراً جديداً لتسلبني إياها.
ثم حاولت أن أشبّه علاقتي ببيروت به — هو الذي أبكي كثيراً بسببه وأقول للجميع إنني ما زلت أحبه. لكن، هل هذا هو الحب فعلاً؟ فكرت أن أشبّهها بماسة وسط التراب. لكن هل قُدّر لنا أن نحفر طوال حياتنا؟ ألا يكفي أن نجد ماسة واحدة، أو اثنتين، كي نعيش براحة؟ أرصفة بيروت ضيقة، وفي الثلاثين سنة الماضية، ضاقت أكثر.
فلِمَ لم أُغادر بعد؟
ببساطة، لأن بيروت علّمتني أن القدرة على إعادة تدوير المآسي إلى فرص… نوع من “الجبنة”. منحتني خيالاً يكفي لقتل الفراغ، لا الأمل. علّمتني أن أحب بعمق، وأحارب بعنف. ولهذا أبكي وأتشاجر، لأنني — مثل بيروت — لست فارغة. لكني أظن أنني بدأت أنفد من العمق، والمدينة من الجبنة.
قال لي صديقي البارحة إنني أربط كل شيء بالحب، وإن هذا مبالغ فيه، لأني “أكبر من الحب”، ولا داعي لأن أكره المدينة بعد نهاية علاقة. لكني لا أتفق معه. الحب ليس شخصاً، الحب حالة. الحب ليس شعوراً، بل قرار.
الحب أفكار تُنتَج وتُباع وتُصدَّر، الحب سوق مليء بالروائح والأصوات، الحب أرصفة واسعة. وعندما يصبح الحب أمراً يرفع له سكان المدينة حواجبهم، ألا يعني ذلك أنه بدأ ينفد فعلاً؟
إقرأوا أيضاً: