حملت الأنغام، في قديمها وجديدها، تلويحات أشواق وفخر وأوصاف للذكرى متوجهة بما يشبه التحية لبغداد ورمزها الحي المتجدد أبد الدهر: نهر دجلة. لكن قلة منها عنيت بالملامح الطبيعية والبشرية التلقائية لذلك الرمز، بعيداً من الإحالات المناسباتية، “وطنية” كانت أم تربوية موجهة، بل إن من بين تلك القلة ما بدا مخلصاً لعبقرية المكان الطبيعي، أي النهر والملامح الإنسانية المتشكلة حوله ومنه.
أغنية “على شواطي دجلة.. مر” هي تمثيل فذ لذلك المعنى الفريد الذي يتدفق طواعية في مشاعره، كما مويجات النهر وشواطئه.
الأغنية هي من إبداع ذلك الثنائي الذي لو نظرنا إليه بشيء من الإنصاف، لكان من أوائل الذين وضعوا الأساس لهوية وطنية روحية وثقافية عراقية، فقد صاغ كلمات الأغنية الشاعر والباحث والصحافي عبد الكريم العلّاف، ووضع لحنها، الأب الحقيقي للموسيقى العراقية المعاصرة، صالح الكويتي (بالتعاون مع شقيقه داود)، وغنتها أول مرة سليمة مراد.النص مقام على قراءة شعرية لملامح بيئية وإنسانية تتعلق بالامتداد الجغرافي الذي يعنيه مرور النهر في بغداد، حيث يتجه أهلها في أيام الصيف، صوب شاطئ دجلة الممتدة من الباب الشرقي حتى الكرادة الشرقية، ويقيمون فيها بيوتاً صيفيةً من الحصران والخشب، معروفة باسم “الجراديغ”. تطل واجهاتها الأمامية على النهر وتحفّ بواجهاتها الأخرى الخضروات والأزهار، ويمضون فيها حياة هانئة، حيث الحرية المطلقة والجو اللطيف فيتسامرون في لياليهم على ضوء القمر.
نحن هنا أمام احتفال إنساني بالطبيعة وجغرافية المكان وملمحه الأبرز، أي النهر وهو ما عبّر عنه الشاعر العلاف بروح آخاذة تجمع التصوير والتلقائية الشديدة: “شوف الطبيعـة/ تزهـي بديعة، إبليلة ربيعة/ يضوي البدر”.
ففي تلك المسرات البسيطة المتشكلة من “المصايف”، والتعايش الأنيس مع الأوقات الليلية “يشعر الإنسان بالبهجة والسعادة وهو مستلق على سريره وينظر إلى ما حوله من المناظر الخلّابة، وقد ارتدت الطبيعة حلتها الزاهية في الليالي المقمرة فتحلو في مياه دجلة السباحة وركوب القوارب، ولقد كانت تلك تموج بآلاف المصطافين مع غروب الشمس وبعده، فمنهم من يقضي الساعات الطوال في الماء ومنهم من يتحول بين الخضرة والأزهار. بينما اعتاد فريق آخر أن يستقل الزوارق للتنقل من جزرة (جزيرة) إلى جزرة ومن شاطئ إلى شاطئ بمصاحبة الغناء والموسيقى. وتلك الحياة عند البغداديين كانت أحلى أيام حياتهم حيث المتعة واللذة”، كما يلفت “كتاب الأغاني القديمة، أزجالها… ألحانها… حكاياتها”، لمؤلفه حمودي إبراهيم الوردي.
هذه الملامح من النشاط الإنساني المتصلة بهيبة المكان، يترجمها الشاعر الذي كتب كلمات معظم الأغنيات التي تشكل اليوم الذاكرة الشعبية العراقية: “لفـرش ابرمله/ على شاطي دجلة، والماي دهله (غرين)/ هلّ (هذا) المنحدر”.
وكان هذا الملمح المعني بالتصوير البيئي والبشري لمكان محدد، شكّل ريادةً كبيرة، فهو غيّر الصورة الثابتة عن الغناء بوصفه أشواق محبين وشكواهم، مع أن النص لم يخلُ من هذا الجانب العاطفي المهم، لكنه جاء متوافقاً مع النسيج التصويري للمكان، حتى أن عبارات الحب والوله جاءت متأثرة بما يفيض به المكان وجغرافيته: “لكَعـد ابـفيـك/ لو سطـع ضيـك، وأمشي على حيك/ صبح وعصر”، بل ثمة تعبير ينتمي إلى حداثة تعبيرية حقيقية، كما في قول الشاعر: “واكتب ابوصفك/ نظـم و نثـر”، قبل أن يذهب في مناجاة المعشوق الهاجر بعبارات صريحة ” كَلبك الكاصي (القاسي)/ كطّع انفاسي، لا تظن نـاسي/ يـوم الهجر”، وحتى في هذا نلاحظ العبارة الدالة على الانتظار واللهفة حد “الأنفاس المتقطعة”، وهو تعبير ذو منظور حداثي، لا سيما إذا راعينا زمن النص الغنائي (أربعينات القرن الماضي).
لماذا نشيد الإنشاد؟
إذا كانت هناك أناشيد معاصرة عدة تصوّر بغداد ونهرها الخالد، فهذا “على شواطي دجلة” أجملها، وإذا كانت هناك تلويحات محبة لمدينة كانت تجتهد في ابتكار طريقها والخروج من أزماتها، فالأغنية هي أجمل تلك التلويحات، وإذا كان “نشيد الإنشاد” وهو أحد أسفار العهد القديم، يحفل فضلاً عن بعد ديني، بأشواق امراة ورجل، فالأخير ينادي: “كالسوسن بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات”، والمرأة تجيب: “كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين”، فثمة في نص الأغنية ما يتصل بهذا المعنى في مواضع عدة منها “تقـطــف ورودك/ مـن بين اخدودك”، وآني علـى مودك/ أفـدي العمر”.
سهل الكويتي الممتنع
ما الذي فعله الثنائي اليهودي البارع صالح وداود الكويتي تلحيناً؟ هو أنه وضمن نهجه العبقري، صاغ لحناً قائماً على السهل الممتنع، لجهة بساطة النغم الذي يترسّخ في الذاكرة عبر ترديد اللازمة “على شواطي دجلة.. مر” ولكن بنسيج نغمي تصويري يحاكي تدفق النهر، فجاءت المقاطع مطواعة التأثير تندفع بتأثيراتها شيئاً فشيئاً في روح المتلقي ومشاعره، مثلما اتصل اللحن بشكل المتوالية الغربية “الروندو”، وهذا انعكس في أداء (اليهودية) سليمة مراد للأغنية، حين جاء صوتها متأسياً، على رغم ما عرف عنه من قوة واضحة.
الحفيد الباحث عن هويته
وفي باب تحليل أداء الأغنية، سنتعرف إلى أدائين لسليمة مراد، أحدهما هو الأصلي الذي حفظته أسطوانة “بيضافون”، وثالث حديث يتصل بالأصل (الكويتي)، عبر أداء المغني الإسرائيلي الشهير الذي بات يفخر بأصوله الثقافية العربية بعد بحث مضنٍ عن الهوية، دودو تاسا، وهو حفيد داود الكويتي لابنته. تاسا سعى بجهد إلى تجاوز عثرات “اللفظ” البغدادي الثقيل عليه، عبر مزاوجة فريدة وعميقة، بين اللحن الأصلي والشكل الحديث (فرقة روك)، فجاءت الأغنية هنا بمثابة تحية رقيقة للثنائي الرائد وأثره العميق الذي طبع فيه الموسيقى العراقية المعاصرة، ونقل عبره الأنغام من التلقائية الشفاهية إلى المعاصرة الواعية، وظلّ حاضراً في البيئة البغدادية ثقافياً واجتماعياً، على رغم الترحيل القاسي من العراق إلى إسرائيل، نهاية أربعينات القرن الماضي، وعلى رغم القسوة التي انطوى عليها قرار السلطات العراقية، بعد مجيء البعث إلى السلطة 1968- 2003، بإسقاط عائدية ألحان الكويتي واعتباره “من التراث”.