ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

نزلة جلف المصريّة… منزلق الطائفيّة لن ينتهي بجلسة عرفيّة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نزلة جلف التي نشب فيها الكره والتعصب أسرع مما يمكن أن ينشب السلم الحقيقي، مثلها مثل غالبية القرى المصرية، لا يدع عمدتها مشكلاتها تُحوَّل الى أقسام الشرطة أو المحاكم – وكأن الأخيرة لن تحلّ المشكلة بل ستفاقمها- يعقد عمدة القرية جلسة للصلح لكن هذا الصلح مشروط بأحكام غير قانونية وواجبة التنفيذ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل أيام اشتعلت قرية “نزلة جلف المصرية” التابعة لمحافظة المنيا بأحداث طائفية، ففي فيديوهات موثّقة تم تداولها كُشف عن تعديات على خلفية طائفية تعرض لها بعض مسيحيي القرية، إذ تم تكسير بيوتهم وواجهوا تهديدات بالقتل والتهجير، فضلاً عن  حرق عدد من عشش الأسر المسيحية بالأراضي الزراعية التي تعد رأس مالهم في الريف، كونها تحوي دوابهم ومخزون محاصيلهم.

هذه المشاهد على رعبها واعتيادها في الأحداث الطائفية المتكررة التي تشهدها القرى المختلطة بين المسيحيين والمسلمين في أقاليم مصر، إلا أنها تحوي لقطات لا يمكن تجاوزها: أطفال مسيحيون يحتمون بالشرفة وهم يشاهدون تكسير منازلهم، وطفلة مسيحية تقول لوالدتها “ماما أنا خايفة”، ومشهد أطفال مسلمين يلتقطون الحجارة ليشاركوا مع أسرهم في ضرب جيرانهم المسيحيين وإذلالهم.

هذا المشهد الذي يجسّد رعب صغار المسيحيين والعنف العالق في كفوف صغار المسلمين لن ينهى مأساة العنف الطائفي في مصر، الذي تغلغل في ذاكرة الأطفال من دون وعي، وترسخ من دون تفكيك، حيث لم يعد من السهل التحرر منه. والمضحك أن يظنّ منظمو الجلسات العرفية أنهم أطفأوا النيران وعلى الجميع أن يهنأوا بالسلام والأمان.

أصل الحكاية…

كالعادة، لا تنشب جريمة طائفية في مصر إلا إذا كان أحد أسبابها امرأة من أحد الأطراف، سواء مسيحية أو مسلمة، أو في حالات العنف الطائفي بسبب بناء كنيسة جديدة أو ثورة على أصوات صلاة المسيحيين وترانيمهم. زيادة على ذلك، قد يحدث حرق لكنائس بل وقتل لمسيحيين لأسباب دينية باطنها سياسي، لكن الأخطر أن يحب مسلم مسيحية أو العكس، حينئذ تصبح المعركة معركة دماء حقيقية من دون تحقّق أو ترشد.

في نزلة جلف، لا يعود أصل المشكلة فقط بسبب قصة حب بين بيشوي سامح نابليون (18 عاماً) والفتاة المسلمة بسمة (16 عاماً)، بل تعود إلى أبعد من ذلك. وفقاً لرواية أحد الأهالي، فإن شقيق بسمة، دخل سابقاً في علاقة عاطفية مع شقيقة بيشوي المسيحية محاولاً إقناعها بترك ديانتها.

حينذاك، لم يفتعل أهل بيشوي مع عصبتهم من المسيحيين أحداث عنف طائفي ولم يكسروا البيوت ويروّعوا المواطنين، لكنهم قبلوا بحكم عمدة القرية الذي طالب العائلة المسلمة بترك القرية، إلا أنها بقيت وظل الثأر البارد حتى أتت لحظة الانفجار.

حينما انعكست الآية ودخل بيشوي في علاقة عاطفية مع بسمة، خرج مئات المسلمين إلى الشوارع لتحطيم بيوت كل أقباط القرية، وأظهرت الفيديوهات صراخ نساء مسيحيات وحماية بناتهن في هذه المعركة المرعبة، فيما يردد المسلمون هتافات وزغاريد “لا إله إلا الله”.

تعظيم المظالم بزعم الحماية

نزلة جلف التي نشب فيها الكره والتعصب أسرع مما يمكن أن ينشب السلم الحقيقي، مثلها مثل غالبية القرى المصرية، لا يدع عمدتها مشكلاتها تُحوَّل الى أقسام الشرطة أو المحاكم – وكأن الأخيرة لن تحلّ المشكلة بل ستفاقمها- يعقد عمدة القرية جلسة للصلح لكن هذا الصلح مشروط بأحكام غير قانونية وواجبة التنفيذ.

سابقاً، حكم عمدة نزلة الجلف على العائلة المسلمة بترك القرية بعد أزمة قصة الحب التي جمعت بين أحمد وشقيقة بيشوي، إلا أنها لم ترحل. لكن المفارقة أن العمدة حكم على عائلة بيشوي قبل أيام بدفع مبلغ 250 ألف جنيه مصري لإصلاح الأضرار التي أحدثها المسلمين في منازل المسيحيين، وبيع ممتلكاته وترك القرية ودفع مبلغ مليون جنيه لعائلة الفتاة المسلمة بسمة.

الجلسات العرفيّة تفاقم المظالم وتتحدّى القوانين المدنية في القرى والأقاليم المصرية، بزعم أنها تمضي في صالح السلم لكنها تكيل بمكيالين جائرين. في شرع الجلسات العرفية التحريض ليس جريمة، فلم يجرم عمدة القرية ولا لواءات الشرطة الحاضرين كل من حرضوا ضد حرق الكنائس في نزلة الجلف ولا قتل المدنيين. مرّ خطابهم التحريضي الهيستيري مرور الكرام، فلم يُدَن من رفع الحجر ورشق منازل الأقباط ومن أحرق العشش بدوابها.

تجميل الظلم برسم ابتسامة مزيّفة ومصافحة غير عادلة بين الأطراف، يفسر سبب تجدد أحداث العنف الطائفي بشكل متكرر في الأقاليم المصرية، على رغم الجلسات العرفية، ذلك أن الطرف الأضعف ينصاع صاغراً كي لا يتأذي باقي المسيحيين في القرية، فيما يزداد الطرف القوي ثقة في مسلكه وعنفه.

ما حدث في قرية نزلة جلف المصرية – والتي تعني منزلق الشخص الأحمق أو الغليظ-  أكثر من جريمة تكثّفت في جريمة واحدة، جريمة عنف طائفي، وجريمة تحريض على الكراهية والقتل، وجريمة إغلال يد العدالة وحجب الوصول الى الحق في التقاضي والمحاكمة العادلة.

في تقرير لمكاريوس لحظي على “درج“، رصد بنفسه منذ عام 2010 وحتى نشر التقرير، “أكثر من 300 حادثة عنف طائفي ضد الأقباط. تتنوع هذه الحوادث بين قتل وتفجير وجرح واعتداء وإرهاب وقمع وتمييز، وحرق وهدم ونهب واقتحام وحصار لكنائس وبيوت ومحال ومخازن ومنقولات مملوكة للأقباط… ووقع أكثر من ثُلثها داخل محافظة المنيا، ونحو 80 في المئة من هذا الثُلث، يتبنى النموذج المتكرر ذاته، الذي وقع أخيراً في الفواخر والكوم الأحمر”.

وبحسب مكاريوس، فإن المنيا التابعة لها قرية نزلة الجلف تشهد أكثر من 25 في المئة من الحوادث ضد الأقباط في مصر.

يشير تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “في عرف من؟”، إلى أن الجلسات لم تكن يومًا محض مبادرة أهلية؛ فالدولة نفسها – عبر ممثليها المحليين أو الأجهزة الأمنية – تحضرها، وتشارك في تنظيمها أو الإشراف عليها. في بعض الحالات، تعلن مديرية الأمن “نجاح الصلح العرفي” في بيان رسمي، وكأنها توثّق إنجازًا سياسيًا أو أمنيًا. لكن وجود الدولة لا يعني ضمانة للعدالة، بل يضفي شرعية على ما قد يكون مخالفًا للدستور ذاته. فالصلح الذي يُفضي إلى تهجير أسرة أو معاقبة جماعة بكاملها، لا ينسجم مع مبدأ المسؤولية الفردية ولا مع الحق في السكن والحرية الشخصية، لكنه يُقدَّم رسميًا كحل يحافظ على السلم الأهلي.

تُظهر شهادات داخل التقرير من محافظات المنيا وسوهاج وأسيوط أن الجلسات العرفية تُدار وفق منظومة غير مكتوبة لكنها مستقرّة. يجلس كبار العائلات، وممثلون عن الأجهزة الأمنية، وأحيانًا رجال دين من الطرفين، ويبدأ النقاش حول الواقعة. في النهاية، يُكتب محضر يتضمن ما يسمى “بنود الصلح”، تُوقع عليه الأطراف، وغالبًا ما يتضمن شرطًا جزائيًا لمن يُخلّ بالاتفاق، مثل غرامة مالية أو تهجير. هذا المحضر لا يُعرض على القضاء ولا يُوثَّق رسميًا، لكنه يُنفَّذ بدقة، لأن مخالفته قد تعني مواجهة غضب الجماعة أو عودة الأمن للقبضة الحديدية.

ومع الوقت، صارت هذه الجلسات بديلاً عن القانون في القضايا الطائفية. فبدلاً من أن يُحال المعتدي إلى النيابة أو تُقدَّم دعوى قضائية، يُغلق الملف بالعرف. وهكذا يُحرم الطرف المتضرر – وغالبًا ما يكون مسيحيًا – من حقه في التقاضي. في حالات أخرى، حتى بعد تقديم بلاغ رسمي، تُمارس ضغوط لسحب البلاغ “درءًا للفتنة”. بهذا الشكل، يتحول القانون إلى أداة صامتة، والعرف إلى سلطة نافذة فوق الجميع.

تكمن خطورة هذا المسار في أنه يكرّس التمييز بدل أن يحدّ منه. فحين يُعامل النزاع الطائفي باعتباره خطرًا يجب احتواؤه لا جريمة يجب محاسبة مرتكبيها، يصبح المعيار هو التهدئة لا العدالة. ويتحوّل مفهوم “العيش المشترك” من شراكة متساوية إلى هدنة مؤقتة تفرضها موازين القوة داخل القرية. 

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
28.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes

نزلة جلف التي نشب فيها الكره والتعصب أسرع مما يمكن أن ينشب السلم الحقيقي، مثلها مثل غالبية القرى المصرية، لا يدع عمدتها مشكلاتها تُحوَّل الى أقسام الشرطة أو المحاكم – وكأن الأخيرة لن تحلّ المشكلة بل ستفاقمها- يعقد عمدة القرية جلسة للصلح لكن هذا الصلح مشروط بأحكام غير قانونية وواجبة التنفيذ.

قبل أيام اشتعلت قرية “نزلة جلف المصرية” التابعة لمحافظة المنيا بأحداث طائفية، ففي فيديوهات موثّقة تم تداولها كُشف عن تعديات على خلفية طائفية تعرض لها بعض مسيحيي القرية، إذ تم تكسير بيوتهم وواجهوا تهديدات بالقتل والتهجير، فضلاً عن  حرق عدد من عشش الأسر المسيحية بالأراضي الزراعية التي تعد رأس مالهم في الريف، كونها تحوي دوابهم ومخزون محاصيلهم.

هذه المشاهد على رعبها واعتيادها في الأحداث الطائفية المتكررة التي تشهدها القرى المختلطة بين المسيحيين والمسلمين في أقاليم مصر، إلا أنها تحوي لقطات لا يمكن تجاوزها: أطفال مسيحيون يحتمون بالشرفة وهم يشاهدون تكسير منازلهم، وطفلة مسيحية تقول لوالدتها “ماما أنا خايفة”، ومشهد أطفال مسلمين يلتقطون الحجارة ليشاركوا مع أسرهم في ضرب جيرانهم المسيحيين وإذلالهم.

هذا المشهد الذي يجسّد رعب صغار المسيحيين والعنف العالق في كفوف صغار المسلمين لن ينهى مأساة العنف الطائفي في مصر، الذي تغلغل في ذاكرة الأطفال من دون وعي، وترسخ من دون تفكيك، حيث لم يعد من السهل التحرر منه. والمضحك أن يظنّ منظمو الجلسات العرفية أنهم أطفأوا النيران وعلى الجميع أن يهنأوا بالسلام والأمان.

أصل الحكاية…

كالعادة، لا تنشب جريمة طائفية في مصر إلا إذا كان أحد أسبابها امرأة من أحد الأطراف، سواء مسيحية أو مسلمة، أو في حالات العنف الطائفي بسبب بناء كنيسة جديدة أو ثورة على أصوات صلاة المسيحيين وترانيمهم. زيادة على ذلك، قد يحدث حرق لكنائس بل وقتل لمسيحيين لأسباب دينية باطنها سياسي، لكن الأخطر أن يحب مسلم مسيحية أو العكس، حينئذ تصبح المعركة معركة دماء حقيقية من دون تحقّق أو ترشد.

في نزلة جلف، لا يعود أصل المشكلة فقط بسبب قصة حب بين بيشوي سامح نابليون (18 عاماً) والفتاة المسلمة بسمة (16 عاماً)، بل تعود إلى أبعد من ذلك. وفقاً لرواية أحد الأهالي، فإن شقيق بسمة، دخل سابقاً في علاقة عاطفية مع شقيقة بيشوي المسيحية محاولاً إقناعها بترك ديانتها.

حينذاك، لم يفتعل أهل بيشوي مع عصبتهم من المسيحيين أحداث عنف طائفي ولم يكسروا البيوت ويروّعوا المواطنين، لكنهم قبلوا بحكم عمدة القرية الذي طالب العائلة المسلمة بترك القرية، إلا أنها بقيت وظل الثأر البارد حتى أتت لحظة الانفجار.

حينما انعكست الآية ودخل بيشوي في علاقة عاطفية مع بسمة، خرج مئات المسلمين إلى الشوارع لتحطيم بيوت كل أقباط القرية، وأظهرت الفيديوهات صراخ نساء مسيحيات وحماية بناتهن في هذه المعركة المرعبة، فيما يردد المسلمون هتافات وزغاريد “لا إله إلا الله”.

تعظيم المظالم بزعم الحماية

نزلة جلف التي نشب فيها الكره والتعصب أسرع مما يمكن أن ينشب السلم الحقيقي، مثلها مثل غالبية القرى المصرية، لا يدع عمدتها مشكلاتها تُحوَّل الى أقسام الشرطة أو المحاكم – وكأن الأخيرة لن تحلّ المشكلة بل ستفاقمها- يعقد عمدة القرية جلسة للصلح لكن هذا الصلح مشروط بأحكام غير قانونية وواجبة التنفيذ.

سابقاً، حكم عمدة نزلة الجلف على العائلة المسلمة بترك القرية بعد أزمة قصة الحب التي جمعت بين أحمد وشقيقة بيشوي، إلا أنها لم ترحل. لكن المفارقة أن العمدة حكم على عائلة بيشوي قبل أيام بدفع مبلغ 250 ألف جنيه مصري لإصلاح الأضرار التي أحدثها المسلمين في منازل المسيحيين، وبيع ممتلكاته وترك القرية ودفع مبلغ مليون جنيه لعائلة الفتاة المسلمة بسمة.

الجلسات العرفيّة تفاقم المظالم وتتحدّى القوانين المدنية في القرى والأقاليم المصرية، بزعم أنها تمضي في صالح السلم لكنها تكيل بمكيالين جائرين. في شرع الجلسات العرفية التحريض ليس جريمة، فلم يجرم عمدة القرية ولا لواءات الشرطة الحاضرين كل من حرضوا ضد حرق الكنائس في نزلة الجلف ولا قتل المدنيين. مرّ خطابهم التحريضي الهيستيري مرور الكرام، فلم يُدَن من رفع الحجر ورشق منازل الأقباط ومن أحرق العشش بدوابها.

تجميل الظلم برسم ابتسامة مزيّفة ومصافحة غير عادلة بين الأطراف، يفسر سبب تجدد أحداث العنف الطائفي بشكل متكرر في الأقاليم المصرية، على رغم الجلسات العرفية، ذلك أن الطرف الأضعف ينصاع صاغراً كي لا يتأذي باقي المسيحيين في القرية، فيما يزداد الطرف القوي ثقة في مسلكه وعنفه.

ما حدث في قرية نزلة جلف المصرية – والتي تعني منزلق الشخص الأحمق أو الغليظ-  أكثر من جريمة تكثّفت في جريمة واحدة، جريمة عنف طائفي، وجريمة تحريض على الكراهية والقتل، وجريمة إغلال يد العدالة وحجب الوصول الى الحق في التقاضي والمحاكمة العادلة.

في تقرير لمكاريوس لحظي على “درج“، رصد بنفسه منذ عام 2010 وحتى نشر التقرير، “أكثر من 300 حادثة عنف طائفي ضد الأقباط. تتنوع هذه الحوادث بين قتل وتفجير وجرح واعتداء وإرهاب وقمع وتمييز، وحرق وهدم ونهب واقتحام وحصار لكنائس وبيوت ومحال ومخازن ومنقولات مملوكة للأقباط… ووقع أكثر من ثُلثها داخل محافظة المنيا، ونحو 80 في المئة من هذا الثُلث، يتبنى النموذج المتكرر ذاته، الذي وقع أخيراً في الفواخر والكوم الأحمر”.

وبحسب مكاريوس، فإن المنيا التابعة لها قرية نزلة الجلف تشهد أكثر من 25 في المئة من الحوادث ضد الأقباط في مصر.

يشير تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “في عرف من؟”، إلى أن الجلسات لم تكن يومًا محض مبادرة أهلية؛ فالدولة نفسها – عبر ممثليها المحليين أو الأجهزة الأمنية – تحضرها، وتشارك في تنظيمها أو الإشراف عليها. في بعض الحالات، تعلن مديرية الأمن “نجاح الصلح العرفي” في بيان رسمي، وكأنها توثّق إنجازًا سياسيًا أو أمنيًا. لكن وجود الدولة لا يعني ضمانة للعدالة، بل يضفي شرعية على ما قد يكون مخالفًا للدستور ذاته. فالصلح الذي يُفضي إلى تهجير أسرة أو معاقبة جماعة بكاملها، لا ينسجم مع مبدأ المسؤولية الفردية ولا مع الحق في السكن والحرية الشخصية، لكنه يُقدَّم رسميًا كحل يحافظ على السلم الأهلي.

تُظهر شهادات داخل التقرير من محافظات المنيا وسوهاج وأسيوط أن الجلسات العرفية تُدار وفق منظومة غير مكتوبة لكنها مستقرّة. يجلس كبار العائلات، وممثلون عن الأجهزة الأمنية، وأحيانًا رجال دين من الطرفين، ويبدأ النقاش حول الواقعة. في النهاية، يُكتب محضر يتضمن ما يسمى “بنود الصلح”، تُوقع عليه الأطراف، وغالبًا ما يتضمن شرطًا جزائيًا لمن يُخلّ بالاتفاق، مثل غرامة مالية أو تهجير. هذا المحضر لا يُعرض على القضاء ولا يُوثَّق رسميًا، لكنه يُنفَّذ بدقة، لأن مخالفته قد تعني مواجهة غضب الجماعة أو عودة الأمن للقبضة الحديدية.

ومع الوقت، صارت هذه الجلسات بديلاً عن القانون في القضايا الطائفية. فبدلاً من أن يُحال المعتدي إلى النيابة أو تُقدَّم دعوى قضائية، يُغلق الملف بالعرف. وهكذا يُحرم الطرف المتضرر – وغالبًا ما يكون مسيحيًا – من حقه في التقاضي. في حالات أخرى، حتى بعد تقديم بلاغ رسمي، تُمارس ضغوط لسحب البلاغ “درءًا للفتنة”. بهذا الشكل، يتحول القانون إلى أداة صامتة، والعرف إلى سلطة نافذة فوق الجميع.

تكمن خطورة هذا المسار في أنه يكرّس التمييز بدل أن يحدّ منه. فحين يُعامل النزاع الطائفي باعتباره خطرًا يجب احتواؤه لا جريمة يجب محاسبة مرتكبيها، يصبح المعيار هو التهدئة لا العدالة. ويتحوّل مفهوم “العيش المشترك” من شراكة متساوية إلى هدنة مؤقتة تفرضها موازين القوة داخل القرية. 

28.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية