يعيش دواي ناجي (45 سنة) من محافظة البصرة جنوب العراق، في دوامة من القلق على مصير والدته المصابة بسرطان الدم والراقدة منذ أسابيع في مستشفى الصدر التعليمي، فهو يخشى أن تلتحق بشقيقته الصغرى وإبن شقيق له، اللذين توفيا بالسرطان سنة 2014.
يعتقد ناجي أن انبعاثات الحقول النفطية هي السبب: “شعلة غاز لمنشأة استخراج نفط لا تبعد عن منزلنا في دور معمل الورق بمنطقة الدير شمال البصرة، سوى 1000 متر فقط. وبسببها صار سكان المنطقة عرضة للإصابة بمختلف أنواع الأمراض، بما فيها السرطان”.
ثم يشير إلى عدم توافر أدوية سرطانية أساسية وساندة كثيرة في مركز الأورام بالمحافظة. فدفعه قلقه من ضعف المستلزمات والعلاجات وشكوكه في أن التباطؤ في إعطاء الجرع الكيماوية قبل عشر سنوات لشقيقته وابن شقيقه بوقت مبكر عجّل في وفاتهما، الى أخذ والدته الى إيران في رحلة علاج في شهر كانون الثاني/ ديسمبر 2023.
خضعت هناك لخمس جلسات علاج بالجرعات الكيميائية على ثلاث مراحل وسلسلة من العلاجات التي استلزمت إنفاق مبلغ مالي مقداره 15 ألف دولار أميركي، “إلا أن وضعها لم يتحسّن” كما يقول. فعاد بها الى العراق ليستكمل علاجها في مركز الأورام السرطانية في مستشفى الصدر التعليمي بالبصرة، حيث خضعت مذاك إلى 11 جلسة لتلقّي الجرعات الكيميائية.
يقطع ناجي 45 كم أسبوعياً رفقة والدته من المنزل الى مركز الأورام السرطانية، ليحصل لها على الجرعة الكيميائية. وبسبب الزحام هناك، يضطران للانتظار بين 8 إلى 10 ساعات في كل مرة.
يقول بشيء من الاستياء: “عدم توافر العلاجات في المركز يضطرني لشرائها من الصيدليات الخارجية بمبلغ 50 ألف دينار (30 دولاراً). كما أضطر لشراء حقن المناعة بمبلغ 35 ألف دينار لكل حقنة واجراء فحوصات PET Scan في منطقة بريهة بمبلغ 700 ألف دينار (450 دولاراً) بسبب وجود جهاز واحد فقط في مركز الأورام، يستقبل 10 حالات يومياً فقط، وفي أحيان كثيرة يتوقّف عن العمل” وفقاً لما يقول.
قصة والدة ناجي، واحدة من بين مئات القصص المشابهة في البصرة، لمصابين بأمراض سرطانية بلغت أعدادهم بين عامي 2004 و2022 عشرات الآلاف، تربط مصادر طبية وبيئية وبرلمانية إصاباتهم بتأثيرات النفايات الإشعاعية والمخلفات الحربية وملوثات العشرات من منشآت استخراج النفط التي لا تراعي المتطلبات البيئية.
يسلّط هذا التحقيق الضوء على تصاعد الإصابات السرطانية في مناطق محافظة البصرة التي يزيد عدد سكانها عن ثلاثة ملايين نسمة، بسبب التلوّث الحاصل نتيجة عمليات استخراج النفط والمخلّفات الإشعاعية الأخرى، وفقاً لمتخصصين.
شحّ مزمن في العلاجات والأدوية
أبو أحمد الشغانبي، موظف في دائرة كهرباء البصرة، يقول إنه فقد ثلاثة من أفراد عائلته نتيجة الإصابات السرطانية. يغالب دموعه وهو يستعيد ذكراهم، إذ توفي ابنه أحمد عام 2013 متأثراً بورم سرطاني خبيث في رأسه.
وفي عام 2019، توفيت ابنته رقية (6 سنوات) بالمرض ذاته، وفي العام نفسه توفي ابنه حسن وهو بعمر الثلاث سنوات بسرطان أصاب رأسه كذلك. ولم تنتهِ قصة الشغابي المأساوية عند هذا الحد فقط، إذ تبين في شباط/ فبراير2024، أن ابنته حميدة (5 سنوات) مصابة بسرطان الغدد اللمفاوية، وهي تخضع للعلاج حالياً في مستشفى الوارث بمحافظة كربلاء، واكتشف بعدها بأسابيع إصابة طفلته الصغرى أم البنين وهي بعمر السنتين فقط، بتورّم في الغدة النخامية.
تأخذه لحظة شرودٍ قبل أن يؤكد خضوع ابنته حميدة لـ15 جلسة تلقّي جرع كيميائية في مستشفى الوارث، ويوضح :”تتلقى حقن كيميائية على مدى أربعة أيام في الأسبوع، وبعدها تُمنح استراحة لمدة أسبوع، ومن ثم يعطونها حقناً أخرى، وأم البنين كذلك ترقد في المستشفى ذاته وتتلقى العلاج”.
يتهم الشغابي الحكومتين المحلية في البصرة والمركزية في بغداد بالتقصير، لعدم توفيرهما العلاجات الأساسية في المراكز السرطانية، وإهمال ذوي المصابين، “فيضطر الكثير منهم إلى بيع منازلهم وكل ما يمتلكونه لتغطية تكاليف معالجة مرضاهم” يقول منفعلاً.
ندرة الأدوية السرطانية الفعالة واستغلالها من الفاسدين في تجارة الأدوية السرطانية، تؤكدها عضوة لجنة النزاهة النيابية عالية نصيف، التي تقول إن جزءاً من رؤوس الأموال العائدة الى سياسيين بارزين (لم تسمّهم بالاسم) “وُظِّف عبر شركات خاصة لافتتاح معملين لصناعة الأدوية السرطانية في البلاد، وهي قائمة على استيراد العلاجات من الهند وإيران ثم تغليفها على أنها عراقية الصنع”. ووصفت المعملين بأنهما “مشروعان لقتل المرضى”، في إشارة إلى شكوك في جودة الأدوية.
يلفت رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي، الى حاجة البلاد الى أجهزة متطورة في التشخيص وضرورة تغطية النقص الحاد في العلاج الإشعاعي في الكثير من المراكز الطبية، بسبب ارتفاع أعداد المصابين. كما يؤكد وجود شحّ كبير في علاجات الأمراض السرطانية والبيولوجية وارتفاع تكاليفها.
يتابع شنكالي قائلاً: “في موازنة العام 2023، خصّصت الحكومة 200 مليون دولار لشراء الأدوية السرطانية، كما خصصت قرابة 250 مليون دولار لتغطية بعض المتطلبات من خلال النفقات الحاكمة، وهذه المبالغ غير كافية ولا ترقى الى معاناة الناس وحاجاتهم مقابل حجم الإصابات المتزايد”.
ويلفت إلى أن شركات الصناعة الدوائية المحلية لا تسد سوى 15 في المئة من الحاجة للأدوية السرطانية، وذلك بسبب “الخسائر التي تكبدتها تلك الشركات مثل شركة سامراء للأدوية التي خسرت خلال أول 10 أشهر من عام 2022 ما مجموعه 31 مليار دينار”.
تقدّم وزارة الصحة خدماتها في أربعة مراكز لعلاج الأورام السرطانية للأطفال، أحدها في البصرة، وخمسة مراكز للعلاج الإشعاعي، و23 مركزاً للعلاج الكيميائي في عموم العراق، وهو ما يراه أطباء ومتخصصون غير كافٍ.
ويطالبون بوضع خطط قصيرة وطويلة المدى، للوقاية من السرطان عبر تقليل المسببات، فضلاً عن الاهتمام بالمصابين من خلال توفير العلاجات والأدوية والأجهزة المطلوبة بدلاً من تحميل ذوي المرضى تكاليفها الباهظة واضطرار الكثيرين منهم للسفر إلى خارج البلاد لتلقّي العلاج.
خروقات بيئيّة
في العام 2018، أجرت المنظمة الألمانية لحقوق الإنسان التي تتخذ من محافظة البصرة مقراً لعملها، زيارة ميدانية لمناطق قضاء المدينة شمال البصرة للوقوف على ما تعانيه تلك المناطق من “ارتفاع لافت” في معدلات الإصابة بالسرطان ونسب التلوّث.
وفقاً لما يقوله رئيس المنظمة الخبير البيئي د. سعد الجبوري، سجلت المنظمة 1200 حالة سرطانية في مناطق شمال البصرة خلال ثلاثة أشهر فقط، وهي مدة بحث ميداني أُجري في 2018. ويربط ارتفاع نسب السرطان بين الأهالي، بتفاقم الملوثات الهوائية المنبعثة من الحقول النفطية في تلك المناطق.
يؤكد الجبوري تسجيل متخصصين في المنظمة ارتفاعاً في نسب الكربوهيدرات التي تخرج من الشعل النفطية “بتركز مرتفع جداً مقارنة بالمحددات البيئية، بما تحمله من تأثير على صحة الإنسان”، مبيناً أن الأمر هذا ما زال قائماً.
ويتابع :”لاحظنا أن الشركات النفطية لا تبعد منشآتها الاستخراجية مسافة 15 كم عن المدن السكنية كما هو معمول به في دول العالم، بل العكس فإن بعض الشركات تبعد 4 كم أو أقل عن التجمعات السكنية التي تضم من 750 ألفاً الى مليون نسمة، ولذلك لا يستبعد ارتفاع نسب الإصابة مع ارتفاع تركيز الملوثات النفطية في الهواء والتربة”.
ويبدي الجبوري مخاوفه من أن عدم معالجة الانبعاثات الغازية والتلوث الناتج من استخراج النفط خلال الــ 15 سنة المقبلة، وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه اليوم بعدم استخدام التقنيات الحديثة، قد يؤدي إلى ارتفاع نسب الأمراض السرطانية بنحو 60 في المئة بين سكان المحافظة.
إحصاءات متضاربة
سجلت محافظة البصرة منذ عام 2004 ولغاية عام 2022 وفقاً لعضو مجلس النواب السابق حيدر المنصوري، أرقام إصابات مرتفعة بالسرطان بلغت 27397 إصابة، قال إنها مسجّلة لدى وزارة الصحة، وإن هناك قرابة 40 ألف إصابة لم تسجّل في المحافظة، لأن أصحابها قصدوا في غالبيتهم مستشفيات خارج البصرة لتلقّي العلاج.
فيما يقول عضو مجلس النواب أحمد الربيعي أن أعداد إصابات السرطان وصلت إلى 31392 من 2004 لغاية عام 2022، وأبرزها سرطان “القولون والمثانة والغدد اللمفاوية وسرطان الثدي”.
وينبّه الربيعي إلى أن معدل حالات الوفيات في مركز الأورام بمستشفى الصدر التعليمي بسبب السرطان، يصل إلى 60 حالة شهرياً، بعضها يرتبط بـ”نقص الأدوية الخاصة بعلاج هذا المرض” كما يقول.
وهنالك في العراق من يعتقد أن الأرقام أكبر بكثير مما تعلنه وزارة الصحة، من بين هؤلاء مهدي التميمي، مدير المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، الذي ذكر في تصريح صحافي نشر في آذار/ مارس 2024، أن ما بين 9 إلى 10 آلاف حالة سرطان جديدة تسجّل سنوياً في المحافظة.
وتحاول المصادر الرسمية العراقية، التكتّم باستمرار على الأعداد الحقيقية المسجلة، إذ لا يتم الإفصاح عن الأرقام الدقيقة ويظل المتداول منها تقريبياً ولا يخضع للتحديث الشهري أو السنوي، وآخر إشارة في إحصاءات وزارة التخطيط كانت في 2021 بتسجيلها 2858 إصابة بالسرطان في تلك السنة بمحافظة البصرة.
معد التحقيق حاول التواصل مع مسؤولين في وزارة الصحة أكثر من خمس مرات، إلا أنهم رفضوا الرد على بعض الأسئلة، بينها ما يتعلق بكشف أعداد الإصابات السرطانية في البصرة، متذرعين بوجود تعليمات عليا تمنع الإفصاح عن أرقامها.
تركيز عالٍ من الملوّثات
كشفت دراسة بحثية لأستاذة الهندسة البيئية في جامعة بغداد د. سعاد العزاوي، نشرتها المجلة العربية للبحث العلمي في قطر عام 2020 تحت عنوان “تقدير مخاطر استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في العراق” عن تعرض سكان البصرة إلى جرعات إشعاعية عالية.
وأفادت الدراسة بأن تلك الجرعات كانت أعلى بنحو 200 مرة من الجرعة الإشعاعية السنوية التي يتلقاها أي شخص في مكان طبيعي بالعالم، والتي لا تتجاوز 2.4 ملّي سيفَرت (رمزها Sv، هي وحدة لقياس جرعة الإشعاع المكافئة).
ووفقاً للدراسة، فقد بلغ إجمالي الجرعة الفعالة التي تعرض لها السكان في قضاء الزبير وغرب مدينة البصرة بحدود 268.6 ملّي سيفَرت، وقرابة 167 ملّي سيفَرت في مدينة صفوان المحاذية للكويت، بسبب اليورانيوم المنضب الذي استخدمته القوات الأميركية والبريطانية خلال حرب الخليج الأولى 1991، إذ تعرضت مناطق مأهولة بالسكان كالزبير والطريق الدولي وحقول غرب القرنة وجبل سنام، إلى عمليات قصف بالقذائف المشعّة.
ووفقاً لما يقوله المزارع خضير حنون، من منطقة جبل سنام جنوب غرب الزبير بمحافظة البصرة، فإن “المئات من الآليات المُدمرة بالقصف كانت بالفعل متروكة قرب القرى والمناطق العشوائية، ولجهل الناس بمخاطرها تعرضت الى عمليات تفكيك وسرقة أجزاء منها وبيعها في أسواق الخردة، إضافة الى لهو الأطفال بها في المناطق القريبة، ما عرّضهم مباشرة لخطر الإصابة بالسرطان”، مضيفاً أن أحد أبنائه البالغ 10 سنوات “أصيب بورم في رأسه اتضح في ما بعد أنه إصابة سرطانية، وما زال إلى الآن يتلقى جرعات علاجية”.
وللاستيضاح عن حجم الملوّثات المشعّة في محافظة البصرة بسبب الحروب والصواريخ المنضبة باليورانيوم التي سقطت فيها ومصادر التلوث الإشعاعي الأخرى، تواصل معد التحقيق مع الباحثة الدكتورة سعاد، فقالت إن القوات الأميركية “استخدمت الأسلحة الملوثة بمحتواها الإشعاعي مرتين: أولهما خلال حرب الخليج 1991، إذ أطلقت أكثر من مليون قذيفة على مناطق غرب البصرة، يتراوح وزنها بين 320 ــ 500 طن من اليورانيوم المنضب، والثانية كانت خلال غزو واحتلال العراق عام 2003”.
وعن مدى خطورة المخلّفات المشعّة تلك على حياة الناس، تقول إن ذلك يعتمد على “شدة ومدة التعرض والمسافة”، بالإضافة إلى “صحة ومناعة الأشخاص الذين يتعرضون لتلك المخلفات”.
وتشير إلى أن سكان البصرة تعرضوا لتركيز عالٍ من أكسيد اليورانيوم الذي استُخدم أثناء القصف الجوي والبري في تلك الحربين، ونتيجة هبوب العواصف الترابية المحمّلة برماد تلك العناصر، استنشقها السكان بدرجات متفاوتة لتستقر في أجسادهم.
تؤكد الدكتورة سعاد أن سكان البصرة يتعرضون دوماً لجرع إشعاعية إضافية مع كل عاصفة ترابية تنقل مزيداً من هذه الملوثات من الدبابات وناقلات الجنود التي تركت في العراء، أو من التربة التي تضمّها، بعد تعرضها للقصف بالقذائف المشعة.
من جهته، يربط الدكتور صالح البكري، المتخصص بالطب الباطني وأمراض الدم، بين تلك الملوثات والتعرض لخطر الإصابة بالأمراض السرطانية، مبيناً أن المعدات التي تعرضت لقصف بقذائف منضبة باليورانيوم “تولد انبعاثاً ينتشر في الجو يحتوي على أكسيد اليورانيوم المشع، وينتقل الى مسافات واسعة، وعندما يستنشق الإنسان ذلك الأكسيد تخترق جسيماته الدقيقة (نانو) غشاء الحويصلات الرئوية وصولاً إلى مجرى الدم وتدخل إلى بقية خلايا الأعضاء الداخلية”.
ويضيف: “تقوم أيونات اليورانيوم المنضب بالتبادل الأيوني في جسم الإنسان مع المغنيسيوم في خلايا الأعضاء، ما يؤدي إلى تدمير قابلية الجسم على الإصلاح وتعويض الخلايا التالفة. ونتيجة لذلك، يصاب الجسم بالأمراض المزمنة والأورام السرطانية، كذلك تعترض الشوارد الحرة المنتشرة في الخلايا عملية تصنيع وطي بروتينات الجزيئات الخاصة بتكوين (الـ DNA)، ما قد يؤدي الى إحداث خلل جيني متوارث عند المصابين”.
وينبّه الى أن الكثير من تلك الآليات لا يزال في العراء بالبصرة، ولم يتم رفعه لغاية الآن. وبحسب مصدر في محافظة البصرة، فإن ما يؤخر رفعها هو الخلاف بين الإدارة المحلية في البصرة والحكومة الاتحادية بشأن نفقات وطرق رفعها ومواقع طمرها.
عوامل وأسباب أخرى
يؤكد متخصصون في مجال حماية البيئة، أن معدلات الإصابة بالسرطان ارتفعت بسبب “التلوث الإشعاعي الخطير” إثر استعمال الولايات المتحدة وحلفائها، ذخائر مصنعة من اليورانيوم المنضب ضد أسلحة الجيش العراقي الثقيلة في جنوب البلاد وعلى الحدود السعودية، الى داخل المدن بعد 2003، وهو العام الذي شهد سقوط النظام العراقي السابق.
وبحسب مصدر مطلع في بيئة البصرة، فإن هنالك 26 موقعاً ملوثاً في مناطق الدرهمية والهوير والرميلة وأبي الخصيب والبرجسية والقرنة وجبل سنان والفاو وغيرها من مناطق البصرة.
ووفقاً لمفوضية حقوق الإنسان في البصرة، فإن القوات الأميركية استخدمت خلال حرب الخليج الثانية 2003 أكثر من 900 طن من الصواريخ المنضبة باليورانيوم، فيما كانت حصة البصرة لوحدها قرابة 200 طن من تلك الصواريخ، وما زالت آثارها البيئية المدمرة ماثلة حتى اليوم.
رئيس الهيئة العراقية للسيطرة على المصادر المشعة (هيئة تابعة إلى مجلس الوزراء) د. كمال حسين الربيعي، يقول إن الهيئة سجلت أنواعاً عدة من الأمراض السرطانية الناتجة من المخلفات المشعة بين سكان البصرة، “كسرطان الرئة الناجم عن استنشاق الهواء الملوث بالمواد المشعة، وسرطان الكِلية والأمعاء الذي يحصل عبر دخول اليورانيوم إلى داخل الجسم عن طريق تناول بعض الأطعمة والخضار المزروعة في أماكن ملوثة، إضافة إلى أنواع أخرى ناتجة من أبخرة الاستخراجات النفطية، كبخار الزئبق والمغنيسيوم، وأبخرة المعادن والكبريت القاتلة، والأتربة الملوثة المستخرجة من الآبار”.
ويضيف إلى ذلك مخلفات البحث وإنتاج النّفط الخام في العراق “كمتطلبات المسوحات والاستكشافات وحفر الآبار وحقن التربة الذي تصاحبه بعض الغازات السامة كالغاز الحامضي وغيره، والذي يعد من الغازات الخطرة على صحة الإنسان لاحتوائه على نسب عالية من الكبريت”.
وينبه الربيعي إلى أن سكان المنازل القريبة من الحقول النفطية “هم أكثر الناس عرضة للإصابة بمخاطر تلك الغازات”، داعياً الحكومة المحلية إلى استقدام متخصصين بمعالجة النفايات على نحو سريع للقيام بطمرها في مخازن نووية تحفر في الأرض، لا يقل عمقها عن 10 أمتار، ثم تُردم بمواد خرسانية، وتُغطى بالتراب.
ويشدد على ضرورة أن تكون تلك المخازن بعيدة عن المناطق السكنية بما لا يقل عن 150كم، وهو ما يتوافق مع رأي المتخصصين في الهيئة العراقية للسيطرة على المصادر المشعّة.
وكانت عضوة مجلس النواب زهرة البجاري، أعلنت في العام 2022 عن وجود 1,3 مليار متر مربع من الأراضي الملوثة بالألغام والمقذوفات الحربية في محافظة البصرة، وقالت إنها متركزة في أقضية الزبير، الفاو، وشط العرب.
إقرار حكومي بالخطر
في 21 آب/ أغسطس 2023، اتهم ديوان الرقابة المالية في تقرير له، شركات أجنبية مسؤولة عن استخراج النفط بتسبّبها بزيادة أعداد الإصابات السرطانية في البصرة ومدن أخرى، نتيجة ارتفاع تركيز الهيدروكربونات غير الميثانية الوثيقة الصلة بالأمراض السرطانية في جميع نقاط الرصد في حقول البصرة، بشكل يتجاوز الحدود المسموحة.
وجاء في التقرير، أن “العمليات الاستخراجية النفطية تطرح في الهواء ملوِّثات بيئية ناجمة عن حرق الغاز المصاحب للوقود الأحفوري المستخرج، إذ أحرقت شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة للحقول في المحافظة ما نسبته (54،52،53) في المئة من الغاز المصاحب في السنوات (2019، 2020، 2021).
وينبّه الى أن ذلك أدى إلى إطلاق مركبات كيمياوية خطرة في الهواء وبتركيز عالٍ، تسببت بإصابات سرطانية بين السكان، لا سيما في مركز المحافظة التي تتصدر أعداد الإصابات بمعدل 76.3 شخص لكل 100 ألف في العام 2020.
ويكشف التقرير عن أن المناطق الأعلى تلوثاً هي الزبير ثم القرنة، وفقاً لدراسة بحثية منشورة في عام 2021 أجرتها جامعة ميسان عن “تأثير ملوِّثات الهواء بالهيدروكربونات ماعدا الميثان، على زيادة أعداد المصابين بالأمراض السرطانية، لا سيما سرطان الرئة والمثانة”.
ويؤكد التقرير “ارتفاع تراكيز الهيدروكربونات غير الميثانية الوثيقة الصلة بالأمراض السرطانية في جميع نقاط الرصد بحقول نفط البصرة بشكل يتجاوز الحدود المسموح بها وفق المحدد الوطني البالغ (0.24 PPM لكل 3 ساعة)، إذ وصلت في حقل الرميلة الجنوبي إلى (2.058 PPM لكل 3 ساعة).
ويشير التقرير الى عجز في عمليات قياس التلوث، يتمثل في توقُّف جميع محطات مراقبة نوعية الهواء وأجهزة قياس ملوِّثات الهواء الحقلية التابعة لمديرية بيئة البصرة، والبالغة 17 محطة منذ العام 2019 و7 أجهزة أخرى منذ العام 2013، “ما أثر سلباً في تشخيص الواقع البيئي وتحديد تراكيز الملوثات”.
ويوصي بإحالة ملف التلوث البيئي إلى مجلس الوزراء لعدم التزام شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة بأحكام المادتين (9 و21) من قانون حماية وتحسين البيئة، والعمل على استثمار الغاز المصاحب ووقف حرقه للاستفادة من مردوده الاقتصادي وتقليل التلوث الناتج منه. إضافة إلى إلزام شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة للحقول وحسب بنود عقود الخدمة النفطية، بتجهيز جميع محطات الحقول بمشاعل وعازلات وقانصات حديثة وكفوءة، مع إلزام المشغِّل الأجنبي بتوفير المعالجات المقلِّلة للتلوث.
من جهة أخرى، يؤكد تقرير ديوان الرقابة وقوع العراق ضمن الدول العشر الأكثر تلوثاً للهواء، نتيجة لانبعاث الملوثات الغازية الناجمة عن عمل الحقول النفطية، وما ينتج منها من آثار سلبية على صحة المجتمع. إذ سجلت تقارير مجلس السرطان العراقي ارتفاعاً مستمراً بنسب الإصابات بالأمراض السرطانية سنوياً، فقد ارتفعت من 73.3 إصابة في 2015 إلى 81.34 إصابة في 2019 لكل مئة ألف نسمة.
إلى ذلك، يشخّص مدير بيئة البصرة كريم عبد رخيص، ما يسميها “فجوة كبيرة بين بنود عقود شركة نفط البصرة وشركات التراخيص الأجنبية وبين ما يحدث على أرض الواقع”، مبيناً أن “هناك ما يزيد عن 600 مشعل تحيط بالبصرة تمثّل مصادر تلوّث”.
لجنة الصحة والبيئة في مجلس محافظة البصرة، اتهمت هي الأخرى الشركات النفطية بالوقوف وراء 70 في المئة من حالات الإصابة بالسرطان وأمراض الكلى والربو وغيرها المسجّلة في المحافظة، وذكر رئيسها علي العبادي أن هنالك مقترحاً لتشكيل صندوق لمعالجة الأمراض التي تنتج من ذلك.
شكاوى ضد الشركات النفطيّة
في آب 2021، تبنت المنظمة الألمانية لحقوق الإنسان في محافظة البصرة، مقاضاة الشركات النفطية الأجنبية العاملة شمال البصرة، ومنها شركة (لوك أويل الروسية)، وقد رفعت 54 دعوى قضائية، لكن سرعان ما أغلق الملف في محكمة استئناف البصرة الاتحادية بسبب تهديدات مسلّحة تعرض لها فريق المحاماة وفق ما يقول رئيس المنظمة سعد الجبوري.
حصل معدّ التحقيق على وثيقة إنذار صادرة من كاتب العدل بمنطقة الجمعيات في البصرة مؤرخة بتاريخ 6 نيسان/ أبريل 2021، إلى شركة (لوك أويل الروسية) تقدم بها 6 أشخاص متضررين من السرطان، عبر المحامي صلاح عبد الحسن الإمارة، مطالباً الشركة بدفع مبلغ تعويضي لكل شخص من هؤلاء مقداره مليار و500 مليون دينار عراقي.
الإنذار الموجّه الى الشركة حمّلها المسؤولية عن إصابة عدد من سكان البصرة بالأمراض السرطانية ووفاة بعضهم جراء التلوث البيئي نتيجة احتراق النفط بسبب العمليات الاستكشافية وحفر الآبار في حقل غرب القرنة/1 وغرب القربة/2 من دون اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة، وهو ما يتعارض مع قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009.
وتتعرض منطقتا المدينة والقرنة لملوثات محصورة بثلاث شركات نفطية أجنبية، هي لوك أويل الروسية وإكسون موبيل الأميركية، بينما تعمل بي بي البريطانية في حقول الزبير والرميلة والشعيبة غرب البصرة.
الى ذلك، يؤكد الخبير القانوني كرار صالح، مسؤولية الدولة “بإزالة التلوث وفقاً للقوانين النافذة والمواد الدستورية”، مبيناً أن “المادة 33 من الدستور العراقي أكدت مسؤولية الدولة بتوفير بيئة سليمة وملائمة للعيش وحماية المواطن من مختلف الأمراض الناتجة من التلوث البيئي”.
ويعتقد الخبير القانوني بأحقية إقامة محافظ البصرة دعوى في المحكمة الاتحادية أو المحكمة الإدارية لمقاضاة الحكومة الاتحادية وإلزامها بتعويض المصابين وأصحاب الأراضي المستملكة، سواء للأغراض النفطية أو تلك التي اتخذت كمقابر أو مراكز لتجميع الآليات الحربية المدمرة”.
نقص الإمكانات الطبّية
رغد مجيد (39 سنة) من مدينة البصرة، مصابة بسرطان الثدي، وتشكو من تأخّر حصولها على جرعة الكيماوي بسبب عدم توافرها في صيدلية مركز الأورام بالبصرة، على الرغم من أنها كانت حصلت بالفعل على عدد من الجرعات في المركز قبل ذلك.
زوج رغد هجرها فور علمه بإصابتها بالمرض، وهي تعتمد على المساعدات المالية الخيرية لتوفير علاج ibrance الأميركي الذي يبلغ سعر العلبة الواحدة منه 900 دولار، وتعتمد في البعض الآخر من علاجها على مناشئ محلية وإيرانية، والأخيرة علاجات بجودة أقل وأحياناً تكون “غير فاعلة” وفقاً لما سمعته رغد من أطباء متخصصين.
يضطر ذوو المصابين إلى مراجعة الصيدليات الخاصة للحصول على غالبية الأدوية والعلاجات، بسبب عدم مقدرة المستشفيات الحكومية على توفيرها بكميات كافية. كما أن تلك المستشفيات متهالكة المرافق الخدمية ويعاني مراجعوها من تأخر تقديم العلاجات، بحسب عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي، الذي يقول إن “نسبة ما توفره الدولة من علاجات للأمراض السرطانية في الوقت الحالي لا تتجاوز الـ 10 في المئة”.
ومع أن الدولة ملزمة بتوفير بيئة طبية مناسبة للمصابين بالسرطان، إلا أن الواقع المأساوي كما يصفه الغرابي يجبر الكثيرين على اللجوء إلى المستشفيات الأهلية، ويتخلى عدد غير قليل منهم بعد فترة عن متابعة جلسات العلاج في تلك المستشفيات لعدم قدرتهم على تحمّل تكاليف الاستشفاء غالية الثمن فيها، “لتعقبها انتكاسة صحية للمرضى يصعب التعافي منها”، يضاف الى ذلك كله “الغلاء الفاحش في أسعار علاجات الأمراض السرطانية”، بحسب الغرابي.
ويضيف، أنه مع سريان العمل بقانون الضمان الصحي الذي أُقرّ في الدورة البرلمانية السابقة، والذي ألزم الدولة بتحمّل ما نسبته 70 في المئة من علاجات مرضى السرطان، إلا أن موازنة وزارة الصحة لعام 2023 لم تبلغ سوى 10 تريليونات دينار، خُصص منها تريليون و600 مليار دينار لمختلف العلاجات، بما فيها السرطانية، “وهذه الأرقام المحدودة تعني أن الدولة تتحمّل ما نسبته 30 في المئة فقط من قيمة العلاجات تلك، ويدفع المرضى أو ذووهم ما يتبقى من نفقتهم الخاصة”.
انحسار الأدوية السرطانية في مركز سرطان البصرة، يؤكدها محمد المنصوري رئيس منظمة أهل الخير، التي تتبنى توفير بعض علاجات مرضى السرطان، مشيراً الى ارتفاع أسعار العلاجات، ما يصعب حصول المرضى الفقراء ومحدودي الدخل عليها.
وبحسب المنظمة، فإن بعض العلاجات متوافرة في مركز الأورام بمستشفى الصدر التعليمي، لكنها لا تكفي لسد حاجة المصابين في المحافظة، فيحصل تأخير في تأمينها للمرضى، ما يضطر بعضهم لشرائها من الأسواق.
ويوضح المنصوري أن بعض المرضى يحتاجون يومياً إلى ما لا يقل عن أربع حقن مناعة، سعر الواحدة منها 35 ألف دينار، وبعض العلاجات تتراوح أسعارها من 600-900 دولار، فيضطرون للجوء إلينا، “فنعمل على تأمينها عن طريق تبرعات المحسنين”.
يعزو الدكتور أحمد رمزي، مدير قسم استيراد الأدوية في وزارة الصحة، قلة تجهيز الأدوية للمستشفيات، إلى قلة التخصيصات المالية، “خصوصاً المتعلقة منها بعقود الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية كيماديا”.
لمعالجة المشكلة، افتتحت الوزارة حديثاً خطوطاً إنتاجية جديدة في المصانع الوطنية لإنتاج الأدوية السرطانية، وتم ذلك الأمر من خلال تخصيص الحكومة الاتحادية قروضاً مالية لتلك المصانع.
يقول د. رمزي: “تعاقدنا مع تلك المصانع لتجهيزنا بـ183 مادة دوائية منها أدوية السرطان، وهي أدوية أثبتت فعاليتها بالتحليل”. ويستطرد: “كما نحصل على جزء غير قليل من أدوية السرطان، من خلال ما تمنحه منظمات إنسانية دولية”.
مخاطبات لتخفيف التلوث
تظهر وثيقة صادرة في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2018 عن دائرة الدراسات والتخطيط والمتابعة في وزارة النفط، مطالبتها شركة نفط البصرة بالإيعاز إلى هيئة تشغيل حقل غرب القرنة/2 لاتخاذ ما يلزم لتخفيف الآثار الناتجة من الأنشطة النفطية في الحقل “واتباع الطرق الحديثة في كل مراحل إنتاج النفط الخام ومعالجة المخلفات الناتجة منه، والالتزام بخفض الانبعاثات الملوثة الناجمة عن الأنشطة النفطية”.
أجرى فريق من دائرة البيئة في محافظة البصرة مطلع كانون الأول 2018، زيارة ميدانية إلى منطقة “شلهة كباشي” في قضاء الهوير شمال المحافظة، وسجّل خرقاً في المسافة التي يجب أن تكون بين المناطق السكنية وحق غرب القرنة بمسافة 4 كم، الى جانب ارتفاع تراكيز الملوثات الغازية (NOx-THC-NMHC)، كما تكشف وثيقة حصل عليها معد التحقيق.
وتثبت وثيقة أخرى صادرة عن وزارة البيئة في آب 2019 ارتباط الملوثات الغازية بارتفاع نسب السرطان في البصرة، وتؤكد تأثير ملوثات (مجموع الهيدروكرونات THC، والهيدروكربونات عدا الميثان NMHC) على الرئتين والمجاري التنفسية، مبينة أنها تكون سامة جداً، وقد تسبِّب أمراضاً سرطانية عند التعرض لها لفترات طويلة.
وفي ما يتعلق بأكاسيد النتروجين NOx، فهي أيضاً غازات خطرة جداً على الصحة، بحسب ما ورد في الوثيقة، وتسبّب التسمم عند استنشاقها وتحسّس الأغشية المخاطية للمجاري التنفسية، والتهابات في الرئة، وتهيجاً في العين، وتؤدي الى حدوث الأمطار الحامضية، بالإضافة إلى تأثيرها بشكل سلبي على طبقة الأوزون.
في 23 شباط/ فبراير 2019، وجّه عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة، فالح الخزعلي، كتاباً من وزارة الصحة والبيئة الى دائرة صحة البصرة، عنون موضوعه “تقرير دراسة العوامل البيئية لمرضى السرطان”، وتضمن الإشارة الى وفاة عدد من مواطني منطقة الهوير، شمال البصرة، بسبب إصابتهم بأمراض سرطانية.
ويشير النائب في الكتاب الموجّه الى دائرة التنسيق الحكومي لشؤون المواطنين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، الى مسؤولية الشركات النفطية العاملة في البصرة عن حالات الوفاة تلك.
فيما قدم عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة علاء الحيدري، في 29 كانون الثاني/ يناير 2024، إخباراً إلى جهاز الادعاء العام، أبلغ فيه عن قيام مراكز الأورام في مستشفى الصدر التعليمي، ومستشفى البصرة التخصصي للأطفال، بتصريف مخلفات الأدوية السرطانية الى محطة المعالجة البيولوجية مباشرة من دون معالجتها معالجة خاصة وفق المتطلبات الصحية، منبهاً أن تلك المخلفات تشكل مصدر خطر كونها تتسبّب في إحداث طفرات وراثية وتشوهات خلقية وسرطانات في الخلايا الحية إذا لم يتم معالجتها بالشكل الصحيح.
عضو مجلس النواب عدنان الجابري، عرض شرحاً مفصلاً لرئاسة مجلس النواب في عام 2022 عن ارتفاع معدلات الوفيات والإصابة بالسرطان في المحافظة نتيجة الانبعاثات المصاحبة لعمليات استخراج النفط وتكريره فضلاً عن تلوث المياه والتربة بسبب المخلفات الحربية، فيما قدم طلباً إلى الرئاسة موقعاً من 55 نائباً تضمن إنشاء صندوق لإعانة مرضى السرطان في البصرة في ظل تزايد أعدادهم “بشكل مخيف” وارتفاع متطلبات علاجهم.
وفي نيسان/ إبريل 2023، وجه عضو مجلس النواب أسامة البدري، طلباً إلى وزارة البيئة لغرض إرسال فريق متخصص من دائرة بيئة البصرة للوقوف على أسباب ارتفاع الإصابات السرطانية وبنحو ملحوظ في منطقة الشاهين بقضاء القرنة، مؤكداً أن “المنطقة فيها مخلفات حربية سابقة وحقل نفطي قريب من المجمعات السكنية على بعد كيلومترات”.
وفي وثيقة أخرى صادرة عن النائبة فاطمة عباس الحاوي في 31 آب 2023، أكدت ارتفاع نسب الإصابات السرطانية في البصرة بسبب التلوث البيئي جراء الاستخراجات النفطية والحروب السابقة، وطالبت بتخصيص قطع أراضٍ للمصابين كتعويض.
لكن جميع تلك المخاطبات والجهود الرسمية عجزت عن تحقيق تحرك حكومي فاعل لإنهاء أو تخفيف مصادر التلوث ووقف الخروقات الحاصلة للقوانين البيئية والصحية وللعقود الموقعة مع الشركات النفطية. كما لم يحصل تحرك جدي لمساعدة ضحايا الأمراض السرطانية، حتى بات خطر الموت بالسرطان يلاحق كل البصريين ويثير رعبهم بنحو دائم، وفقاً لأطباء ونواب وناشطين مدنيين هناك.
وفي خضم تلك المخاطبات والوثائق الرسمية التي تبين ارتباط الملوثات النفطية بارتفاع نسب الإصابات السرطانية، باشر حسين جلود (55 عاماً)، والد الشاب علي الذي توفي بسرطان الدم وهو في الحادية والعشرين من عمره، في نيسان 2023، بإجراءات رفع دعوى قضائية ضد شركة بريتيش بتروليوم، باعتبارها المقاول الرئيسي لحقول الرميلة النفطية غرب محافظة البصرة، والتي يتهمها بتلويث المنطقة التي يسكنها مع عائلته بالغازات السامة.
يقول جلود، وهو موظف حكومي، إن ولده علي دخل مستشفى الأورام السرطانية بالبصرة في 17 تموز/ يوليو 2017 لتلقّي جرع الكيماوي، لكنه اضطر بسبب ارتفاع تكاليف العلاجات غير المتوافرة في المركز، إلى بيع منزله ومصوغات زوجته وسحب قرض مالي من أحد البنوك العراقية.
ويضيف بنبرة ألم: “حاولنا فعل كل شيء لإنقاذه لكننا في النهاية فقدناه، كلفتنا متطلبات علاجه أكثر من 170 مليون دينار (129 ألف دولار)”.
ويتابع متذكراً، أن رئيس شركة نفط البصرة منحه مبلغاً مالياً مقداره أربعة ملايين دينار تعادل (أكثر من 3000 دولار) ووعدته شركة بريتيش بتروليوم بدفع تعويض مالي “لكن وعودهم ذهبت أدراج الرياح، الأمر الذي دفعني الى التحرك باتجاه القضاء”.
علي لم يكن الضحية الوحيدة لانبعاثات حقول النفط في الرميلة، كما يقول والده: “أنا على علم بإصابة 15 آخرين بأمراض سرطانية، عشرة منهم توفوا، وهنالك حالات تشوّه خلقي لمواليد جدد، وأمراض أخرى تنفسية وجلدية”.
يصمت للحظات، قبل أن يشد قبضتي يديه ويضيف: “سيري في الدعوى هو بالنيابة عن الجميع، لكي لا يموت المزيد من الناس كما حدث مع ابني علي، ولتتم مساعدة المصابين على تلقّي العلاج المناسب… من الظلم تركهم يعانون ويغرقون في دوامة البحث عن العلاج”.
أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج ودعم cfi