“لا توجد حضانة في المصنع، رغم أن عددنا يتجاوز 100 أمّ عاملة، والإدارة لا ترضى بتوفير أتوبيسات لانصرافنا مبكراً ساعة لتوفير ساعة رضاعة، لذلك اضطررت لإرضاع ابني صناعياً وفطامه قبل الميعاد، بسبب أسعار الألبان الصناعية، فلا أستطيع تحمّل أسعارها، ولا أستطيع أيضاً تحمّل تكلفة العودة يومياً على حسابي من مدينة العاشر من رمضان إلى محل سكني بمدينة قليوب”.
بهذه الكلمات روت آلاء خطاب، العاملة في أحد مصانع العاشر من رمضان، ما تعانيه كونها أمّاً وعاملة في القطاع الخاصّ في مصر.
تقول آلاء: “أعمل في هذا المصنع منذ حصولي على المؤهّل المتوسّط. في البداية كان كلّ شيء على ما يرام، حتى تزوّجت، وبدأت معاناتي مع الحسومات المستمرّة، فرئيس الورديّة يرى أن النساء المتزوّجات لا يصلحن للعمل، ثم مع إنجابي زادت المعاناة، فلا تحصل النساء على إجازة وضع أكثر من شهرين، رغم أن القانون يعطينا 4 أشهر كاملة، ويُقتطع من الشهرين أي أيّام غياب قبل الولادة. وتعمل غالبية العاملات الحوامل في أيّام حملهن الأخيرة لتوفير أيّام الإجازة، وإذا اعترضت أي عاملة تُهدَّد بالفصل بناء على الاستقالة التي وقّعتها عند التعيين”.
آلاء واحدة من أكثر من 6 ملايين عاملة في القطاع الخاصّ في مصر، بعضهن يعانين مرّتين: الأولى لكونهن عاملات في قطاع يمارس التعسّف ضدّ كافّة العمّال، والثانية لأنهن نساء وأمّهات.
في مطلع أيلول/ سبتمبر فوجئ المصريون بخبر وفاة رضيعة على يد أمها في مصنع “نايل لينين”، بسبب رفض الإدارة منح الأمّ يوم إجازة للكشف على الطفلة المريضة، حيث خافت الأمّ من الغياب دون إذن مسبق، لأنها غابت في اليوم السابق. والغياب يومين دون إذن، يحرم العامل من بدل غلاء المعيشة (2000 جنيه)، من راتب يتجاوز 5000 جنيه، بحسب العاملة دعاء محمّد.
بسبب الواقعة، أضرب عمّال المصنع عن العمل لمدّة يومين، قبل أن تتدخّل وزارتا العمل والتضامن لحلّ الأزمة، التي تضمّنت تسوية ودّية وتعويضاً للأمّ، وحلّ مشكلات عمّالية سبق أن طالب بها العمّال المضربون.
لقمة العيش
“نحن رهائن لقمة عيشنا”، بهذه العبارة وصفت امتثال عبد العال واقعها كعاملة في أحد مصانع النسيج في شبرا الخيمة.
تعمل امتثال كمشرفة جودة في المصنع، وهي وظيفة تعني التأكّد من أن كلّ قطعة من إنتاج المصنع خالية من العيوب، ورغم أن الدولة رفعت الحدّ الأدنى للأجور منذ آذار/ مارس الماضي إلى 7000 جنيه، لم تحصل امتثال وزميلاتها إلا على 5200، ويضيع باقي المبلغ في استقطاعات. ومقابل هذا الراتب، لا بدّ من تنفيذ العديد من الاشتراطات، حتى لا يتمّ استقطاع أيّ مبلغ آخر، أهمّها: عدم الغياب دون إذن، أو الانصراف المبكر، وكذلك إنهاء الكميّة المطلوبة بالكامل. هذا ما دفعها إلى الاعتماد على ابنتها الكبرى (10 سنوات فقط) لرعاية شقيقيها أثناء غيابها، رغم أن الطفلة نفسها تحتاج إلى رعاية.
تقول امتثال: “أبنائي الثلاثة في صفوف الدراسة، ويعودون إلى المنزل قبل عودتي بأكثر من 4 ساعات، ولكنّي لا أستطيع الانصراف مبكراً حتى لو أنهيت الكميّة المطلوبة مني. وفي أيّام الإجازة، تضطرّ ابنتي إلى تحمّل عبء رعاية أختها وأخيها الأصغر منها بأربع سنوات، وتقديم الطعام لهما، وغيرها من المهامّ التي من المفترض أن أتولّاها أنا”.
وقّعت امتثال عند تعيينها في المصنع على ما يُعرف بـ”استمارة 6″، وهي مستند إنهاء علاقة العمل الخاصّ بالتأمينات، وهو إجراء متّبع في القطاع الخاصّ لضمان القدرة على فصل العامل في أيّ وقت دون مشكلة. وهذه الاستمارة هي سبب صمت امتثال وغيرها من العاملات، كي لا يفقدن المصدر الوحيد للعيش.
الأجور امتياز آخر
ظروف العمل ليست المشكلة الوحيدة التي تعانيها امتثال، فهناك مشكلات أخرى، أهمّها طبيعة الوظائف التي تتولّاها النساء في المصنع، فهي الوظائف الأقلّ أجراً، بينما تُترك الوظائف الأخرى مثل المقصّ وغيرها للرجال وتُحظر على النساء، حتى وإن كنّ ماهرات فيها.
امتثال نفسها عملت قبل التحاقها بالمصنع في ورشة حياكة، لكنّ الوظائف ذات الدخل المرتفع تُخصص للرجال فقط، كما أنها لا تملك أيّ فرصة للترقّي؛ فمشرفات الجودة يتمّ تعيينهن في هذه الوظيفة دون إمكانية لتولّي مسؤوليّة رئيس الورديّة مثلاً، لأن هذه وظائف محظورة على النساء.
إقرأوا أيضاً:
تقول امتثال: “رئيس الورديّة الذي نقدّم لديه مثلاً طلب إجازة، رجل لم يتولَّ تربية طفل أو رعايته، وبالتالي لن يفهم أبداً ما أعانيه يومياً. يراني أنا وغيري من العاملات عبئاً زائداً، لا ضرورة لنا، ومن الأفضل تعيين رجال بدلاً منّا لأن أعذارنا أكثر. وإذا تعبت إحدى العاملات بسبب الدورة الشهرية، فإنها مجبرة على استكمال الكميّة المطلوبة، لأنها لا تجرؤ على الإفصاح عن تعبها”.
عقوبة الأمومة
من جانبها، قالت إلهام عيداروس وكيلة مؤسّسي حزب “العيش والحرّية” إن “القطاع الخاص غير صديق للنساء تاريخياً، حيث كان القطاع العامّ هو الأكثر جذباً للنساء، ولكن مع إيقاف التعيين بسبب سياسات التقشّف وتوجيه أغلب الدخل العامّ لخدمة الدين، لم يعد هناك توظيف، فلجأت النساء إلى القطاع الخاصّ”.
بحسب عيداروس فإن القطاع الخاصّ “يعادي النساء على عدّة محاور: أهمّها عدم التعيين إلا في قطاعات معيّنة مثل الغزل والنسيج والصناعات الغذائية، ويقتصر التوظيف فيها على وظائف محدّدة للنساء، بينما تظلّ المهامّ الإشرافية وغيرها محصورة بالرجال. أما المحور الثاني فهو عدم المساواة في الأجور، والمحور الأخير هو “عقوبة الأمومة”، المتمثّلة في غياب الحضانات عن أماكن العمل”.
تقول عيداروس: “الأزمة تكمن في النظر إلى العبء الرعائي على أنه خاصّ بالنساء. مثلاً، يشترط القانون وجود 100 أمّ عاملة لافتتاح حضانة في المؤسّسة، وهو رقم كبير، لا سيّما أن النسبة الأكبر من المنشآت صغيرة أو متوسّطة. كما أن القانون يضع الحضانة كعبء ملحق بتشغيل النساء بحصره بالأمّهات العاملات. بينما إذا اشترط وجود حضانة في حالة وجود 100 عامل وعاملة لديهم أطفال، تصبح الحضانة أحد متطلّبات العمل، وليس عبئاً يجعل صاحب العمل، الذي يحاول تقليص الإنفاق، يُحجم عن تعيين النساء”.
وتشير عيداروس إلى أن “الدولة ممثّلة بوزارة العمل، تُصدر قرارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فمثلاً قانون العمل القديم كان يحظر على النساء أكثر من 30 مجالاً أو وظيفة لاعتبارات “أخلاقية” أو “صحية”. وفي 2023 صدر قرار برفع الحظر عن أغلب هذه المهن، عدا قطاع المناجم، لكنّه، في الوقت نفسه، لم يضع آليّات للتنفيذ أو لمكافحة التمييز والعنف”.
آليّات التطبيق
من جهته يرى شعبان خليفة رئيس نقابة العاملين في القطاع الخاصّ، أن “المشرّع أعطى الكثير من الامتيازات في قانون العمل (القديم والجديد) للنساء العاملات، لكنّ الأزمة تكمن في آليّات التطبيق على أرض الواقع، نظراً لقلّة مفتّشي وزارة العمل، الذين لا يتجاوز عددهم 500 مفتّش، في حين يبلغ عدد المنشآت الرسمية فقط 4 ملايين منشأة”.
ويشدد شعبان على أن “العاملات في مصر يواجهن ثلاث مشكلات: الأولى التعسّف من أصحاب العمل، الثانية الغلاء الذي يجبرهن على العمل، والثالثة أن أيّ بلاغ قد يتسبّب في زيادة التعسّف ضدّهن أو حتى الفصل”.
ويربط شعبان بين حاجة مصر للمستثمرين والتغاضي عن سوء أحوال العمالة، لافتاً إلى أن “احتياج مصر لزيادة الاستثمار، لا ينبغي أن يأتي على حساب العمّال وعدم الالتزام بالقانون”، مطالباً بـ”زيادة عدد المفتّشين وتغليظ العقوبات على المنشآت غير الملتزمة، بخاصّة في القطاعات كثيفة التشغيل للنساء”.
ورغم أن الدولة رفعت الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاصّ إلى 7 آلاف جنيه، يؤكّد شعبان أن “العمالة لا تحصل على هذا الأجر بسبب ثغرات في القرارات السابقة. ففي عام واحد أصدرت الدولة قرارين: الأوّل برفع الحدّ الأدنى إلى 3500 جنيه، والثاني إلى 6000 جنيه. ومع اعتراض أصحاب الأعمال، تقرّر أن يتحمّل العامل مبلغ التأمين (سواء نسبته أو نسبة صاحب العمل)، بالإضافة إلى ضريبة الدخل، وهو ما جعل العامل يحصل على راتب أقلّ من الحدّ الأدنى، الأمر الذي ينطبق على النساء والرجال”.
قد تكون الأزمة في القانون أو في التطبيق، ولكنّ المؤكّد أن النساء في القطاع الخاصّ يعانين مرّتين: مرّة كعاملات، ومرّة لأنهن نساء.











