على كتف نهر “خريبكان” المار في وسط بستانه، اعتاد المزارع علي حسين شعيل الجلوس يومياً، متأملاً نخيل بستانه المحترق، بفعل مجهول للمرة الثالثة في غضونِ عامين. وتمر في ذهنه صور الأصناف الفريدة من تموره التي كانت ترفد السوق المحلية بكامل احتياجاتها.
المزارع الكهل ذو الـــ68 سنة، يقول إن نخيله “أنهكته فواجع الحروب العبثية وشحُّ المياه والحرائق”. هو أحد المكلومين بوجع حرائق بساتين النخيل في قضاء بدرة في محافظة واسط جنوبي العراق، يتابعُ بأسى: “أعداد البساتين التي احترقت بلغت حتى الآن 23 بستاناً، بمساحة إجمالية تقدر بنحو 1800 دونم، تعود إلى أكثر من 71 مزارعاً”.
مدينة بدرة التي تعدُ واحدة من أكثر مناطق العراق شهرةً بالبساتين وتعدد أصناف النخيل، تعاني من خسارة كبيرة، بعدما شهد إنتاج التمور تراجعاً في السنوات الأخيرة بسبب تكرار اندلاع الحرائق واستمرار عجز السلطات المختصة، عن كشف الفاعلين والحد من تكرارها.
وليس بعيداً من وجع المزارع الكهل، رسن كاظم نهابة، الذي يَمتلكُ بستان نخيل فيه أكثر من 800 نخلة فاخرة، فقد هو الآخر أكثر من نصفها بسبب الحرائق، ليعيش المأساة والألم بخسارته التي لا تعوض أبداً، كما يقول.
ويروي نهابة الذي ورث البستان عن أبيه وجده كيف أن قضية “حرائق بساتين النخيل تتكرر سنوياً من دون أن تتمكن السلطات المختصة من القبض حتى الآن على فاعل واحد، على رغم تسجيل أكثر من 20 قضية في مراكز الشرطة القريبة.
وتعد ظاهرة إحراق البساتين في قضاء بدرة، من الظواهر التي تكاد تتكرر سنوياً، فقد شهدت بساتين المدينة حرائق مماثلة في الأعوام 2012 و2013 و2017 و2018، أدت إلى خسائر مادية فادحة.
تعددت الأسباب والجريمة واحدة
“استهداف بساتين النخيل بعمليات إحراق تتكرر عادة في فصل الصيف، وهو موسم نضج التمور، يدل على أن دوافع اقتصادية تقف وراء ذلك. يميل إلى هذا السيناريو، المحقق الجنائي ياسين صبري، مسؤول قسم الأدلة الجنائية في مركز الدفاع المدني في قضاء بدرة، يقول: “القرائن التي نحصل عليها ميدانياً تشير إلى ضلوع أكثر من طرف في التنفيذ عبر أشخاص لهم خبرة في النخيلِ”.
ومع أن الفاعل لا يزال مجهولاً في تحقيقات الدوائر الأمنية، يقول صبري إن المعطيات الميدانية أثبتت أن طريقة الإحراق واستهداف جذع النخلة يعني أن الجريمة تتجه إلى تدمير الاقتصاد والحيلولة دون عودة بساتين المدينة إلى سابق عهدها.
وليس بعيداً مما يقوله المحقق الجنائي، يعتقد طاهر محمد كاظم، وهو أحد أصحاب البساتين في بدرة بأن جهات سياسية -لم يسمها- متهمة بالوقوف وراء إحراق بساتين المدينة، “إلحاق الضرر بقطاع التمور المحلي يفتح باب الاستيراد على مصراعيه”.
وتابع: “لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة المرة خوفاً من تلك الجهات التي من مصلحتها أن يظل الفاعل مجهولاً”.
خلافات عشائرية
وفقاً لسلام البطيخ، معاون محافظ واسط لشؤون الزراعة فإن أسباب الحرائق “خلافات حول التركات الزراعية، جراء تعدد المالكين للبستان الواحد”، معتبراً أن “الخلاف أصله مالي لا أكثر”.
ومع أن واقع سعة الحرائق وتكرارها والخسائر التي أفرزتها لا ترجح هذا الرأي، ثمة من يقول إن الحرائق لا تخرج عن الإطار المحلي والخلافات بين الفلاحين.
مجيد مصبح مزارع خمسيني من المدينة، يشير إلى أن “النقص الحاصل في مياه الري دفع أصحاب البساتين إلى الاستحواذ على حصص غيرهم، ما يخلق جواً من التذمر ويولّد ردود فعل عكسية، منها إحراق البساتين التي يستحوذ أصحابها على مياه السقي بطرائق غير مشروعة”.
المعطيات الميدانية أثبتت أن طريقة الإحراق واستهداف جذع النخلة يعني أن الجريمة تتجه إلى تدمير الاقتصاد والحيلولة دون عودة بساتين المدينة إلى سابق عهدها.
لكن ومع مخاوف أصحاب البساتين من تكرار سيناريو الإحراق يومياً، يكشف جعفر عبد الجبار محمد قائمقام قضاء بدرة عن أن “مسلسل احتراق بساتين النخيل الذي تكرر في السنوات الخمس الأخيرة انحسر هذا الصيف، ولم تسجّل سوى ثلاث حرائق حتى الآن، بعدما كانت المواسم السابقة تشهد أكثر من 10 حرائق”.
ويعزو المسؤول المحلي ذلك إلى “الجهد الأمني المكثف وتعزيز العامل الاستخباري بعد زج عناصر أمنية مختصة بمهمة مراقبة البساتين على مدار اليوم، ورصد الأشخاص الذين يترددون إلى أطرافها بخاصة الغرباء” موضحاً أن “التحقيقات في الحرائقِ السابقة أعطتنا مؤشرات عن أيادٍ قد يكون هدفها إثارة الضغائن بين أبناء المدينة المنسجمين في كُلِ الظروف، ومحاولة تفكيك نسيجها الاجتماعي بوصفها مدينة يُجبرها الموقع الجغرافي على تلقي الاتهامات” ويعني بذلك قربها من الحدود مع إيران.
ضحية الحروب العبثية وشح المياه
تعرف بدرة الحدودية التي يتنوع سكانها بين أكراد من حيث القومية، ومسلمين شيعة من حيث الدين والمذهب، بأنها كانت مسرحاً للعمليات العسكرية أثناء حرب العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي.
يحد مدينة بدرة أو “به يره” كما ينطقها سكانها الكرد من الشرق مدينة مهران الإيرانية، ومن الغرب مدينة الكوت، ومن الشمال ناحية زرباطية ومن الجنوب محافظة ميسان، وهي من المناطق المتنازع عليها بين العرب والاكراد بسبب قومية سكانها الذين يتحدثون اللغة العربية على رغم أن أغلبهم من القومية الكردية.
ويعود تراجع إنتاج التمور وفقدان الأصناف الفريدة إلى الحرب التي دمرت مساحات واسعة من بساتين المدينة بفعل القصف المتبادل، ليقضي شح مياه الري وقطع السلطات هناك مصادر نهر الكلال الذي ينبع من الأراضي الإيرانية، على ما تبقى من بساتينها بعد انتهاء الحرب.
ويعد نهر الكلال، الذي يعرف محلياً بـ”كلال بدرة” وهو نهر وافد من الأراضي الإيرانية، المصدر الوحيد لري البساتين، وهو يشطر المدينة إلى نصفين قبل أن يتفرع إلى أنهار صغيرة ويتلاشى في العمق العراقي.
ويكشف حميد جدوع موازي عضو جمعية البستنة والغابات في بدرة “قيام السلطات الإيرانية في السنوات الأخيرة بقطع مياه الكلال نهائياً، وهو ما انعكس سلباً على سقي البساتين”، موضحاً أنه “بسبب قطع مياه الكلال من الجانب الإيراني وتحويلها إلى سد (كنجان جم) غرب محافظة إيلام الإيرانية، لجأ أصحاب البساتين إلى حفر الآبار الارتوازية لري بساتينهم، فتراجع إنتاجها من التمور والفاكهة التي تشتهر بها أيضاً مثل الرمان والكروم والإيجاص”.
وتاريخياً كانت الوظيفة التي أنشئت لأجلها مدينة بدرة على حصن مرتفع، هي حماية المدن العراقية من الهجمات الآتية من بلاد فارس، وكانت مدينة غناء ببساتينها الكثيفة وأراضي القمح الشاسعة، قبل أن تصبح جرداء قاحلة بسبب الحرب وهجرة السكان نحو مناطق أخرى، حتى أوشكت على التلاشي، لولا البترول الذي ظهر فيها فاستعادت جزءاً من حيويتها.
وتضم المدينة اليوم، منفذ زرباطية أحد أهم المنافذ الحدودية مع إيران والذي يشهد حركة تبادل تجاري كبيرة بين البلدين بمعدل يصل إلى ألف شاحنة يومياً في الظروف الاعتيادية، تكون محملة بمختلف البضائع، إضافة إلى مرور مئات آلاف المسافرين بقصد السياحة وزيارة العتبات المقدسة.
تعرف بدرة الحدودية بأنها كانت مسرحاً للعمليات العسكرية أثناء حرب العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي.
مأساة المدينة وتدمير بساتينها يؤكدهما المهندس الزراعي أركان مريوش، مدير زراعة محافظة واسط، يقول إن بدرة التي تقع على بعد 20 كلم من الحدود العراقية- الإيرانية، “تعرضت بساتينها لتدمير ممنهج على مدى السنين الماضية، بعدما كانت معروفة بإنتاجها حتى على الصعيد العربي والدولي”، مشيراً الى أن “بعض ملاك البساتين لا يتمكنون من الدخول إليها أصلاً بسبب انتشار الألغام والمخلفات الحربية”.
ويعتقد المسؤول المحلي بأن “سكان المدينة يعانون ظروفاً نفسية صعبة ويأملون ببرامج تأهيل داعمة بعد مرحلة الهجرة القسرية وتداعيات الحروب والحرائق المفتعلة”.
وبدرة من المدن القديمة جداً، على رغم أن مساحتها لا تتجاوز 4000 كلم وعدد سكانها قرابة 50000 نسمة، بحسب تقديرات دائرة الإحصاء في محافظة واسط، وكانت تعرف باسم “بادريا” في أيام البابليين واشتهرت بوجود عدد كبير من أشجار الصنوبر، ومن هذه المدينة جمع الحطب ليرسل إلى منطقة كوثى، حيث اشعل النمرود، وهو أحد ملوك بابل القديمة الأولى، ناراً لإحراق النبي ابراهيم، وفق الأسطورة المروية.
وتمتاز لهجة سكانها العربية بلكنة خاصة فهي مزيج من العربية والكردية والتركية والفارسية، وعلى رغم من المدارس العربية التي يرتادها السكان، لكن كبار السن من الأكراد ما زالوا يتحدثون الكردية في جلساتهم الخاصة، اما أبناء الجيل الجديدفيتحدثون العربية بطلاقة.
خسائر بدرة…
في السوق مدينة بدرة القديم، يبرز النقص الحاد في الخدمات البلدية والصحية والحاجة الكبيرة إلى تأهيل المدخل المتصل مع منفذ مهران في الجانب الإيراني الذي يمر في أسوأ أوضاعه إثر مرور الشاحنات الكبيرة. هناك يجلسُ بائع التمور حسين حمدي بدعي وأمامه عدد من السلال المخصصة لعرض أنواع من تمور بدرة. يقرُّ حسين بأنه يأتي إلى السوق لتمضية الوقت لا أكثر، “فالإقبال على شراء التمر خفيف جداً، وبات الناس ينفرون منه بسبب رائحة الدخان التي لا تزال عالقة فيه”.
التّمار الذي يمتلك بستاناً في أطراف قرية القلمات المُحاذية للحدود الايرانية يكشف عن خسارته عدداً كبيراً من النخيلِ المحمل بمئات الأطنان من التمرِ بسبب الحرائق المباغتة التي أضرمها “مجهولون”، مشيراً إلى أنه قدم شكوى رسمية ثلاث مرات متتالية لمعرفة الجناة، إنما من دون جدوى.
“لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة المرة خوفاً من تلك الجهات التي من مصلحتها أن يظل الفاعل مجهولاً”.
ينظر الرجل إلى أشجار النخيل المحترقة مطالباً الدوائر المعنية “بجدية التحقيق وكشف الفاعلين”، فالحرائق أفقدته نحو 117 نخلة معظمها من الأصناف الجيدة والفريدة مثل، التبرزل، البرحي، المكتوم، السلطاني، القيطاز، البربن وصنف علي دولا (الذي يُنسب إلى جده دولا)، وهو صنفٌ فريد وغير موجود سوى في قضاء بدرة.
وما بين تنهيدة ممزوجة بألم شديد ووجع نفسي ثقيل، يقول الرجل الذي يعتاش وأسرته المكونة من 11 فرداً من واردات البستان، “منتجات هذا البستان كنت أستطيع تسويقها عبر شركات متخصصة إلى خارج البلاد، يوم كانت الطلبات تزداد عليها بشكل ملحوظ من تجار في السعودية والكويت والبحرين وروسيا، أما الآن فلا أعرف ما العمل”.
الخبير الزراعي المهندس سلام اسكندر يوضح أن النخلة التي كانت تنتج في بساتين بدرة نحو ثلاث وزنات (الوزنة الواحدة تساوي 100 كلغ) أصبحت الآن لا تنتج أكثر من 50 كلغ من التمرِ، وقد تكون هذه الكمية فاسدة أو تالفة، فتباع بسعرٍ زهيد.
وتابع: “الشركات المحلية كانت تصدر في سبعينات القرن الماضي مختلف أنواع التمور العراقية، كان لدينا 150 صنفاً ومساحات أكبر بكثير، فكيف الآن ولم يبقَ سوى نحو 50 نوعاً فقط”.
مطالبات بالحلول
“وضع برامج وطنية لإحياء بساتين النخيل وتوفير السبل الكفيلة لإعادة الحياة لها بعدما أصبحت مجرد مساحات كبيرة تغصُ بالجذوع والسعف” مطلب يجده الناشط في مجالِ البيئة والتنمية المستدامة حسن الهلالي، ملحاً ويتماشى مع حاجة الناس، مضيفاً، “ليس مقبولاً بقاء الحكومة متفرجة على واقع زراعي ينذر بخطر كبير”.
ويقول الهلالي، “ضعف الإجراءات الحكومية لناحية العناية بالنخيل وحمايته وعدم القدرة على تبني مشاريع لإكثار الفسائل وتعويض النقص الحاصل، جميعها معوقات ومشكلات تحتاج إلى معالجة فورية”.
وكانت الشركة العامة لتصنيع التمور العراقية وتسويقها، قالت في وقت سابق إن العراق احتل المرتبة السادسة عالمياً في إنتاج التمور بعدما كان في يحتل المرتبة الأولى، مبينة أن العراق يمتلك 629 صنفاً من التمور تنتجها 21 مليون نخلة، فيما بلغ إنتاج البلاد من التمور عام 2018، نحو 646 ألف طن، صعوداً من 618.8 ألف طن عام 2017، بزيادة 44 في المئة، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء.
أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية