فجأة، عرف من لم يكن يعرف الكاتبة البريطانية بيترونيلا وايت، ومن بينهم أنا وآخرون، فإذ بنا نقرأ اسمها يُتداول بكثرة بعدما كتبت مقالاً نُشر في صحيفة “ديلي ميل” عبرت فيه عن رأيها في الحركة النسوية التي، برأيها، تسببت في مضي حياتها بلا زواج ولا أطفال ولا عائلة. تقول وايت إنها نشأت متشبّعة بمعتقدات الحركة النسوية، لكنها تشعر الآن مع كثيرات من صديقاتها في الحركة بأن “النسوية قد خذلتهن وخذلت جيلهن، ولا ينبغي السماح لها بتدمير حياة الأجيال القادمة”.
بالطبع، مقال مثل هذا لسيدة صنّفت نفسها لسنوات على أنها نسوية، يعكس هواجس مزمنة كثيرة لمعادي الحركة النسوية، وأيضاً لشريحة متذبذبة ضمن الحراك النسوي نفسه، وقد ازدادت بوضوح في الفترة الأخيرة.
بصرف النظر عن تجربة الكاتبة وايت وعن حقها في أن يكون لها موقفها السلبي، لكن برأيي للأمر خلفيات وأبعاد أكبر بكثير مما تناولته هي وأقلام الغاضبين من النسوية.
إلى جانب شهرة وايت كصحافية وكاتبة، ارتبط اسمها عام 2004 بالنائب المحافظ آنذاك بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، الذي طُرد من منصبه حينها نتيجة كذبه بشأن علاقته بوايت، بعدما تفاقم الأمر الى حدّ انتشار أنباء عن إجهاض الأخيرة بسبب حملها خارج إطار الزواج!
من حق أيّ كان تصنيف نفسه كما يريد، فوايت اعتبرت نفسها نسوية على رغم تصرفاتها التي تتناقض في عدد من تفاصيلها مع الوعي النسوي الراهن. ومن حق المتابعين لمثل هذه الوقائع توضيح الصورة للعامة، فهذا يتعلق بجانب من جوانب النسوية، وهو التوعية، وليس فرض الأمور على الآخرين بخاصة في ما يتعلق بالحياة الخاصة. لذا، لا أعرف من منع وايت من الزواج والإنجاب، ومن ساعدها لتنال حق الإجهاض سوى الأصوات النسوية التي تنادي بحق المرأة في القرار، تحديداً بالحمل أو بإجهاضه!
فالإجهاض الذي تنادي به النسويات هو حق وليس فرضاً، يتم الاستعانة به لحالات مثل حالة وايت عام 2004، وإذ بها اليوم تنقلب على ما كان ركيزة دعم لها في حياتها.
إقرأوا أيضاً:
تحمّلت الحركة النسوية أكثر مما تحتمل، فالذكوريون من الجنسين يلقون على أكتافها بفشل العلاقات العاطفية والمهنية والعائلية.
هذه الحركة لم تنجح وتقاوم وتستمر إلا لكونها نابعة من انتقاص لدور مكون اجتماعي أساسي. فالحركة النسوية التي ساهمت في خروج المرأة الى العمل بعدما كانت ممنوعة من الخروج برفقة صديقاتها والتنزّه، لم ترغب أساساً في تحميل المرأة مزيداً من أعباء الحياة، لكن الأشخاص من ذوي العقلية الذكورية، بخاصة أولئك الذين يدعون دعم النسوية، استغلّوا مطالب المرأة بالاستقلالية لتحمل الأعباء في المنزل وخارجه!
كثر حديث مدرّبي الحياة أخيراً عن الطاقة الأنثوية والذكورية لتذكير المرأة بدورها المنزلي، ولكن كثراً منهم ربطوا الأمر بإصرار المرأة على حمل أعباء الحياة المادية، والتي انتقصت من طاقة الرجل الذكورية، وكأن النسوية أو النساء أردن ذلك برغبة منهن! هناك عبارات ذكورية شهيرة في مجتمعاتنا العربية مثل “مكانك المطبخ”، بخاصة عندما تحاول إمرأة الحديث عن السياسة أو الاقتصاد أو الرياضة، ومثلها هناك عبارة “استحملين أنبوبة الغاز؟” تواجه حديثك عن خروجك الى العمل أو أبسط حقوقك الإنسانية، ولا أعرف من يحمل أنبوبة الغاز في يومنا هذا!
دينياً واجتماعياً، خاضت الأنثى جدالات ونقاشات محتدمة عند حديثها عن العدالة أو المساواة الاجتماعية، لترجعها الى مفاهيم القوامة مقابل عطاء الرجل المادي، أو واجباتها مقابل حقوقها، ثم ينتصرون ويتناولون مقالاً لصحافية بريطانية تشكو من النسوية في بلد يسمح بالإجهاض والعلاقات غير المسموحة في بلادنا!
أعجبتهم كلمات سيدة تشكو الوحدة من دون أطفال أو عائلة، وكم من رجل في هذا العالم بلا أطفال، أو ربما لديه أطفال لكنه غادرهم مع أمهم ليعيش وحيداً يتسكع بلا مسؤوليات! ولعله السبب ذاته الذي دفع وايت قبل عشرين عاماً للجوء الى الإجهاض بدلاً من تحمّل مسؤولية طفل بأب غير مسؤول، لكن الحياة تنسينا أحياناً!