ليس لنا ما نخسره كمواطنين سوى الوقت، فسيادة الدولة والمؤسسات الاقتصاديّة، تمارس سلطة تقسيم الوقت وتحديد كيفية استغلاله، سواء أكانت السيادة دكتاتوريّة تحتكر الزمن في سبيل خلود قادتها، أو سيادة رأسمالية توظف كل ثانيّة للربح. فنحن كأفراد، نخضع لزمن التعطيل أو زمن التشغيل، كما لو كنّا آلات وماكينات، بعضنا ينتمي إلى كتلة بشريّة تسمّى مواطنين، تَنصاعُ للنظام، وهناك كتلة بشرية أخرى سيادية تُطبق هذا النظام، وكلتاهما خاضعتان للوقت المقنّن.
أي مخالفة للـ “نظام” السابق، تعني تحول الفرد إلى فريسة محتملة، أو موضوعة للعنف، ونحن واعون- أو بعضنا-، بأننا محكومون بأنساق الإنتاج، التي تقنن لحظاتنا. مع ذلك، هناك دوماً، أشكال للمقاومة الفرديّة، كنوع من الأناركيّة الناعمة، تُراهن على هدرِ الوقتْ، والاستفادة من عيوب الهيمنة ذاتها وأخطائها المنهجيّة، والتلاعب بأجهزة الحفاظ على استتباب الأمن، عبر تخريب ما يمكن تخريبه، إلى الحدّ الذي يضمن النجاة. فـ”العادي” و”الطبيعي” مما حولنا، ليس إلا وهماً مزروعاً في داخلنا، وإن لم يكن التغير عبر الثورة، ليكن عبر تعديلات طفيفة دوريّة، تكشف قلة حيلة السلطة أمام عيوبها الذاتيّة.
اللعب الجديّ
يُهدد اللعب أيّ نظام يحصل ضمنه، وهو افتراض لأدوار جديدة، ونفي للقواعد القائمة، واتفاق ضمني بين “اللاعبين” على قواعد مختلفة، لا يدركها إلا المشاركون، هذا الاتفاق الجديد يخلل المسافة بين الرفض والانصياع، وبين المزاح والجدّ. هو مشابه للمسرح، لكنه أشدّ نقديّة، كونه يستغل مساحات غير مخصصة للعب، مزعزعاً قوانينها والأدوار التي تنتجها. الفكرة تشبه ما يحصل اليوم في العالميّ لنزع السراويل، والذي يتفق فيه سكان عدد من المدن على خلع سراويلهم في قطار الأنفاق، حيث يقوم المشاركون وإن كانوا غرباء، بتهديد “الشكل” المفترض للحشمة، عبر إضافة تعديلات طفيفة عليه، تكسر صرامة “العُرف”. قد يبدو الأمر غير مجدٍ، لكن الشرطة في عدد من العواصم، ألقت القبض على بعض المشاركين، بتهمة خدش الحياء والسلوك المعيب، هذه “اللعبة” تكشف تقنيات السلطة في الحفاظ على “الشكل اللائق” وحدوده القانونيّة، وأيضاً تهدر أوقاتها في قضايا تافهة، عبر تشغيل ماكينتها البيروقراطيّة.
التقنيّة ذاتها نراها في دمشق في مظاهرة القمصان البيضاء في بداية الثورة السوريّة، التي أعلن عنها على صفحات التواصل الاجتماعيّ، من دون أن يعرف “اللاعبون” بعضهم، سوى في لحظة الأداء، حيث كانوا يمشون في وسط العاصمة مرتدين قمصاناً بيضاء، كأي مواطن “عاديّ”، مثيرين حيرة رجال الأمن. اللعب في الحالة الأولى يخرّب أشكال “الالتزام”، هو نقدي أكثر منه انتهاكيّ، في حين أنه يهدر وقت الشرطة في حالة سوريا، فقوى الأمن تراقب وتتنصت، وتحاول إيجاد الخطأ أو محركيه، من دون أن يعلموا من هم حقيقة، إذ يهزأ اللاعبون من أجهزة “التطبيع” التابعة للدولة، وجهودها للحفاظ على الاستقرار، عبر خلق الحيرة والارتباك، وضمن هذه السياقات، يبقى “اللاعب” على حواف الخطر، مراهناً على ضبابية مفهوم “اختراق القانون”، كاشفاً عن اعتباطيّة الاتهام في الكثير من الأحيان.
أي مخالفة للـ “نظام” السابق، تعني تحول الفرد إلى فريسة محتملة، أو موضوعة للعنف، ونحن واعون- أو بعضنا-، بأننا محكومون بأنساق الإنتاج، التي تقنن لحظاتنا. مع ذلك، هناك دوماً، أشكال للمقاومة الفرديّة، كنوع من الأناركيّة الناعمة
الخطأ العشوائي
يعتمد الخطأ الفردي أو الجماعيّ على القدرة على النجاة، هو ضد الاحتراف وتوظيف المهارة، إذ يهدر مقومات الإنتاج، ويعطّل أدواته، وتتجلى بعض تقنياته، في تعطيل الإنتاج وروتين العمل، والمثال الأشهر هو الأميركي جون كاين، الذي كان يترصد كاميرات التصوير التلفزيونيّة، ليصرخ بشتيمة شديدة البذاءة، تاركاً المذيع محتاراً، على رغم أن الأمر، ليس إلا خدعة مفبركة كُشفت لاحقاً، إلا أن هذا السلوك تحول إلى وسيلة للتخريب، يقوم به كل من سنحت له الفرصة، مشتتاً تركيز المذيع ومخرباً بث نشرة الأخبار السياسيّة، ففي كل مرة هناك كاميرا، هناك احتمال أن يظهر أحدهم صارخاً، ومخرباً “زمن البثّ” وتصنيع المعلومات، محوّلاً إياه إلى زمن للإحراج، ومحاولة إصلاح الخطأ وتبريره.
هناك شكل آخر للتخريب، يتمثل بتعطيل أجهزة الدولة، وجعلها موضوعات “غير صالحة للعمل”، كحالة فنان الأداء الروسي بيوتر بافلينسكي، الذي حوّل رجال الشرطة إلى مسعفين حائرين، يحاولون عدم أذيته، وفي الوقت ذاته إخفاءه، وإعادة التوازن للفضاء العام، وذلك حينما خاطر بجسده، وقيد نفسه بالأسلاك الشائكة، أمام مبنى الجمعية التشريعيّة في سانت بطرسبورغ، جاعلاً من الفضاء العام مسرحاً، تَهدر فيه أجهزة الدولة وقتها في تفكيك هذا الخطر، الذي لا يشكل تهديداً على حياة “مواطن” وحسب، بل على استقرار الفضاء العام، فما قام به الفنان، هو خلق ظروف تخالف فيها أجهزة الدولة أدوارها التقليديّة في السيطرة، إذ تهدر طاقتها الماديّة والجسدية، لتبديد التهديد، وتكشف عن عنفها ضد من “يخرّب” الاستقرار الاصطناعيّ.
التخريب الممنهج
يستهدف “المخربون” عادة مؤسسات الدولة والمرافق العامة والممتلكات الخاصة، لكننا هنا لا نتحدث عن الأشكال التي توظف العنف، سواء ذاك الذي قد يصيب المُخرب أو الآخرين، بل تلك الأقل مباشرة، والتي يتداخل فيها الفنّي مع السياسيّ، والتي انتشرت مثلاً في بداية المظاهرات السلميّة في سوريا عام 2011، حين قام الناشطون، بتلوين مياه الساحات العامة باللون الأحمر، إلى جانب نشر مكبرات صوت لا سلكيّة، تصدح بشعارات الحريّة في الساحات العامة، والتي لفتت انتباه “الغافلين” أو “الصامتين”، وغيرت في تفاصيل أيامهم المتشابهة، وتركت قوى الأمن حائرة، لا تعرف ما تفعل. وتخريب الفضاء رمزياً “صوتياً وبصرياً”، حوّل رجال قوى الأمن إلى أضحوكة، يحاولون محاربة مخربين غير موجودين، لا أجساد لهم.
لا يقتصر الأمر على الدول التي تشهد ثورات، إذ احتفل مركز الجمال السياسي في العاصمة الألمانيّة برلين العام الماضي، بمرور 75 عاماً على “مشروع الوردة البيضاء”، والذي يقوم فيه متطوعون بزيارة بلدان تخضع لأنظمة ديكتاتوريّة، وتوزيع منشورات ضد هذه الأنظمة، لتذكير الناس بوحشية السلطة. حينها وقع الخيار على تركيا، حيث وضعت آلة طابعة، على نافذة فندق، مشرفة على ساحة عامة في اسطنبول، وأرسل إليها أمر الطباعة من ألمانيا، ليتطاير في الهواء نحو 1000 منشور يندد برجب طيب أردوغان وسياساته القمعية.
ما حصل أن فضاء الساحة تعرض للاضطراب وتعرقلت حركة السير، وتدخلت الشرطة سريعاً لإخفاء الموضوع، وصرحت السلطات وقتها، بأن بعض المخربين، يحاولون تلويث البيئة ونشر القمامة، إلا أن قوى الأمن، وكما المثال السابق في سورية، كانت تحارب الهباء، وتجمع الأوراق من الأرض، فباتت الشرطة أقرب لشخصيات كاريكاتورية تحاول حرفياً قتل فكرة على ورقة.