أنجز المخرج البرتغالي تياغو رودريغز عام 2018 في باريس، عرضاً مسرحياً بعنوان “عن ظهر قلب”. يناقش فيه مفهوم الذاكرة والحفظ، وعلاقتهما مع الممثّل. ليطرح سؤالاً على الجمهور الذي يشارك في المسرحيّة: “لم على الممثل أن يحفظ دوره؟”.
يتطور السؤال أثناء العرض ليناقش رودريغز مفهوم الحفظ وبعده السياسي، وعلاقته مع الأنظمة القمعيّة، مُستعيداً حادثة وقعت مع الكاتب الروسي بوريس باسترناك، الذي ترجم أبيات شيكسبير إلى الروسيّة، وعارض حكم ستالين. إذ يخبرنا رودريغز كيف وقف باسترناك بين زملائه، في اجتماع لاتحاد الكتاب السوفييت وقال “الرقم 30”.
رنّ الرقم 30 في القاعة، وقف أنصار باسترناك من الكتّاب، وألقوا الأبيات الـ 30 المترجمة إلى الروسيّة، تضامناً مع باسترناك وسط دهشة الحاضرين. مهارة الحفظ في هذا السياق، ذات أثر سياسي ولو كان بسيط.
مهارة الحفظ، أو بصورة أدقّ “فن التذكر- ars memoriae”، هي من أقدم تمارين البلاغة اليونانية، تلك التي ترى أن الذاكرة أشبه ببناء، عمران نتحرك داخله لنستعيد ما “نحفظه”، سواء كنا خطباء أمام جمهور، أو محامين نحاجج الخصم، أو رواة نريد أن نسرد ونحكي. طبعاً الأصعب هي مهارة النسيان، تلك التي لا يمكن التيقن منها، فهل ننسى فعلاً، أو يخُادع العقل نفسه، ويلتبس عليه ما يعرفه تحت اسم “النسيان”.
كل ما سبق لا يعنينا بشيء، لا باسترناك، ولا عمارة الذاكرة، ولا حكاية الطفل الذي لا ينسى، ذاك الذي أذهل الكاتب الأرجنتيني بورخيس حين التقاه. ما يهمنا هو الحديث عن “الحفظ” بوصفه مهارة يوميّة، حيث تتحول الذاكرة إلى جزء من “الحياة” المبتذلة، حيث النسيان، أزمة قد تهدد مالنا أو قدرتنا على التواصل مع الآخرين، ونقصد هنا، كلمة سرّ البريد الالكترونيّ، وبطاقة الاعتماد، والرقم الوطني، وحساب الضرائب. الحفظ هنا واجب وطنيّ من جهة، ومساحة رأسمالية من جهة أخرى.
وصف الحفظ بأنه مساحة استثمار رأسماليّة قد يحوي مُبالغة، يُفترض أن التكنولوجيا أعفتنا من حفظ أرقام الهواتف، وتواريخ ميلاد الأصدقاء، حتى إن كلمات السر استُبدلت ببصمة، أو عين أو ووجه. نظرياً، يجب أن تكون الذاكرة حرّة، لكن، التطور التكنولوجي نفسه، أوصلنا إلى ما تمكن تسميته، بما لا يجب أن يُنسى أو يظهر للعلن، أرقام وعبارات شديدة الأهميّة، المطلوب أن تكون معقدة ولا يجوز أن تغادر الدماغ.
نتحدث هنا مثلاً، عن كلمة سر بطاقة البنك، النسيان هنا مُكلف، ولو كان الثمن قليلاً، أي ثمن استعادة كلمة السر. الأمن المالي في ساعات أو أيام النسيان قد يُهدد أحدنا، خصوصاً إن كان في عطلةٍ مثلاً أو بعيداً من منزله، ببساطة النسيان مُكلف. الأمر ذاته مع الرقم الوطنيّ، لا يجوز نسيانه أو تسريبه، وإلا سرقت هوية أحدنا.
ينسحب الأمر على كلمة المرور أو كلمة السرّ لدخول “فيسبوك” أو “تويتر”، نسيانها، شأن مُقلق، فهل تسربت واخترق حسابنا ؟، أم هو النسيان فقط ؟، صحيح يمكن استعادتها بثوان، لكن أصل المشكلة في الحفظ والنسيان.
يُختزل عالم الواحد منا إلى مجموعة كلمات سرّ تتحكم بماله وعلاقته بالآخرين، وأحياناً بيته، إن كان من أصحاب الأموال القادرين على استخدام قفل رقمي، أو ببساطة، إن كان لباب عمارته “رقم” لا بد من إدخاله كي يتمكن من الوصول إلى منزله.
إقرأوا أيضاً:
كلمات سرّ في كل مكان، الشاشات، الأبواب، البنوك . البدائل، كالهوية البيولوجيّة (العين والبصمة)، لا تكفي أحياناً، علمتنا الأفلام، أنه يمكن اقتلاع عين أحدهم أو قطع إصبعه للوصول إلى خزنة أو دخول منزل، أو الاثنين معاً. الحفظ إذاً ضرورة وواجب علينا كمواطنين ومستهلكين، من ينسَ، قد يجد نفسه فجأة خارج “النظام”.
يظهر “الحفظ” أحياناً كضرورة آنية، كأن تحفظ رقم السيارة التي أطاحت بك، أن تحفظ رقم هاتف عشيقتك/ عشيقك، أن تحفظ رقم مورّد الحشيش، أن تحفظ أماكن الكاميرات في الشارع، أن تحفظ كل ما لا تريد أن يظهر، بصورة أخرى كلماتك وأرقامك “السريّة” التي لا يصلح أن تنساها.
تركتنا العملات الرقميّة أمام شكل جديد من “كلمات السرّ” وهي “عبارة المرور” للمحفظة الرقميّة. جملة غير منطقية من 12 إلى 24 كلمة، يرافقها دائماً التنبيه التالي، احفظها، وإياك أن تعطيها لأحد. أياك أن تجعلها بمتناول شخص غيرك، والأهم، إياك أن تكتبها، وإن فعلت فاحفظها بمكان ما لا يعلمه أحد غيرك. بالطبع التحايل هنا غير مباح، تقول التوصيات، إياك حتى أن تلتقطها أي كاميرا، أو أن تظهر على أي شاشة. هذه الجملة السريّة قد تكون مفتاح ثروتك، لا تنسها، وإلا فقدت كلّ عملاتك الرقميّة.
الحفظ والتذكر عملية عصبية، لا نعلم أي شيء عنها (وأقصد أنا لا العلم)، لكن ما يمكن تأكيده (أيضاً أنا لا العلم)، أن من لا يمتلك أي “كلمة سرّ” أو “عبارة مرور” أقل قلقاً وخوفاً ممن عليه تذكّر 5 على الأقلّ في أي لحظة، خصوصاً أن الذاكرة خوّانة، يمكن أن ننسى فجأة، أو نسهو، أن نفقد القدرة على إدخال كلمة السرّ أوتوماتيكياً بمجرد أن نقترب من لوحة المفاتيح.
ما يدلل صحة فرضية “القلق” السابقة والخوف من نسيان كلمات السرّ، هو أن الشأن تحول إلى فوبيا، مخاوف لا توصيف طبّياً لها، لكن لها كلمات تصفها كـ”Formaspassphobia” أو الخوف من أن تخسر كلمة السرّ الرئيسيّة الخاصة بك. هناك أيضاً Foransequephobia، الخوف من أن تنسى جواب السؤال السريّ كي تستعيد كلمة السر الخاصة بك، ذاك السؤال الذي يتم تجاهله دوماً، لسبب واحد لا غيره، وأفترض هنا أنه الغرور، والثقة بعدم نسيان كلمة السرّ.
بركة النسيان
تراكم كلمات السرّ لا يعني أن الحلول المقدّمة لتجاوزها مفيدة، سابقاً أو في زمن غابر مُتخيل، كان الشأن مختلفاً، كي تدخل مكاناً يحوي كنزاً (مغارة علي بابا) أو تفتح باباً نحو عالم آخر (بوابة النجوم) أو تنجو بحياتك (أوديب) أنت بحاجة لحلّ الأحجية، كلمة أو عبارة تُلفظ علناً، تفيد الفطنة في إيجادها، ليكون فتح الباب أو المغارة مكافأةً على الفطنة نفسها، لا القدرة على الحفظ.
يقترح خبير الأمن الرقمين إدوارد سنودين أن الحل لمشكلة النسيان وتجاوز خطر القرصنة، لا يتمثل بكلمة سرّ واحدة لكلّ شيء، بل بركة من كلمات السر، أي مجموعة من العبارات والجمل التي نحفظها، نبادل بينها إلى حدّ أننا أنفسنا لا نعرف ما هي كلمة السرّ، نجرب من “البركة” حتى “نمرّ”. لا تنطبق النصيحة السابقة على “ليدجر” العملات الرقميّة، فمحاولات خاطئة عدة، تعني أن يُقفل مع ثروتك المبتذلة من العملات الرقميّة إلى الأبد، وعليك إثر ذلك أن تتذكّر “عبارة المرور”. تلك التي يفترض أنك أخفيتها في مكان سريّ في ذاكرتك أو منزلك، مكان لا يعرفه أحد غيرك.
يشير فيلسوف ما بعد الحداثة، الفرنسي جان بودريار، إلى “كلمات المرور” في كتابه الصادر عام 2000. الكتاب الذي يحمل الاسم ذاته Passwords، وبالفرنسية Mots de passe، يحوي مجموعة من المقالات، يشير بودريار في أحدها إلى أن كلمات المرور، تحمل معنى العبور والانتقال. كلمة قادرة على نقلنا من مكان إلى آخر، مادي أو رمزيّ. لكن، المعنى العربي غامض أو لنقُل يحوي لبساً، فترجمة “كلمة المرور” تنطبق عليها المعاني السابقة، لكن اللافت أننا في اللغة المتداولة نستخدم تعبير “كلمة السرّ”، لا الكلمة السريّة، الذي يشير إلى كلمة لا يجوز أن تظهر للعلن، جملة أو أرقام تحوي ما هو مخبأ وفي الوقت ذاته هي أيضاً مخبأة، لأن علنيتها تعني فضح حجم حسابك البنكي، ما تخفيه في حاسوبك، وثروتك الرقميّة… الخ.
بلاغة الاستخدام العربيّ، أي كلمة السرّ، تفترض أن اللفظة بحد ذاتها لا معنى لها، بعكس الذهول الذي يسببه جواب الأحجية حين تكتشف، ويفتح الباب أو ينجو الشخص بحياته كما حصل مع أوديب حين حل أحجية السفينكس قائلاً “الإنسان”.
يكتسب السر/ الجواب في سياق الأحجية معنى يشير إلى حذق من يجيب وفطنته. أما في حال كلمة السر، فالكلمة نفسها لا تعني شيئاً، بل ما يختفي وراءها، ونسيانها في السياق اليوميّ إشكاليّ، وهنا ربما يكمن سبب الفوبيا التي تتحرك خوفاً من نسيانها. الفوبيا التي تجعل الحفظ قلقاً لا علاج له إلا بالحفظ.