أصبح لبنان اليوم وسط الحرب، وهي حربٌ ذات تداعيات داخلية قبل النتائج الإقليمية. التداعيات أولاً بالنتائج الإنسانية والبشرية وسط عمليات اغتيال ومجازر تنفّذها إسرائيل في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، بالإضافة إلى استهداف المسعفين والمراكز الصحية والطلاب والصحافيين بشكل مباشر وعن قصد، وتهجير سكان الجنوب والضاحية بعشرات الآلاف.
الحرب اليوم أيضاً قائمة على دافع سياسي مرتبط بتغيير موازين القوى وإرسال الرسائل الإقليمية والتأثير على الرأي العام. في لبنان، ترتبط مسألة الرأي العام المحلي بقدرة حزب الله على خلق “ردع دفاعي جدي” بعد فتحه جبهة الإسناد، بالإضافة إلى قدرته على خلق توازن بين اعتباراته الداخلية المباشرة ووعوده العقائدية لجماهير متنوعة ما بين الداخل والخارج.
لذلك، حزب الله اليوم يقود مرحلةً سياسية مفصلية التي سترسم واقع البلد والاستقطاب الشعبي المهيمن.
لكن حزب الله ليس لوحده في المركب، إذ توجد قوى سياسية وثقافية وأفراد وطاقات حيوية من خلفيات عقائدية وهويات مختلفة. أثناء تكريس حزب الله هيمنة جديدة تؤكد تمسّكه بالقرار الاستراتيجي في البلد، تلعب هذه الحالة العامة، التي تشمل يساريين وقوميين من دوائر صحافية وإلكترونية متنوعة، دوراً أساسياً في ربط التحرر الوطني، كمفهوم ثقافي ومسار سياسي، بالصيغة السياسية التي فرضها حزب الله بعد 7 أيار/ مايو 2008.
هي صيغة محورها “ميليشيا” في الجنوب، وجهاز تنفيذي ينهار في بيروت، وضعف موضوعي متمثّل بسقوط أكثر من 550 لبنانياً ولبنانية بسبب الحرب والمجازر الإسرائيلية.
الفرضية الأولى: التناقض المركزي
إسرائيل هي نقطة الانطلاق، والقضية المركزية، والنظام الاستيطاني الذي دمّر المجتمع الفلسطيني واحتل لبنان وقام بمجازر بهدف تغيير نسيج المناطق التي سيطر عليها. إسرائيل أيضاً لعبت دورها كشرطة الولايات المتحدة في المنطقة، وفرضت قواعد جيوسياسية جديدة. هي قواعد استكملت مسار الإمبريالية الحديثة على المستوى الإقليمي. هذه هي إسرائيل التي تقوم بإبادة في غزة، وهي اليوم حقيقة لا نستطيع أن نتجاهلها.
هذا الدور الإسرائيلي يظهر جلياً في عمليات الإبادة في غزة والمجازر في لبنان، ما يجعل مواجهة إسرائيل محوراً أساسياً لأي حركة تحررية في المنطقة. التناقض المركزي يفرض على الفاعلين المحليين والإقليميين تحديد مواقفهم وسياستهم بناءً على موقعهم من الصراع مع إسرائيل.
لكن هناك أزمة فكرية عند جزء من اليسار في رؤية هذه التناقضات السياسية والعسكرية كتناقضات مطلقة، ما يجعلهم يصطفون مع أي جهة تعادي إسرائيل بغض النظر عن الأيديولوجيا والمشروع والخلفية. هذه الرؤية المطلقة تعمي عن فهم تعقيدات الوضع الداخلي والتداعيات المباشرة لأي خيار سياسي. هي بالتالي تؤدي إلى تحالفات هجينة تضع اليسار في منصّة إسلامية قومية غير قادرة على تقديم قراءة تتمحور أولاً حول تطوير مقومات المجتمع في وجه هذه التحديات.
تثبيت “التناقض المركزي” يلغي التناقضات الأخرى، والتي هي مرتبطة بخياراتٍ سياسيةٍ مصيرية في المجتمع. على المستوى الاقتصادي والطبقي، يتبنى اليسار مبدأ إعادة توزيع الثروة وتحقيق الضمانات الاجتماعية، في حين تجاهلت النظرة الاسلامية القومية العامل الطبقي بسبب الأولوية “الحضاروية” و”الثقافوية” لهذه التيارات، وهي أولوية غير مهتمة ببناء بنى اجتماعية ودفاعية صلبة على المدى الطويل. على المستوى الجندري، يظهر التناقض في تبني اليسار مبدأ المساواة بين مختلف فئات المجتمع ودعم حقوق المرأة والأقليات الجنسية والجندرية، بينما تفرض التنظيمات الإسلامية قيوداً اجتماعية سائدة. على المستوى الاجتماعي، يسعى اليسار الى بناء مجتمع علماني يضمن الحريات الفردية، في المقابل، تعتمد التنظيمات الإسلامية على نمط أخلاقي-ديني قد ينقض أولوية الحفاظ على التعددية في المجتمع. هذا التحالف بين اليسار والقوى الاسلامية والقومية مبني على تجاهل هذه التناقضات كلها وتخطّيها، وتبنّي قضية واحدة على حساب مظلوميات عدة ومتنوعة في المنطقة.
إقرأوا أيضاً:
السياسة للإسلاميين والثقافة لليساريين
نتيجة هذه القراءة المادية والملموسة من حيث التقاطعات السياسية والثقافية في المجتمع، أنها مشجّعة لأي “بديل” عن إسرائيل، وليست حقيقةً مهتمة بمرحلة “ما بعد الاستعمار”، وتفترض بالأصل وجود مرحلتيْن منفصلتيْن: “الاستعمار”، و”ما بعد الاستعمار”، والفرق بين المرحلتيْن من حيث النتيجة والفعل السياسي ومشروع السلطة ليس واضحاً بالضرورة. فنبقى أمام ردّ أخلاقي ضروري على إبادة وحشية، وقراءة، على رُغم أهميتها، من دون مشروع مسنود بعملية شعبية وسياسية واضحة.
في بعض الأحيان، قد يكون السرد التبسيطي مفيداً لفهم مدى خطورة المشهد: الإسلاميون يتحكمون في الفعل السياسي ويقودون الحركات المسلحة والسياسية التي تواجه إسرائيل. في المقابل، يلعب اليساريون دوراً رئيسياً في المجال الثقافي، إذ يساهمون في إنتاج خطاب تحرري ومعادي للاستعمار. هذا التوزيع للأدوار ينبع من قدرات الإسلاميين على تعبئة الجماهير وقيادة الحركات المسلّحة، بينما يفتقر اليساريون إلى هذه القدرات السياسية والتنظيمية. بدلاً من ذلك، يركز اليساريون غالباً على الإنتاج الثقافي والفكري. لكن هذا الدور الثقافي لا يرقى إلى مستوى الفعل السياسي المباشر ولا يتحدى الهيمنة السياسية للإسلاميين، بل يقدّم غطاء أخلاقياً ولغويات أيديولوجية لتكريس الهيمنة التي يتصدرها الإسلاميون. تردّ هذه الفقاعة الثقافية على النغمة المسيطرة، وتلبّي حاجات هذه النغمة الأخلاقوية.
يجب أن ندرك أنّ تقديم الشرعية الثقافية لمبادرةٍ ما من دون طرح مبادرة نقيضة، يشكّل أزمة في الاستراتيجيا. الحركات الإسلامية، على رغم دورها في مواجهة إسرائيل، تحمل في طياتها تأثيرات كبيرة على البنى الاجتماعية والسياسية في البلدان التي تعمل فيها. وانتشار هذه الحركات المسلّحة وتحوّلها إلى ميليشيات إقليمية يعززان نمطاً هوياتياً من الصعب السيطرة عليه، وبالتالي يكرّس الضعف الموضوعي والمؤسساتي لهذه المجتمعات.
تجارب الماضي في الشرق الأوسط أظهرت بوضوح أن الميليشيات الإقليمية لا يمكن أن تبنى عليها كمنصة للتحرر الوطني. النماذج السلطوية التي هيمنت على العراق وسوريا وليبيا لعقود تشهد على النتائج الكارثية لاعتماد الفصائل المسلحة كوسيلة لتحقيق التغيير السياسي. بدلاً من تحقيق التحرر، أدت هذه التجارب إلى تفكيك الدول وتفاقم الأزمات الإنسانية والاجتماعية.
المثقف بالتأكيد يجب أن يكون له دور في السياسة. الخوف من التعليب المجتمعي جعل الكثير من “المثقفين” يختارون البقاء على الهامش: دورهم هو “النقد” وتصويب البوصلة عند الحاجة. لكن الأسوأ هو عندما ينقلب المثقف على أسس أخلاقية ضرورية في السياق الحالي. هي الأسس التي تكسر الاحتكار السياسي الذي نعيشه جميعاً اليوم.
بناء “اليسار السياسي”
أثناء انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي ظلّ الصعود التدريجي للقوى الإسلامية في المنطقة والقوى الهوياتية عموماً على المستوى العالمي، بدأ يخرج اليسار من التركيبة “القيادية” للمرحلة السياسية في لبنان وفلسطين. في ظلّ هذه التطورات، لم يتمسّك هذا اليسار بالمؤسسات الحزبية والمجتمعية التي أسسها، وأصبح العمل الجماعي محصوراً بالعمل الثقافي والفكري والاجتماعي. أما على المستوى السياسي والتنظيمي-الشعبي، تحوّل اليسار إلى عنصر مراقب ونقدي، على رغم بعض الاستثناءات.
شكّل الربيع العربي فرصةً جديدة لإعادة افتعال هذا اليسار وتنظيمه. ولكن غياب المؤسسات المستدامة لم يسمح لنقل الخبرات وتدعيم جيلٍ من العاملين السياسيين الذين لم يتعلموا أسس القيادة السياسية والعمل الميداني والاجتماعي الممنهج و”الممأسس”.
أثناء “الموجة الثانية” للانتفاضات الشعبية العربية، والتي حصلت سنة 2019 في عدد من بلدان المنطقة، أدرك اليسار في السودان ولبنان، على الأقل على المستوى النظري، أهمية بناء وتطوير بنى نقابية ومجتمعية مستقلة، بعيداً عن اعتبارات القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى.
ولكن حتى في هذا “الزمن الذهبي”، هناك من قاوم عملية البناء، واختار أن يلعب دوراً مختلفاً، أي التمسّك بفردانية العمل الأخلاقي والثقافي، وليس بالضرورة لاستثماره ضمن مشروع جماعي منظّم. اليوم، يتطلب بناء “اليسار السياسي” مقاومة الفردنة، وفتح حوار عملي جدّي يبدأ بتحديد طبيعة الشركاء والأهداف اليوم والغد وبعد سنة، وتطوير مدرسة سياسية-ثقافية تثبّت أولويات كل مرحلة مفصلية. وهدف هذه الخطوة ليس احتكار الثقافة كأداة السياسي، بل كسر احتكار الإسلاميين الفعل السياسي، أي الفعل الذي بالتالي يستطيع أن يوجّه دور العمل الثقافي ونتيجته.
إقرأوا أيضاً: